رحيل صندوق أسرار الزعماء.. هل كشف هيكل كل ما عنده؟
ذكاء حاد، ذاكرة حديدية، ثقافة عامة، مهنية عالية، قراءة ما بين السطور، تحليل الأحداث، إمكانية عالية في صناعة العلاقات، قدرة كبيرة في جذب الانتباه، تلك المزايا يتمناها أي شخص، وإن وجدت في أحد ما كفلت له أن يحلق في سماء النجومية.
لعل الإعلامي المخضرم محمد حسنين هيكل، الذي غادر الأربعاء 17 فبراير/ شباط إلى مثواه الأخير واحد ممن اجتمعت فيهم هذه الخصال، حتى طبقت شهرته الآفاق حياً، وسيبقى كذلك لما تركه من آثار في كتب ألفها، وكم كبير من المقالات والحوارات والأحاديث الصحفية.
- صندوق الأسرار
هو "صندوق أسرار الزعماء" الذي انطلق من بوابة الصحافة، محققاً في مقتبل عمره الصحفي إنجازات صحفية كبيرة يحلم بتحقيقها كل عامل في هذا المجال، حتى صار هيكل اسماً يجذب القراء لمتابعة ما يكتبه.
شاب يحمل هذا الكم من الموهبة، كان حرياً بعبد الناصر، زعيم مصر، الذي يحلم الجميع برؤيته، أن يقربه، ليكون عقلاً يُصدر الآراء والمقترحات للزعيم المصري الأشهر، والأخير يزداد ثقة بهذا الصحفي الشاب النابغة.
القرب من دوائر القرار وملازمة الزعماء كان القمة التي تربع هيكل على عرشها، فهو الوطني الغيور الناصح، المهموم بقضايا وطنه مصر والبلاد العربية، ليس تلك الصفات ما يراها فيه عبد الناصر، بل كانت تلك قناعات زعماء العرب وكثير من الدول، التي تأكدت أن هيكل رأسٌ مفكرٌ لا غنى لمن يقود مصر عنه.
الأسرار كنوز لا تقدر بثمن، ورفقة الزعماء تكشف شيئاً من تلك الكنوز، فكيف بهيكل الذي كان في أحيان كثيرة ثاني اثنين، أحدهما زعيم دولة.
وهو الذي كشف عن وثائق لم تُنشر من قبل، وتحدث عن أسرار الحكام العرب والأجانب والمفاوضات السرية والاتفاقات والمعاهدات الدولية والقرارات السرية الممهورة بختم "سري للغاية"، ليصفه كثيرون بـ"الصندوق الأسود" لمصر.
قال فيه أنتوني نانتج، وزير الدولة البريطاني السابق للشؤون الخارجية: إن هيكل "حين كان قرب القمة كان الجميع يهتمون بما يعرفه وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه".
حاور هيكل أغلب الرموز السياسية والثقافية والفكرية في القرن العشرين، منهم عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين، والقائد البريطاني الفيلد مارشال برنارد مونتجمري، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو.
في سبتمبر/أيلول 1981 أمر السادات باعتقال هيكل ضمن حملة شملت 1536 معارضاً حزبياً وصحفياً، ظلوا رهن الاعتقال إلى ما بعد اغتيال السادات في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1981.
هو "شاهد على العصر"، تلك حقيقة محمد حسنين هيكل، وهكذا ظهر لمشاهديه، في برنامجه التلفزيوني الذي حمل العنوان ذاته.
ووفقاً للعلاقات المتينة التي تربطه مع الزعماء، كان لا بد أن يكون هيكل مغنماً لوسائل الإعلام، وللباحثين عن الحقائق والأسرار، التي يجدونه أحد أهم خزنتها، وذلك ما تؤكده الألقاب التي أطلقت عليه، لعل أبرزها "كاتب السلطة" و"صديق الحكام" و"صانع الرؤساء" و"مؤرخ تاريخ مصر الحديث" و"الأقرب" للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
- موقف سلبي من الربيع العربي
الراحل كان لا بد أن يدلو بدلوه من أحداث مهمة شهدها الوطن العربي في سنوات قريبة، كثورات "الربيع العربي"، الذي كان موقفه تجاهها سلبياً، ووقوف بالضد منها بشكل عام، وضد حكم الإخوان الذين أتت بهم تغييرات ثورة 25 يناير في مصر.
وبعد نتائج الانتخابات التي أتت بالإخوان المسلمين طالب هيكل بمنح الرئيس المصري محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين الفرصة ليحكموا البلاد، أول الأمر، إذ تحدث عندما سئل في مقابلة أجرتها معه صحيفة صنداي تايمز البريطانية عن رأيه بمرسي وجماعة الإخوان، بضرورة منح مرسي والحركة الإسلامية التي يمثلها الفرصة، قائلاً: "لقد ظلوا في مسرح الأحداث ردحاً طويلاً من الزمن، وهم يشكلون تياراً يظن البعض أن فيه الخلاص".
وذكرت الصحيفة أن مرسي ما إن انتُخب رئيساً لمصر حتى استدعى هيكل ليتباحث معه بشأن رؤيته لمصر، واستغرق اللقاء زهاء ثلاث ساعات.
إلا أن الرجل ما لبث أن تراجع عن موقفه هذا، ليظهر بعد ذلك في وسائل الإعلام المصرية ضمن موجة النقد اللاذع لحكم مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين، ثم تحدثت تقارير إعلامية عن تقديمه النصح للجيش للانقلاب على الرئيس المنتخب.
وظهر بعد ذلك هيكل عبر قناة تلفزيونية مصرية مؤيداً لترشح السيسي لمنصب رئيس الجمهورية معتبراً إياه رجل المرحلة، معللاً ذلك بأنه يمثل المؤسسة القوية والأكثر تنظيماً، في إشارة منه إلى الجيش.
وانطلاقاً من عهد الملك فاروق مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر وإعلان الجمهورية العربية المتحدة عقب ثورة يوليو/ تموز، ومحادثات الوحدة وحرب الأيام الستة إلى حرب العبور و"نصر أكتوبر"، ثم "كامب ديفيد" والصراع العربي الإسرائيلي وما تلاها من تنازلات، وانهيارات على الصعيدين الداخلي والخارجي وانتفاضة الجياع في يناير/ كانون الثاني 1977.
ووصولاً إلى ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، التي فضح قبلها بأيام مخطط التوريث، الذي كان يُحاك من قبل الرئيس حسني مبارك لنجله جمال، عبر محاضرته الشهيرة في الجامعة الأمريكية، ووصاياه للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي راهن عليه في نقل مصر نوعياً إلى ما كانت عليه تحت حكم عبد الناصر.
كانت خزائن أسرار هيكل تمتلئ، وكان يفرغ منها ما يستطيع؛ بحسب ما يراه هو مناسباً لأن يذاع للعوام؛ لكن هل أذاع هيكل جميع أسراره؟ وإن لم يذع جميعها، ما هي تلك الأسرار التي بقيت حبيسة صدره، وكم تبلغ خطورتها التي أجبرته على عدم افتضاحها؟