مبادرة روجرز الثانية والإنبهار بكيسينجر
تتلخص مبادرة روجرز الثانية فى قبول كل من مصر والأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى الإلتزام بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر ابتداءا من أول يوليو حتى أول أكتوبر عام 1970 على الأقل لتسهيل مهمة جونار يارنج مبعوث الأمم المتحدة فى الوصول إلى اتفاق سلام دائم وعادل بناءا على رغبة الأطراف فى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 بكل أجزائه بما فى ذلك الإنسحاب الإسرائيلى من "أراض" from territories احتلت خلال نزاع عام 1967 ! ،
هذا غير بعض الشروط الأخرى المصاحبة لوقف إطلاق النار سوف نأتى على ذكرها بعد ، وأرسل روجرز برسالة إلى محمود رياض وزير خارجية مصر (المصدر : مذكرات محمود رياض) فى 20 يونيو 1970مرفقا بها المبادرة ، وجاء فى نص الرسالة مايلى :
" أن وزير خارجية إسرائيل أبا إيبان قال أخيرا أن إسرائيل على استعداد لتقديم تنازلات عندما تبدأ المباحثات ، وفى الوقت نفسه فإن المشاركة المصرية فى مثل هذه المحادثات ستؤدى إلى التغلب على التشكك الإسرائيلى فى أن حكومتكم تسعى بالفعل للتوصل إلى سلام معها"
، وقام دونالد بيرجس القائم على رعاية المصالح الأمريكية بالقاهرة بتسليم رسالة روجرز مع نص المبادرة إلى السفير صلاح جوهر وكيل وزارة الخارجية المصرية فى الساعة التاسعة والنصف من صباح يونيو 1970 ، حيث كان وزير الخارجية محمود رياض مصاحبا للرئيس جمال عبد الناصر فى زيارة رسمية إلى ليبيا ثم إلى موسكو للإجتماع مع القادة السوفييت ، كما قام دونالد بيرجس فى الوقت نفسه بتسليم السفير صلاح جوهر مذكرة ملحقة تضمنت بعض التفسيرات والتفاصيل من بينها : "أن تضع الجمهورية العربية المتحدة فى اعتبارها أن الولايات المتحدة تطلب بناءا على مبادرة روجرز من إسرائيل تنازلات سياسية مهمة وخاصة فيما يتعلق بموافقتها على الدخول فى مفاوضات غير مباشرة بدلا من المفاوضات المباشرة ، وموافقتها أيضا على مبدأ الإنسحاب قبل المفاوضات" ، ثم بعثت واشنطن بإضافة شفوية بعد هذه الرسالة بناءا على استفسارات من القاهرة جاء فيها : "إن الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بأن الفلسطينيين يمثلون طرفا مهما يجب أن تؤخذ اهتماماته فى الحسبان عند أى تسوية" .
وبذلك فقد عادت واشنطن إلى التفسير المقبول لدى العرب للقرار 242 باعتباره يتضمن حلا للمشكلة وليس مجرد مبادئ يتم التفاوض بشأنها ، كما عدلت عن تبنى الرأى الإسرائيلى الذى كان ينادى بإصرار على إجراء مفاوضات مباشرة وعن تبنى الرغبة الإسرائيلية فى عمل حل وصلح منفرد مع مصر .
وأعلن جمال عبد الناصر قبوله لتلك المبادرة يوم 23 يوليو فى العيد الثامن عشر للثورة ، حيث وجد أن قبولها أمر ممكن لمجرد إعطاء فرصة للقوات المسلحة لإلتقاط الأنفاس واستعادة كفاءتها القتالية بعد حرب استنزاف متصلة قرابة الخمسمائة يوم . ولم يكن عبد الناصر يعتقد فى نجاح هذه المبادرة ، حيث صرح أمام اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الإشتراكى بأنه لايعتقد بأن يكون لهذه المبادرة أى نصيب للنجاح أمام التعنت الإسرائيلى المتوقع فى تفسير عبارة "الإنسحاب من أراض" وأمام التعنت فى تحديد الحدود الآمنة لها ، وهذا ماقاله أيضا عبد الناصر فى اجتماعه مع بريجينيف يوم 16 يوليو أثناء زيارته للإتحاد السوفييتى . إلا أن القيادة الفلسطينية (المتمركزة بقواتها بالأردن فى هذا الوقت) رفضت تلك المبادرة وسارعت باتهام عبد الناصر والملك حسين بالخيانة ، وتوترت العلاقة بين القوى الفلسطينية والأردن إلى درجة وقوع التصادم المسلح بين الجانبين ، وأكدت القوى الفلسطينية على وحدة الشعب فى الساحة الأردنية الفلسطينية ورفض تقسيم البلاد إلى دويلة فلسطينية ودويلة أردنية . وسارع عبد الناصر إلى إطفاء الحريق ، وتم عقد قمة عربية غير عادية بالقاهرة لوقف إطلاق النار بالأردن بين الفلسطينيين والجيش الأردنى ، وتم إخراج ياسر عرفات من عمان إلى القاهرة ، وانتهت أعمال القمة يوم 27 سبتمبر 1970 ، وفى المساء نقلت وكالات الأنباء خبر وفاة عبد الناصر ، ولم يمتد العمر بجمال عبد الناصر حتى نهاية المدة المحددة لوقف إطلاق النار ، ولم تجد مبادرة روجرز أى فرصة بعد ذلك لكى توضع موضع التنفيذ كما توقع عبد الناصر .
ويقول الجمسى فى مذكراته عن حرب أكتوبر (الطبعة الأولى 1989) بالصفحة 184 : "تقدمت أمريكا بمبادرة سميت "مبادرة روجرز" وتقضى المبادرة التى أعلنتها أمريكا يوم 19 يونيو 1970 بإيقاف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل لمدة 90 يوما ، وأن يستأنف السفير يارنج عمله لوضع قرار مجلس الأمن 242 موضع التنفيذ" .
"وافقت مصر وإسرائيل على قبول المبادرة ، على أن يسرى وقف النيران اعتبارا من الساعة الواحدة من صباح 8 أغسطس 1970 بتوقيت القاهرة ولمدة تسعين يوما . ونص الإتفاق على أن يمتنع الطرفان عن تغيير الوضع العسكرى فى داخل المنطقة التى تمتد 50 كم شرق وغرب القناة . ولايحق للطرفين إدخال أو إنشاء أية مواقع عسكرية فى هذه المناطق ، ويقتصر أى نشاط على صيانة المواقع الموجودة وتغيير وإمداد القوات الموجودة فى هذه المناطق ."
"قامت مصر باستكمال تجهيز المواقع الضرورية لشبكة الدفاع الجوى ، وتم ذلك بسرعة ومجهود كبير قبل موعد سريان وقف إطلاق النار ، ووجدت إسرائيل نفسها صباح اليوم التالى لوقف إطلاق النار أمام شبكة متكاملة من مواقع صواريخ الدفاع الجوى فى صورته النهائية دون خرق بنود الإتفاق بمجرد سريانه . لقد كان عملا ممتازا ، لم تتصور إسرائيل أنه يمكن إنجازه . وبذلك فرضت قوات الدفاع الجوى الغطاء بالصواريخ لكل منطقة القناة ، وكان ذلك اللبنة الأولى فى صرح الإنتصار الذى حققته القوات المسلحة فى حرب أكتوبر . وهكذا انتهت حرب الإستنزاف لتبدأ مرحلة الإعداد (يقصد التخطيط) لحرب أكتوبر ." – انتهى الإقتباس من مذكرات الجمسى .
رحل الرئيس عبد الناصر ، وترك روجرز منصبه إلى هنرى كيسينجر عام 1971 دون أن ترى مبادرته النور إلا ماتحقق منها من تجدد متكرر لوقف إطلاق النار لمدة ثلاث سنوات وشهرين مع رئاسة السادات لمصر بما كان يسمى بفترة اللاحرب واللاسلم ، حتى قامت حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 . وكان الدور الجديد الذى لعبه هنرى كيسينجر من خلال جولاته المكوكية هو التحضير لوقف القتال على الجبهتين المصرية والسورية كمبعوث للإدارة الأمريكية والبحث عن مخرج للمأزق الإسرائيلى على أرض المعركة ، ووجد كيسينجر ضالته فى الخلاف بين الرئيس السادات والفريق سعد الدين الشاذلى رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة فى الشأن العسكرى أثناء سير العمليات العسكرية ، والذى كانت نتيجته ثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث الميدانى .
وبدأ كيسينجر العمل على تحقيق رؤيته للوضع فى المنطقة العربية ، وخلق نظام إقليمى جديد عن طريق التفاوض يخضع للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية ، وهو الذى فتح بوابة العبور لإتفاقية كامب دافيد . وعلى الرغم من أن كيسينجر لم يكن موجودا ضمن الإدارة الأمريكية فى محادثات السلام المصرية الإسرائيلية إلا أنه كان المنسق الروحى لتلك المحادثات فى عهد الرئيس الأمريكى جيمى كارتر ، حيث استعان به كارتر لرسم سياسة التفاوض التى أدت فى النهاية إلى توقيع الإتفاقية ، وحسب ماجاء فى مذكرات جيمى كارتر يقول كارتر : أنه كان يدعو كيسينجر لتناول الطعام معه ومع زوجته روزالين ليقدم له خطته مع السادات ويلتمس منه رأيه ، وكان كيسينجر يعتقد أن عليه – أى على كارتر – أن يطمئن السادات دائما أثناء مباحثات كامب دافيد بأنه لن يتركه وحيدا أمام خصومه فى أى ظرف من الظروف ، وخاصة مع تمسك مناحم بيجين فى عدم إعادة الضفة الغربية وعدم إخلاء المستوطنات الإسرائيلية من اليهود بسيناء ، لأنهم سوف يغادرونها من تلقاء أنفسهم بعد الإنسحاب من سيناء . ونجحت خطة كيسينجر فى عزل مصر تماما عن الصراع العربى الإسرائيلى ، وكان هذا العزل أقصى مايمكن أن يحلم به كيسينجر وتحلم به إسرائيل أيضا منذ إعلانها كدولة على الأرض الفلسطينية .
وكان الرئيس السادات معجبا جدا بشخصية هنرى كيسينجر ، فقد قال أنيس منصور عن السادات فى كتاب "من أوراق السادات" (الطبعة الرابعة / دار المعارف) وهو عبارة عن سرد لذكريات وخواطر السادات أملاها السادات بنفسه على الكاتب أنيس منصور فى عدد من الجلسات استغرقت أحدها 18 ساعة حسب قوله ، ثم صاغها أنيس منصور وأعدها للنشر ، وذكر فيها أنيس منصور عن لسان السادات بأكثر من 15 صفحة الأسباب التى أدت فى النهاية إلى إنبهار السادات بكيسنجر وصداقته الحميمة له ، ولتلك الأسباب أيضا نجح كيسينجر حسب قول السادات فى الصفحة 268 من الكتاب المذكور فى أن يكون مستشارا للأمن القومى لخمسة من الرؤساء الأمريكان هم أيزنهاور وكنيدى وجونسون ونيكسون وفورد ، واستطاع أن يكون الرجل الثانى فى أمريكا عندما أصبح وزيرا لخارجية نيكسون وفورد من بعده ، ولم يحدث حسب قول السادات فى تاريخ أمريكا أن ارتفع مهاجر فى مثل هذا الوقت القصير – أى منذ سنة 1938 – فأصبح فى مثل هذا المكان الرفيع ، ويقول السادات فى ص 256 من الكتاب المذكور : " وبعد ساعة واحدة من لقائى بهنرى كيسينجر قلت لنفسى : أخيرا جاءنا من أمريكا رجل يمكن أن أثق به وأعتمد عليه ... " ، وفى ص 270 يقول السادات : "مع كل خطوة تقدم بها كيسينجر ، تأخرنا خطوات فى علاقتنا بالسوفييت .. ولانزال " ... !!
يتبع ........