في الذكرى الخامسة لثورة «الربيع العربي» التي انطلقت من تونس، تبدو الأوضاع الاقتصادية في شمال أفريقيا مقلقة، ومفتوحة على خيارات صعبة ومؤلمة للطبقات الوسطى والمتعلّمة، التي تحملت عبء الإصلاحات، فانزلق بعضها نحو حافة الفقر واتّسعت الفوارق بين الأفراد والجهات (المناطق)، وتضاعفت جيوش العاطلين من العمل الجامعيين، حتى أصبح في كل بيت شخص يبحث عن عمل.
وتفيد أكثر تقديرات صندوق النقد الدولي تفاؤلاً، بأن الاقتصادات المغاربية ستحقّق معدلات نمو ضعيفة، تتراوح في أحسن الأحوال بين 2 و3 في المئة، نتيجة انهيار أسعار النفط، الذي يمثل 96 في المئة من مصادر الدخل في الجزائر، وبسبب تراجع السياحة في تونس، وتداعيات الاعتداءات الإرهابية على فنادق سوسة ومتحف «باردو»، وشحّ الأمطار في المغرب، الذي يعتمد على الزراعة بنسبة 16 في المئة من الناتج المحلي. ويتزامن ضعف النمو وتقليص الاستثمارات العامة في دول المغرب العربي الثلاث، مع رفع الدعم عن المحروقات ومواد غذائية أساس وزيادة الضرائب والرسوم، وتحميل طبقة العمال والموظفين كلفة إصلاح صناديق التقاعد والتحوّط الاجتماعي. ويبدو وضع الجزائر أسوأ، إذ فقدت الخزينة أكثر من ثلثي إيراداتها وتبخّر نصف احتياطها النقدي، ما دفعها إلى تقليص النفقات بنحو 10 في المئة وإلغاء مشاريع استثمارية في البنية التحتية، ورفع الدعم عن السلع الأساس وزيادة الضرائب على الواردات لتقليص عجز الميزان التجاري، الذي بلغ العام الماضي 15 في المئة من الناتج، وعجز الموازنة 11.5 في المئة.
وأعلنت الحكومة إجراءات تقشّفية اعتُبرت غير شعبية، مثل توقف التوظيف في القطاع العام وإرجاء بناء المدارس والمستشفيات والمشاريع السكنية الاجتماعية، في انتظار تحسّن الأوضاع المالية للدولة. وتوقّع صندوق النقد تراجع عجز الموازنة الجزائرية إلى أقل من 10 في المئة، وعجز الميزان التجاري إلى ما دون 14 في المئة من الناتج هذه السنة. لكن هذه التقديرات مرشّحة للارتفاع مع توالي الأخبار غير السارة حول تواصل انهيار أسعار النفط، ما يزيد في حسابات العجز الكلي ويضغط على قيمة الدينار ويرفع معدلات التضخم ويوسّع دائرة الانكماش الاقتصادي والتجاري.
واتجهت تونس نحو صندوق النقد لطلب قرض ائتماني بنحو 1.7 بليون دولار، هو الثاني من نوعه في 3 سنوات، للخروج من الكساد الاقتصادي المستمر منذ إطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وهروب الأموال من تونس، وتدنّي حركة السياحة والتجارة الخارجية والتدفّقات المالية الأجنبية. لكن تونس، كما المغرب، استفادت من انخفاض أسعار الطاقة في السوق الدولية، ما مكّنها من تقليص عجز حساب المدفوعات الخارجية من 8.8 في المئة عام 2014 إلى 8.4 في 2015. ويتوقع صندوق النقد تراجع العجز التجاري إلى 7.8 في المئة، وعجز الموازنة إلى 4.1 في المئة خلال العام الحالي. وتضررت تونس من وضعها الجغرافي القريب من ليبيا والانعكاسات السلبية للجماعات المتسلّلة عبر الحدود وانعكاسها الكارثي على السياحة الأوروبية، لكنها، من وجهة نظر المؤسسات الدولية، تبقى أكثر دول المنطقة قدرة على التحوّل الديموقراطي والخروج من المحن الأمنية والاقتصادية، بفضل ديناميكية الطبقات الوسطى ودور المرأة الاعتباري في المجتمع، وعزم المؤسسات الدولية على إنقاذ اقتصاد بلاد الياسمين التي انطلقت منها الثورات العربية. لكن ذلك يبقى رهناً بتحسّن الأوضاع الإقليمية المجاورة وتجاوز الخلافات الداخلية ومواصلة تلقي المساعدات المالية الخارجية وعودة السياحة الدولية.
وعلى رغم أن حال المغرب المالية والاقتصادية تبدو أفضل من الدول المغاربية، بعدما نما اقتصاده 4.7 في المئة العام الماضي، إلا أن تأخر الأمطار أضرّ بقطاع الزراعة، الذي يمثل أهم مورد رزق لثلث السكان، وساهم بنحو 15 في المئة من القيمة المضافة العام الماضي.
ويُتوقع أن ينخفض النمو دون 3 في المئة، وفقاً لتوقعات المؤسسات الاقتصادية المغربية والدولية، على اعتبار أن المحصول الزراعي المرتقب الصيف المقبل، سيتراوح بين الضعيف والمتوسط في أحسن الأحوال، ويبقى رهناً بالأمطار. وفي المقابل، سجّل المغرب تحسناً في المؤشرات الماكرو اقتصادية، إذ تراجع عجز الميزان التجاري إلى نحو 2 في المئة من 9 في المئة مطلع العقد الحالي، كما تحسّن مؤشر عجز الموازنة وبلغ 4.3 العام الماضي، وهو مرشح للتراجع إلى 3.5 في المئة هذه السنة، مع تحسّن الاحتياط النقدي الذي بات يكفي لتمويل 7 أشهر من المشتريات الخارجية.
ويساهم استمرار تراجع أسعار الطاقة في تحسّن الموجودات الخارجية وتعافي ميزان المدفوعات، لكن الإصلاحات التي نفذتها الحكومة، التي يقودها حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، أضرّت بمكاسب الطبقات الوسطى التي تحمّلت وزر رفع الدعم عن المحروقات وسلع أخرى. وانخفضت نفقات «صندوق المقاصة» من 56 بليون درهم عام 2012 إلى 15 بليوناً في العام الحالي، أي أن مجموع تلك النفقات تحمّلته جيوب المستهلكين وأسعار النفط.
وتلمّح الحكومة الى اعتماد نظام جديد للتقاعد، من شأنه تقليص قيمة المعاش ورفع سن التقاعد ثلاث سنوات إلى 63 سنة، وزيادة قيمة الاشتراكات بأربع نقط إضافية، وهي إجراءات تعارضها النقابات العمالية وتطالب الحكومة بتحمّل تبعات انخفاض احتياطات صناديق التقاعد التي تعرّضت على مدى عقود طويلة، لخلل في التدبير واختلاسات وسوء تسيير وغياب في الحوكمة. وكانت لجنة برلمانية كشفت أن 147 بليون درهم (14.5 بليون دولار) اعتبرت أموالاً مفقودة من حسابات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
ويعتقد منتقدو الحكومة أنها زادت الأعباء الاجتماعية للطبقات الوسطى، التي زادت ديونها وتراجع مستوى معيشتها، في حين لم تنجح الحكومة في معالجة مشكلة بطالة الشباب، التي ارتفعت إلى أكثر من 20 في المئة لدى فئة الخريجين الجامعيين، وباتت تحدياً اقتصادياً، إذ تجاوز عدد العاطلين من العمل 1.3 مليون شاب وشابة.