مشرف
| موضوع: عملية برخان العسكرية الفرنسية بالساحل: حدود النجاح وعوامل الإخفاق الجمعة فبراير 05 2016, 20:35 | |
| تعاظم دور الحركات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي وتزايد نشاطها حتى صار أمرًا بارزًا لا تكادُ تخطئه عينُ متابعٍ، وليس الهجومُ على فندق "سبلانديد" بواغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، فجرَ الجمعة 15 يناير/كانون الثاني 2016، والذي أعلن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مسؤوليته عنه، وقبله بفترة قليلة وقوع عدَّة اختطافات استهدفت بعض الغربيين بمنطقة الساحل، فضلًا عن هجوم هذا التنظيم على فندق "راديسون بلو" بالعاصمة المالية باماكو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، سوى تجسيد لهذا الدور المتعاظم. إن النشاط المتزايد للتنظيمات المسلحة في منطقة الساحل نشاط يعزِّزه تعدد في الفصائل وتوزُّع لها على فضاءات مختلفة هنا وهناك. ففي تنبكتو وجوارها ينشط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بينما تتمركز حركة أنصار الدين بقيادة رئيسها الزعيم الطارقي والدبلوماسي المالي السابق، إياد أغ غالي، في منطقة كيدال، كما أن لها امتدادًا في جنوب مالي بالقرب من الحدود الإيفوارية . وتنشط "جبهة تحرير ماسينا" (وأغلب أعضائها من عرقية الفلان الإفريقية) في وسط وشرق مالي، أمَّا حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا (MUJAO) فتشن غاراتها من حين لآخر داخل النيجر. ولم يعد مجال حركة بوكو حرام مقصورًا على شمال نيجيريا بل امتدَّ ليشمل النيجر وتشاد والكاميرون. ولا يمكن أن ننسى أحد أبرز اللاعبين في خريطة الجماعات المسلحة في الساحل ألا وهو تنظيم "المرابطون" بقيادة مختار بلمختار الذي نشط لبعض الوقت في ليبيا ثم عاد لمالي ومؤخرًا إلى ظهر في بوركينا فاسو ، وبعض هذه الجماعات أعلن اصطفافه مع تنظيم الدولة وبعضها ما زال ولاؤه لتنظيم القاعدة وهو استقطاب مهم تعيشه الحركات المسلحة في منطقة الساحل وغيرها. وبقدر ما تعاظم وجود هذه الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي كان الوجود الفرنسي العسكري والاستخباراتي ينتشر ويتمدد أيضًا، وتأتي عملية برخان العسكرية التي أطلقتها فرنسا، في بداية أغسطس/آب 2014، والتي جاءت استمرارًا وتكميلًا لعملية "سرفال" لمواجهة خطر هذه الجماعات. فعملية برخان تمثل مواصلة لمسار استراتيجي فرنسي ولمحاولة لتعزيز نفوذ في منطقة عُرف عنها أنها كانت في السابق مستعمرات فرنسية. إن ما يميز عملية برخان عن سابقاتها هو أنها تسعى لتجاوز تأمين شمال مالي لتأمين منطقة الساحل كلها، بل وتسعى لمزيد من الشراكة الاستخباراتية والعسكرية مع الدول الإقليمية وخصوصا مجموعة جي 5 الساحل (G5 Sahel) التي تزامن الإعلان عن إنشاء مع إطلاق عملية برخان، والتي تجمع فرنسا وخمس دول من منطقة الساحل هي: النيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد. وهذا يعني أن مجال عملية برخان يمتد على خط يزيد طوله على ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلومتر من نواكشوط غربًا إلى نجمينا شرقًا. فرنسا ومنطقة الساحل: عملية عسكرية مفتوحة لا يزال تهديد وخطر الحركات المسلحة بمنطقة الساحل على حاله لم يتغير حتى بعد مرور ثلاث سنوات على التدخل العسكري الفرنسي في مالي المعروف بعملية "سيرفال". ولا شك أن النجاح الفرنسي في تلك العملية كان قد أدى إلى إبعاد خطر الجماعات المسلحة التي كانت تهدد التراب المالي كله، لكنه لم يقضِ على هذه الحركات؛ لذلك وسَّعت فرنسا من خلال عملية برخان دائرة حربها ضدها لا في شمال مالي فقط بل في منطقة الساحل الإفريقي كله . يمكن القول إن التدخل الفرنسي في إقليم أزواد، سنة 2012، قد أنقذ دولة مالي من انهيار وشيك أمام ضربات الحركات المسلحة وعلى رأسها حركة أنصار الدين التي حاولت في تلك السنة التقدم نحو الجنوب وعدم الاقتصار على المجال الأزوادي في الشمال. ومنذ ذلك التاريخ دخلت باماكو في مفاوضات تارة في الجزائر وتارة في واغادوغو بين الحكومة المالية والقوى الانفصالية غير المسلحة والتي تصف نفسها بالجهادية، وقد تُوِّجت تلك المفاوضات باتفاق سلام وُقِّع في الجزائر العاصمة، في يونيو/حزيران 2015، وهو اتفاق لم يُنهِ التوتر بعد. وتشرف على هذه المفاوضات دول إقليمية كالجزائر وتحضره إلى جانبها بوركينا فاسو وموريتانيا والنيجر، وتقوم بتنسيقه بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينيسما)، لكنَّ عملَ هذه البعثة دبلوماسيٌّ فقط، ولا يشمل مكافحة الإرهاب فذلك ملف تناطُ به عملية "برخان" الفرنسية، ولذلك قامت فرنسا بتوقيع اتفاقية مع جمهورية مالي في يوليو/تموز 2014، وهي اتفاقية تحدد مجالات التعاون العسكرية الرئيسية ومن بينها تبادل المعلومات والمشاورات المنتظمة حول القضايا الأمنية والتكوين والتدريب والمسائل اللوجستية . غير أننا نلاحظ أن السنوات الثلاث الماضية عرفت توسعًا نوعيًّا للعمليات التي تقوم بها الحركات المسلحة في مالي حيث لم تعد تقتصر على إقليم أزواد في الشمال بل أصبحت الأراضي المالية كلها مستباحة ولا أدل على ذلك من استهداف فندق "راديسون بلو" بقلب العاصمة باماكو، الذي أظهر تقاربًا بين القاعدة في المغرب الإسلامي وتنظيم "المرابطون" بعد قطيعة وتنافس بينهما حول وصاية بعضهما على بعض ومدى تمثيل كلٍّ منهما لتنظيم القاعدة الأم في منطقة الساحل والمغرب الإسلامي. وهذا ما يضع علامة استفهام كبيرة حول فاعلية عملية "برخان" الفرنسية على الرغم من أنها، ومنذ نهاية سنة 2014، أصبحت ذات إمكانات لوجستية وتعبوية كبيرة، فهي مكونة من أزيد من ثلاثة آلاف جندي مع عتاد متنوع من بينه: مائتا سيارة رباعية الدفع، ومائتا مدرعة، وأربع طائرات بدون طيار، وست طائرات مقاتلة، وعشر طائرات نقل، وعشرون مروحية . الاستراتيجية الفرنسية بالساحل ومتلازمة خط ماجينو في الوقت الذي تترصد فيه القوات الفرنسية في عملية برخان بعض مواقع الجماعات المسلحة في صحراء مالي والنيجر وتُضاعِف من التمكين لوسائلها اللوجستية، وفي الوقت الذي تتابع أجهزة مخابراتها بكثافة أخبار هذه المجموعات، نجد هذه الجماعات تُنَوِّع طرق تنفيذ عملياتها، فهي تعتمد على الضربة القوية والسريعة وإظهار مستوًى من الإقدام تطبعه الدموية مما يعطي لعملياتها صدى إعلاميًّا قويًّا. وفي نفس الوقت نجد هذه الجماعات تُحوِّل ميدان نشاطها جنوبًا بعيدًا عن أماكن تواجد قوات عملية برخان، فنراها تضرب في قلب عواصم دول الساحل الإفريقية. ويبرِّر بعض المسؤولين الفرنسيين توجُّه تلك الضربات جنوبًا بأن تضييق الخناق على هذه الجماعات في الشمال فرض عليها تحويل ميدان عملياتها نحو الجنوب والابتعاد عن الصحراء الإفريقية واعتماد آلية الضربة السريعة والهجوم المباغت. والواقع أن هذا التفسير قد يكون منطقيًّا، لكنْ من يتابع نشاط الجماعات المسلحة في الصحراء الإفريقية يلاحظ بسهولة أنها تطوِّر نوعيات عملياتها، وأنها تتكيف بسرعة مع الاستراتيجية العسكرية والأمنية الفرنسية في المنطقة. إن هذا التطور هو ما جعل بعض الخبراء يشكِّك في نجاح عملية برخان؛ فالفرنسيون استطاعوا أن يفرضوا ميدانيًّا قوتهم العسكرية وأن يُبعدوا خطر هذه الجماعات خصوصًا أن قاعدة أركان الجيوش الجوية لعملية برخان توجد في نجمينا بتشاد ، في حين يوجد مركز استخبارات عملية برخان في نيامي عاصمة النيجر . أمَّا التجمع التكتيكي العسكري المشترك (GTIA) والذي يناهز الألف جندي فيوجد بمدينة غاوو بمالي ، في حسن توجد قاعدة القوات الخاصة لعملية برخان في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو . وفضلًا عن هذا الانتشار الفرنسي المتنوع والمتعدد في بعض دول منطقة الساحل فإنه توجد ثلاث قواعد عسكرية صغرى متقدمة وخفيفة تابعة لعملية برخان بتساليت بشمال مالي وبماداما بشمال النيجر وبفايا لارجو بتشاد. كما توجد قواعد فرنسية قديمة وفاعلة في كلٍّ من دكار وأبيدجان وليبرفيل وتشكل خلفية وظهيرا لعملية برخان. وفي ضوء هذه المعطيات فإن عمليتي فندق "راديسون بلو" بباماكو و"سبلانديد" في واغادوغو تطرحان سؤالًا مشروعًا، وهو: ما حدود نجاح عملية برخان العسكرية الفرنسية بعدما حصل خصوصًا أنها تكلِّف الخزينة الفرنسية أكثر من سبعمائة مليون يورو سنويًّا؟ تمتاز عملية برخان بأنها تدخل في العموم فيما يمكن تسميته استراتيجيًّا بالدفاع الثابت الذي يتمركز في فضاء محدد ومنه يتم الانطلاق في تنفيذ العمليات الاستخبارية أو العسكرية، وهذه الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل تُذكِّرنا بما عُرف سابقًا في التاريخ العسكري الفرنسي باسم "خط ماجينو" المنسوب لوزير الحربية الفرنسي، أندريه ماجينو André Maginot، الذي دافع بشدة أمام البرلمان الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى عن فكرة الأخذ بنظرية الدفاع الثابت لتجنيب فرنسا أي عدوان ألماني مرتقب خاصة في منطقتي الألزاس واللورين. اتخذت فرنسا استراتيجية دفاعية قائمة على بناء خطوط من التحصينات القوية عُرفت باسم "خط ماجينو"، وأرادت من ورائه وقف أي تقدم للقوات الألمانية المهاجمة، وهو ما يسهِّل قيام القوات الفرنسية المدافعة بتوجيه ضربات مضادة إليها وسحقها. لكنَّ هذا الفكر الاستراتيجي كان أثبت خطأه؛ حيث إن حشد القوات الفرنسية الكثيفة للدفاع عن خط ماجينو أدَّى إلى ثغرات عديدة ففشل خط ماجينو في حماية فرنسا من الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية. إذ إن الخطة الألمانية لاجتياح فرنسا عام 1940 أخذت بالحسبان وجود هذا الخط؛ حيث وضع الألمان قوة شكلية في مقابل الخط لخداع الفرنسيين، بينما اندفعت قوات الألمان عبر البلدان الواطئة (هولندا وبلجيكا)؛ وبذلك نجح الألمان في الولوج إلى فرنسا دون الاصطدام بشكل مباشر بخط ماجينو، ومن هناك قاموا بمهاجمة الخط والسيطرة على فرنسا. فهل الهجوم على باماكو وواغادوغو وربما غيرها من عواصم دول الساحل الإفريقي تكرِّر خطأ خط ماجينو الشهير(10)؟ وهل انعدام التنسيق الإقليمي بين فرنسا ودول المنطقة عمومًا كان من وراء الثغرات التي كادت تُودي بعملية برخان؟ وهل تقوم فرنسا بعملية انتقاء لحلفائها في المنطقة؟ الدور الجزائري بين الغياب والتغييب ليس تعامل الجزائر مع الجماعات المسلحة بالأمر الجديد، فالجيش والمخابرات الجزائرية من أكثر المؤسسات الإفريقية خبرة بهذه الجماعات بل إن الجزائر أصبحت الدولة الإفريقية الأكثر تمرُّسًا بعمل ومكافحة هذه التنظيمات نظرًا إلى تعاملٍ وخبرةٍ ومقارعةٍ تربو على العقدين من الزمن؛ حتى أصبح لدى الجزائر خبرات ميدانية ولوجستية ومعرفية راكمتها من خلال وحداتها العسكرية الخاصة في محاربة هذه الجماعات ومقارعة مستمرة منذ عقدين من الزمن, فضلًا عن جهاز استخباراتي بات الأقوى في المنطقة, هذا بالإضافة إلى مراكز بحثية متخصصة "صارت بيوتات خبرة" ذات كفاءة مهمة. يضاف إلى هذه العناصر ما تتمتع به الجزائر من إمكانات مادية نتيجة ريع الغاز والبترول في العقدين الماضيين وهو من المصادر التي لا تتوفر عليها أية دولة في منطقة الساحل, وكلها أمور ترشِّح الدور الجزائري لأن يكون حاضرًا في أي ترتيبات أو تنسيقات عسكرية أو أمنية لمحاربة التنظيمات المسلحة. ويبدو أن الولايات المتحدة قد أدركت أنه لا مناص لها من التنسيق مع الجزائر في حربها ضد ما تسميه "الإرهاب" بمنطقة الساحل، فجرت أكثر من زيارة لمسؤول عسكري وأمني وسياسي أميركي للجزائر في السنوات الماضية. إذ يبدو أن هنالك إدراكا أميركيا لأهمية وحيوية دور الجزائر في الحرب على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي. أمَّا فرنسا فمن الملاحَظ أن تنسيقها مع الجزائر أقل بكثير من المستوى المطلوب، بل إن المتابع لهذا الملف لا تخفى عليه "النظرة الاستعلائية الفرنسية" تجاه الجزائر؛ فقد تعودت باريس على أن تعطي الأوامر لقادة الدول الإفريقية وينفذوها في الغالب دون اعتراض أو نقاش, عكس الجزائر التي، ومنذ ثورتها على الاستعمار الفرنسي، ظلت ترى نفسها ندًّا ونظيرًا للدول الكبرى وخصوصًا فرنسا. ولذلك حرصت الجزائر دائما على أخذ مسافة من السياسة الفرنسية في إفريقيا. إن هذا الموقف المعقد في العلاقات الفرنسية-الجزائرية ربما قد ألقى بظلاله على الحرب الفرنسية في الساحل، وربما حدَّ من فعالية عملية برخان التي طالما لم تجد لها سندًا إقليميًّا جَماعيًّا يكون فيه للجزائر دور ما فسيظل أداؤها مشلولًا. إن تجاهل فرنسا للدور الجزائري في منطقة الساحل على أهميته يشي في تقديري بقدر كبير من التعالي واستحضار النظرة الاستعمارية التي تستبطنها السياسة الفرنسية في بعض الأحيان، وهي نظرة تحرِم فرنسا من خبرات مهمة غاية، وقد تعمل على إنجاح مهامها العسكرية والأمنية في الإقليم طالما وطَّنت نفسها على أن تكون شرطي المنطقة. هل المجال الليبي جزء من عملية برخان الفرنسية؟ لم يعد شمال مالي ولا غيره من مناطق الساحل الإفريقي مجالَ الحركات المسلحة التي تصف نفسها بالجهادية بل إن ليبيا وخصوصًا جنوب الغرب الليبي أصبح نقطةَ استقطاب لهذه الجماعات، وقد ظلت عيون المسؤولين العسكريين الفرنسيين ممتدة لليبيا، بل إن وزير الدفاع الفرنسي الحالي: جان إيف لودريان صرَّح بأن نشاط عملية برخان عليه أن يشمل حدود ليبيا مع النيجر وتشاد(11). ويُقدِّر بعض التقارير الفرنسية أن عناصر جماعة "المرابطون" المسلحة الموجود بليبيا، والتي يرأسها الجزائري المختار بلمختار الشهير بلقبه الأعور، بحدود 300 مسلح، وأنها تتمركز في الجنوب الليبي، وتقوم بتهريب السلاح نحو شمال مالي وغيره من دول منطقة الساحل الإفريقي وهي التي نفَّذت عملية عين آميناس في الجزائر في يناير/كانون الثاني 2013(12). كما تذكر تلك التقارير الفرنسية تسلُّل هذه العناصر بين الجنوب الليبي ومنطقة الساحل عبر أكثر من ممر؛ من ذلك ممر السلفادور الواقع إلى الشمال الشرقي من ماداما بولاية أغاديس بالنيجر، وهو نقطة استراتيجية على الحدود بين النيجر وليبيا والجزائر. وكذلك ممر تيمو على الحدود بين ليبيا والنيجر فضلًا عن ممر كوريزو بين ليبيا ومنطقة تيبستي بشمال تشاد، وكذلك توجد ممرات في نواحي تازرزيت بمرتفعات جبال الآيير بالنيجر، وقد نجحت عملية برخان في وضع هذه الممرات تحت المراقبة بشكل شبه مستمر. غير أن الساحل الإفريقي وخصوصًا منه ما يحاذي الحدود الليبية أصبح مجالًا ترتاده كتائب هذه الجماعات المسلحة فقد عرفت مسالكه الوعرة وتعودت على مناخه الحار والجاف. ولحدِّ الساعة فإن فرنسا، ومن خلال عملية برخان، لم تخترق الحدود لليبية المحاذية لدول الساحل الإفريقي (النيجر وتشاد)، بل بقيت تراقبها عن كثب خصوصًا مع وجود في قاعدة ماداما بشمال النيجر التابعة لعملية برخان والتي تشكِّل رأس الحربة في برخان الذي ربما يوجِّه في المستقبل نحو ليبيا. ولعل الاستعدادات الغربية الراهنة والحديث عن عملية وشيكة في ليبيا لمكافحة تنظيم الدولة، الذي بسط نفوذه على مدينة سرت الساحلية الليبية كما بدأ يوجِّه عملياته نحو الهلال النفطي الليبي بالسدرة وغيرها، قد تدفع بفرنسا لإعادة تحريك عملية برخان باتجاه ليبيا في مسعى للمساهمة منها في الاشتراك في الحملة العسكرية الغربية المتوقعة على التنظيم بمدينة سرت. خاتمة: لا شك أن عملية برخان العسكرية بمنطقة الساحل حققت إنجازات كان لها صدى على الصعيد الأمني فقد قلَّمت أظافر التنظيمات المسلحة التي تصف نفسها بالجهادية وحجَّمت منطقة نفوذها بل زادت على ذلك بأن حدَّت من سرعة أدائها وحرية انتقالها داخل منطقة الساحل. ومن الملاحظ أن هذه التنظيمات قد غيَّرت من خططها وتكتيكاتها، وسحبت مراكز تواجدها في بعض الأحيان نحو شمال تشاد وجنوب ليبيا. وقد تحدَّث أكثر من تقرير عن فقدانها قدرة الحشد المتسارع وسرعة المناورة لتضييق الخناق الذي تفرضه القوات الفرنسية على تحركاتها المنتظمة والجماعية مما جعل الخيارات أمامها محدودة ومما سيحد في المدى المنظور من تعاظمها كبنية عسكرية ووحدة قتالية. لكنه بات من المؤكد أن العمليتين الدمويتين اللتين جريتا في كل من باماكو وواغادوغو، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وفي 15 يناير/كانون الثاني 2016، أكَّدتا على أن الجماعات المسلحة بمنطقة الساحل الإفريقي استطاعت الالتفاف على عملية برخان العسكرية الفرنسية، فهذه العملية قد منعت عناصر هذه الجماعات من المرور عبر منافذ محددة في منطقة الساحل لكنها لم تسد جميع المنافذ، بل قد لا يمكنها أصلا سدُّ جميع المنافذ أمام اختراقات عناصر تلك الجماعات، تمامًا كما وقع الأمر مع فرنسا لما بنت خط ماجينو الشهير بينها وبين ألمانيا في عشرينات القرن الماضي. ومن هنا يمكن أن نستنتج عدة أمور، منها: أولًا: للجماعات المسلحة بمنطقة الساحل خطوط اتصال ممتدة عبر مناطق عديدة من إفريقيا بدليل أنها على تواصل مستمر فيها بينها في المنطقة الممتدة من كينيا والصومال شرقًا إلى ليبيا وتشاد والكاميرون وصولًا إلى بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا والسنغال. وضمان خطوط الإمداد يعني إمكانية تجدد نشاطها وتعويض خسائرها باستمرار. ولا ننسى أن هذه الجماعات تسيطر على تجارة السلاح بالمنطقة, وهي تجارة تزايدت بشكل كبير عبر السوق السوداء فغدت بذلك منطقتا الساحل والقرن الإفريقيتين من أكبر خزانات الأسلحة المهربة في العالم. كما أنها ترعى تجارة تهريب البضائع والمخدرات وتقوم من حين لآخر باختطاف رعايا غربيين للحصول على فديات مالية وهو ما يضمن لها تمويلًا ذاتيًّا مستقرًّا. ثانيًا: فشلت عملية برخان في القضاء علي هذه الجماعات بشكل كلي، فهي لم تصل في أدائها إلى أن تشل القدرات اللوجستية للخصم, وهو ما سيؤدي دون شك إلى تجدد المعارك في أية لحظة وبشروط هذه الجماعات؛ أي إنها هي من سيحدد مكان وتوقيت المعارك القادمة مما يعني القدرة على مباغتة القوات الفرنسية في أية لحظة، أو أي مكان في منطقة الساحل المترامية الأطراف. ثالثًا: ليس مخطئًا من يصف عملية برخان بأنها شبيهة بعملية "جزِّ العشب" فالعملية تنجح في فترة ما دون أن تشلَّ عمل هذه الجماعات نهائيًّا فما تلبث أن تتجدد قواعد وخطط نشاطها، وقد بات معلومًا لدى فرنسا وغيرها من الدول الغربية المهتمة بهذه الجماعات أن أي قائد جهادي يُقتَل فإن هنالك خلفًا سيحل محله. رابعًا: من المستحيل بالنسبة لفرنسا إقامة سور واق أو وضع قواعد عسكرية على امتداد منطقة الساحل الإفريقي الصحراوية والمتسعة. وحتى لو استطاعت فرنسا التنسيق العسكري والاستخباراتي المكثف مع الدول الخمس التي تشكِّل "مجموعة جي 5 الساحل" فإنه تبقى هنالك أكثر من ثغرة تأتي من حدود الجزائر وليبيا ونيجيريا. خامسًا: إذا كان هدف عملية برخان الفرنسية عسكريًّا وأمنيًّا فإن جوهر المشكل بالنسبة لهذه الجماعات ليس المشكل الأمني العسكري فقط بل هو أيضًا مشكل ثقافي وفكري؛ حيث تنشط هذه الجماعات في استكتاب منضوين جدد وإقناعهم بنهجها الفكري. سادسًا: ستبقى عملية برخان أقرب في دورها ووظيفتها بخط ماجينو الشهير في الاستراتيجية الفرنسية، أي إنها ستشكِّل حارسًا يضمن مراقبة نقاط محددة لكن يبدو أن هناك نقاطًا أخرى ومسارب ثانية قد تفوت عليها. سابعًا: ليست الجماعات المسلحة هي الخطر الوحيد بالنسبة لمنطقة الساحل؛ ذلك أن هذه المنطقة تتعايش فيها شبكات أخرى ليس أقلَّها خطرًا شبكات تهريب المخدرات والبضائع، والوقوف في وجه هذه الشبكات لا يدخل بالضرورة في مهمة عملية برخان مع العلم بأن بعض التقارير يتحدث عن تنسيق لصيق بين مهربي المخدرات والبضائع وبين الجماعات المسلحة. وهذا ما يؤكد أن المنطقة بحاجة إلى أكثر من استراتيجية نظرًا لانزلاقها في دوامة من الأزمات المتنوعة. ثامنًا: في حالة وقوع تدخل عسكري غربي في ليبيا لمواجهة تنظيم الدولة المسيطر على مدينة سرت فإن عملية برخان ستأخذ أبعادًا أوسع من مجالها الساحلي لتشمل ليبيا. ---------------- الكاتب : سيدي أحمد ولد الأمير باحث بمركز الجزيرة للدراسات ومنسق وحدة الدراسات الإفريقية |
|