في تحليل أزمة حاضر الأمة ومستقبلها، نحن أحوج ما نكون إلى البدء بمراجعة بنية المجتمعات العربية وأن نكفّ عن حديث المؤامرة الذي يرفع شعار «الحق على الطليان».
(1)
قبل أكثر من ثلاثين عاماً العام 1983، أصدر الدكتور جمال حمدان كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير». أورد فيه خريطة لما اعتبره «مراكز القوة الطبيعية في العالم العربي والشرق الأوسط». وتحت الخريطة ذكر ما يلي: لاحظ مثلث القوة المحلي في كل من المشرق والمغرب العربي. إذ يضم المثلث في المشرق كلاً من العراق وسوريا والسعودية. أما في المغرب فإنه يضمّ المغرب والجزائر وتونس. وبين الاثنين تبرز مصر باعتبارها قطب القوة الإقليمي الأساسي في العالم العربي. لاحظ أيضاً أن مصر بدورها تمثّل أحد رؤوس مثلث القوة الإقليمي في الشرق الأوسط الذي يضمّ إلى جانب مصر تركيا وإيران. وهو ما وصف في بعض الكتابات بالمثلث الذهبي.
قبل سنتين من صدور كتاب أستاذ الجغرافيا السياسية الأشهر، كان حمدان قد أصدر الجزء الثاني من مؤلفه الموسوعي «شخصية مصر». وفي فصل خصَّصه لشخصية مصر الاستراتيجية، ذكر أن لها خاصية مميّزة هي أنها كانت دائماً قطب قوة وقلب إقليم. «فحتى وهي مستعمرة محتلّة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فقد كانت مصر ــ للغرابة والدهشة ــ مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى.. ولا شك أن هذه الصفة الجوهرية ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة». وفي تحليله، فإن حمدان أرجع الدور القيادي لمصر إلى موقعها الجغرافي الذي تكامل فيه الموضع مع الموقع. وفي موضع آخر من الكتاب، ذكر أن مصر «أصبحت مفتاح العالم العربي، إن سقطت سقط، وإذا فتحت فتح. ولذا كان الاستعمار يركز دائماً ضربته الأولى والقصوى على مصر، ثم ما بعدها فسهل أمرُه. وهو ما أدركته وفشلت فيه الصليبيات وتعلّمه الاستعمار الحديث. فكان وقوع مصر 1882 (تاريخ الاحتلال البريطاني) بداية النهاية لاستقلال العالم العربي. بينما جاء تحرّر مصر الثورة بداية النهاية للاستعمار الغربي في المنطقة بل وفي العالم الثالث جميعاً.
(2)
في مقابل هذه الرؤية المصرية، فإن العقل الاستراتيجي الإسرائيلي رأى العالم العربي من منظور مختلف. ففي كتاب «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان» الذي أصدره في العام 2003 «مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا» التابع لجامعة تل أبيب، ذكر مؤلفه العميد متقاعد موشي فرجي ما يلي: إن الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء المنطقة العربية انطلقت من رفض فكرة انتماء المنطقة العربية إلى وحدة ثقافية وحضارية واحدة، والتعامل معها باعتبارها خليطاً متنوعاً من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني. إذ اعتادت على تصويرها على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدّد اللغوي والديني والقومي ما بين عرب وفرس وأتراك أرمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وتركمان وآشوريين!
بالتالي ــ أضاف المؤلف ــ فإن المنطقة ما هي إلا مجموعة أقليات ولا يوجد تاريخ موحَّد يجمعها. ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية، واعتبار القومية العربية فكرة يحيطها الغموض وغير ذات موضوع ــ الهدف الثاني هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي الصهيوني في المنطقة. إذ ما دامت تضم خليطاً من القوميات والشعوب والقوميات التي لا سبيل لقيام وحدة بينها، فمن الطبيعي أن تكون لكل قومية دولتها الخاصة. وهو ما يضفي شرعية على وجود إسرائيل باعتبارها إحدى الدول القومية في المنطقة.
استشهد المؤلف في ذلك بكتابات أبا إيبان (وزير خارجية إسرائيل الأسبق) في مؤلفه «صوت إسرائيل» الذي اعترض فيها على فكرة أن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وذكر أن العرب عاشوا دائماً في فرقة عن بعضهم، وأن فترات الوحدة القصيرة كانت تتم بقوة السلاح، ومن ثم فإن التجزئة السياسية لم يُحدثها الاستعمار، لأن الروابط الثقافية والتراث التي تجمع البلاد العربية لا يمكن أن تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.
(3)
قرأت عرضاً لكتاب بعنوان «نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه»، للباحث الألماني فولكر بيرتس المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، (عُيّن أخيراً مساعداً للمبعوث الدولي لسوريا ستيفان دي ميتسورا) ووجدت أن عنوانه يعبر عن حقيقة بات الجميع لا يختلفون عليها، وربما اختلفوا على ما بعدها. أعني أن ثمة اتفاقاً على أن خريطة «سايكس ـ بيكو» التي استمرت نحو مئة عام تخضع للتغيير الآن، والسؤال الذي تتعدد الإجابة عنه هو: كيف يكون شكل ذلك التغيير؟
ما فهمته من عرض الكتاب أن المؤلف يعتبر أنه لم يعُد في العالم العربي دولة كبرى بالمفهوم السياسي، وأن نفوذ إيران في العالم العربي أصبح أقوى من نفوذ أي دولة فيه. وإزاء الهشاشة والضعف المهيمنين عليه، فمن الصعب استمرار سياسة عدم التدخل الخارجي في شؤونه، (من جانب الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي)، أراد المؤلف أن يقول إنه أما وقد تكفل العالم العربي بتشويه حاضره وإضعافه، فإن القوى الخارجية باتت مضطرة للتدخل لصناعة مستقبله حرصاً على مصالحها وتمكين نفوذها. ولعليّ أضيف سببين آخرين للتدخل يكمن أولهما في انزعاج الغرب الأوروبي من سيل اللاجئين القادمين من المنطقة الذي بات يتدفق على دولها، الأمر الذي اعتبره الرئيس أوباما أخيراً «تهديداً لوجود أوروبا». أما السبب الآخر فراجع إلى التهديدات التي بات يمثلها تنظيم «داعش» من خلال عملياته الإرهابية والانتحارية في العواصم الأوروبية. وهي من العوامل التي تدفع باتجاه استدعاء التدخل الخارجي الذي نرى شواهده في الوقت الراهن.
نهاية الشرق الأوسط المتعارف عليه وانهيار مثلثي القوة التي تحدّث عنها جمال حمدان لم تحدث في السنوات الأخيرة التي شهدت تمزقات الدول العربية واتساع نطاق حروبها الأهلية. لكن لها تاريخ بدأ بتخلّي مصر عن قيادة العالم العربي، الذي أعلن ضمناً في الخروج على الإجماع العربي وتوقيع اتفاقية «السلام» مع إسرائيل في العام 1979. وتلك جريرة الرئيس الأسبق أنور السادات التي ارتكبها بحق مصر والعالم العربي، يُسعفني في ذلك تحليل حمدان الذي سبقت الإشارة إليه وذكر فيه أن مصر مفتاح العالم العربي إن سقطت سقط، وهي العبارة التي تختزل الفكرة التي أدّعيها وتؤيدها.
إننا إذا أردنا أن نتصارح في هذه النقطة، فينبغي أن نعترف بأن الدور القيادي المصري الذي أسهمت فيه الجغرافيا لا ريب، كان مستنداً إلى قوتها الناعمة بالدرجة الأولى. فقد كانت قوة عسكرية في بداية القرن التاسع عشر، إبان عصر محمد علي باشا (1805 ــ 1848)، الذي أسس الجيش والأسطول وأرسل جيوشه إلى الجزيرة العربية واليونان والشام حتى وصلت إلى الأناضول ودخلت معاقل السلطنة العثمانية في قونية وكوتاهية. كما أن مصر تمتّعت بالقوة السياسية في المرحلة الناصرية (1954 ــ 1970) حين صارت قوة يُعمَل لها حساب، وبين التاريخين ظلت القوة الناعمة هي الرافعة الحقيقية لدورها القيادي. إذ تمثّلت في علمائها ومثقفيها وفنانيها وقادة نضالها الوطني ضد الاحتلال البريطاني. والقوة التي أعنيها تقاس بمعيارين، أحدهما أو كلاهما يتمثل بالقوة الذاتية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، وقوة التأثير والإشعاع في المحيط. أما القيادة فترتبط بالعنصر الثاني بالدرجة الأولى، وفي الخبرة المصرية فإن قوة التأثير والإشعاع ظلت صاحبة الحصة الأكبر في الحفاظ على دورها القيادي. إذ ظلت تجربتا محمد علي وجمال عبدالناصر حالتين استثنائيتين في المشهد المصري خلال القرنين الأخيرين.
معاهدة السلام أفقدت مصر دورها السياسي فتراجع تأثيرها في العالم العربي، وحين خرجت من الصراع فإنها حيّدت قوتها العسكرية، ولأسباب طويلة ومفهومة فإنها كانت خارجة من ميزان القوة الاقتصادية، وتزامن ذلك مع تراجع قوتها الناعمة، خصوصاً على الصعيد الثقافي، الذي وجد منافسين له في الدول العربية الشقيقة. وذلك التنافس شمل المجال الفني الذي أبرزته وأنعشته ثورة الاتصال. بالتالي فلم يعُد لمصر ما تنفرد به في الوقت الراهن. وظلت ريادتها منسوبة إلى التاريخ بأكثر من تعبيرها عن الواقع الراهن.
صحيح أن دور الدول النفطية برز خلال تلك الفترة، متكئاً على الثروة الاقتصادية بالدرجة الأولى، إلا أن ذلك لم يحلّ مشكلة القيادة، الأمر الذي أوصل العالم العربي إلى ما وصل إليه من تصدّع وتشرذم. من ثم تحققت نبوءة حمدان التي قال فيها إن سقوط مصر إيذان بسقوط العالم العربي بأسره.
(4)
للباحث الإسرائيلي إسرائيل شاحاك المحلل السياسي والبارز ورئيس جمعية حقوق الإنسان في الدولة العبرية دراسة مهمة ذكر فيها أن تفتيت العالم العربي له تاريخ يمتدّ لأكثر من ثلاثين عاماً. إذ رصد فيها رحلة المخططات التي تناولت الموضوع منذ العام 1982 (بعد ثلاث سنوات من توقيع مصر للمعاهدة مع إسرائيل) حين أعدّ الصحافي الإسرائيلي عوديد بينون وثيقة تحدثت عن تفكيك العالم العربي، نشرتها مجلة «كيفونيم» التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية في شهر فبراير من ذلك العام. وظلت الفكرة تتردد بصياغات مختلفة في العديد من الدراسات التي ذكر تاريخها وخلاصاتها، إلى أن نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» في العام 2013 تحليلاً عرضت فيه سيناريو تحوّل 5 دول عربية إلى 14 دولة.
أهم ما خلص إليه شاحاك ثلاثة أمور، الأول أن مخططات التقسيم يتبناها ويروّج لها اليمين الإسرائيلي واليمين الأميركي. الثاني أن تفتيت العالم العربي تمّ بفعل عوامل داخلية نابعة من هشاشة المجتمعات العربية وليس من خلال التدخلات الأجنبية. الثالث أن انفراط عقد العالم العربي ليس سببه «الربيع العربي»، كما يروّج البعض، لأن ذلك «الربيع» كان ثورة من جانب الجماهير العربية على تدهور الأوضاع في بلادها. وهي خلاصة يصعب الاختلاف معها، وليتها تكون موضع مناقشة من جانب الذين يؤرقهم حاضر الأمة العربية ومستقبلها.
---------------
الكاتب : فهمي هويدي