في ذكرى معركة أنوال .. ليوطي والخطابي وجهًا لوجه
حينما جاء الدور على المغرب، على غرار الدول الأخرى التي أصبحت كعكعة تقتسمها الدول الأوربية، كان ليوطي في مقدمة من يمثل مدرسة استعمارية لها باع طويل في هذا الإطار. فحين، كان عبد الكريم يمثل نموذج مدرسة تحررية في بداية تلمس طريقها نحو صنع أمجاد الانعتاق. هنا شاءت الظروف التاريخية والتطورات التي أعقبت العقد الأول لفرض "الحماية" أن يتقابلا الاثنين في مواجهة مباشرة وجها لوجه..
وكثيرة هي القضايا السياسية والاشكالات التاريخية التي تطرحها هذه الحرب التحررية، لاسيما إعلان "الجمهورية الريفية" في سياق زمني اتسم بالحرب والمقاومة من أجل الاستقلال إبان عشرينيات القرن الماضي بقيادة الأمير الخطابي، لا سيما بعد معركة أنوال التي ستظل وصمة عار في جبين القوى الاستعمارية، خاصة اسبانيا.
يحمل كتاب "نصوص ورسائل حول الثورة الريفية 1924- 1925" عدة مذكرات ووثائق كان قد رفعها الماريشال- المقيم العام الفرنسي ليوطي إلى مختلف المسؤولين الفرنسيين من رئيس الحكومة ووزراء الخارجية والشؤون الحربية، وهي الوثائق والنصوص التي ترسم صورة عن هذه القضايا والاشكالات التي برزت مع اندلاع وتوهج الثورة الريفية.
كما أنها وثائق ونصوص تعكس في المجمل مواقف ورؤى ونظرة كولونيالي ترك بصمته الواضحة في المغرب الحديث وتترجم مواقف فرنسا من تطورات الأحداث على مختلف الجبهات طيلة مرحلة 1921- 1926 من خلال عيون أشهر مقيم عام بالمغرب(1912- 1925) و"الأب الروحي" ل "الحماية" الفرنسية، ونظرة هذا الأخير تجاه الزعيم ابن عبد الكريم، وهي الوثائق والرسائل التي عرضها وقدم لها ابن أخ الماريشال، بيير ليوطي، ضمن كتاب صدر ما بين 1953 و 1957 ضمن 4 أجزاء، وترجم جزء من هذه النصوص ذ. عز الدين الخطابي.
استقلال الريف
لقد كان أشد ما يريد تفاديه المقيم العام ليوطي هو استقلال الريف وإعلان كيان مستقل يشكل تهديدا للوجود الاستعماري ككل. ومن ضمن ما يعبر عن هذا الموقف، ما تضمنته إحدى المراسلات التي يتحدث فيها ليوطي قائلا: عبد الكريم زعيم ريفي يطمح لاستقلال الغرب الافريقي المسلم وافريقيا الشمالية والذي يشكل خطورة عن المغرب الفرنسي.
ومن جملة ما تحمله هذه الوثائق وتعكس مواقف المقيم العام تجاه الثورة الريفية أيضا، ما كتبه هذا الأخير: "عبد الكريم مقتنع بشعار حق الشعوب في تقرير مصيرها"، وهو سياق تأسيس "جمهورية الريف" وسعي الخطابي إلى فتح مفاوضات مع فرنسا على أساس تحقيق السلام والهدنة المتبادلة والاعتراف بالريف واستقلاله، إلا أن فرنسا رفضت الاعتراف بهذا الاستقلال، حيث أن كتاب نصوص ورسائل ليوطي يؤكد على أن "التنسيق السياسي بين ليوطي والسلطات المخزنية كان مستمرا من أجل الحد من تأثير الثورة الريفية"! وهو العمل الذي تعزز من خلال ما كان يقوم به لوبي "الحزب الاستعماري" بتعبير الخطابي والذي كان يتحن كل الفرص للقضاء على "تمرد" القبائل، وذلك في إطار مهام "الحماية" والتي سبق أن تساءل بخصوصها ذ. محمد شفيق قائلا: حماية من ضد من؟ لكن ما كان يعبر حقيقة عن موقف الدولة "الحامية" من خلال عيون المقيم العام ليوطي هو ما يلي:" من خلال المحادثات المطولة التي تمت بين عبد الكريم والمقربين إليه، اتضح أنه مستعد لتوقيع معاهدة سلام، شريطة اعتراف فرنسا باستقلال الريف.
مقابل ذلك، كل الشروط الأخرى يعتبرها عبد الكريم ثانوية...وفي الواقع، فهناك اليوم شعب ريفي يطالب باستقلاله ويناضل من أجل هذا الاستقلال ويحارب ضد فرنسا. ولا يفهم عبد الكريم لماذا لا تريد فرنسا التي تدرك أمال الريفيين وطموحاتهم وترغب هي نفسها في السلام، توقيع معاهدة سلام تعترف فيها باستقلال الريف". كما يضيف ليوطي في واحدة من رسائله إلى وزير الشؤون الخارجية، السيد بريان، بتاريخ 31 يوليوز 1925، أي في أواخر أيام ليوطي في المغرب: "لقد كنت دوما على علم بخطر قيام دولة مستقلة بالريف، ليس فقط على المغرب، بل على افريقيا الشمالية برمتها".
هكذا إذن كانت فرنسا، وأساسا الماريشال ليوطي، يتمثل الثورة الريفية والإعلان عن تأسيس واستقلال الريف، وهو ما جعله يسعى للقضاء عليها وما تشكله من خطورة وتهديد على التواجد الفرنسي والاستعماري بالمغرب وشمال افريقيا ككل.
البرنامج الاستعماري
أمام ما أصبحت تشهده الجبهات الحربية على الحدود الفاصلة ما بين منطقة "الحماية" الفرنسية والمناطق المحررة من الاستعمار الاسباني والتابعة لمجال نفوذ "جمهورية الريف"، لم يعد ليوطي يفكر سوى في كيفية صد الهجمات العسكرية للقبائل الريفية، وهو ما جعله يضع برنامجا استعماريا للقضاء عن المقاومة الريفية وتحقيق "التهدئة" من خلال ما سماه ب "العمليات الكبرى والشاملة" والتي تطلبت منه عملا شاقا على مستوى تنظيم وإعادة تنظيم الجيش والادارة وإخضاع القبائل وتعزيز العمل العسكري والسياسي للقوات الفرنسية.
في هذا الصدد يقدم ليوطي ضمن وثيقة "توجيهات عامة بخصوص خطط سنة 1924" والهادفة إلى تحقيق "برنامج التهدئة"، جملة من خطوات خطة الحملة العسكرية، وفيها تستوقفنا هذه الفقرة التي تعكس موقف ورؤية "الأب الروحي" للمغرب الفرنسي، إذ يقول: "فهيمنة عبد الكريم على كل قبائل منطقتنا التي لم تخضع بعد، وذيوع صيت وهيبة هذا الزعيم الريفي، أصبحا مقلقين لنا، ولن نسمح له بأن يكون مركز جذب بالنسبة لكل من يطمح في استقلال الغرب الافريقي المسلم".
قبل أن يضيف: " إن تقدم عبد الكريم الناتج عن انتصاراته الأخيرة، يشكل تهديدا فعليا وخطيرا، بحيث لم يعد الأمر مقتصرا على الجانب المحلي للمسألة، بل أصبح مرتبط على الخصوص، بدعم وبتدخلات أجنبية تروم تشكيل دولة إسلامية مستقلة بشمال المغرب".
هكذا يبدو أن البرنامج الاستعماري لليوطي، والذي ظل في تواصل واتصال دائم برئيس الحكومة الفرنسية ووزيري الحرب والخارجية، كان يتضمن تعزيز الحملة الاستعمارية وسحق مقاومة القبائل والقضاء على التجربة التحررية للخطابي في مهدها.
ليوطي والخطابي.. وجها لوجه
أمام هول ما أصبحت تشكله الثورة الريفية بعد انتصاراتها ودحرها للقوات الاسبانية في واحدة من أكبر المعارك الحربية، والتي تسمى في التاريخ الاسباني ب "كارثة أنوال"، وكذا أمام امتدادات هذه الحرب التحررية في اتجاه المنطقة الجنوبية للريف، لم يكن ليوطي ينتظر سور وصول وتوافد، وبأقصى سرعة ممكنة، التعزيزات العسكرية وقد أصبح التواجد الاستعماري الفرنسي في كف عفريت وقاب قرسين أو أدنى نت التهديد والخطر الذي كان صداه يتردد ويحوم حول أحواز فاس، عاصمة المغرب "المحمي" والقابع تحت ظلال "الحماية". لكن، كيف كان ليوطي ينظر إلى الحل الريع؟.
الجواب تلخصه هذه الفقرة من رسالته إلى رئيس الحكومة ووزير الحربية، بتاريخ 17 ماي 1925:" يبدو أن لدينا حلا يعتبر من أفضل الحلول، ويتعلق الأمر بعملية صارمة وفورية مشتركة بين فرنسا واسبانيا، لكن على شرط أن تشارك فيها انجلترا". ومع اشتداد الحرب وتزايد رقعة امتداد الثورة الريفية، كان ليوطي نفسه يشتد به الألم، لذلك يخاطب رئيس الحكومة، وهو كله استعجال، قائلا: " وبما أن الهجوم هو الشرط لتدارك الوضعية، فإنه يتعين التخطيط لتحقيقه. أين؟ هناك نقطة واحدة وهي أجدير بخليج الحسيمة، حيث تتم العملية باشتراك فرنسي- اسباني، بل وانجليزي إذا أمكن. إذن علينا بأجدير، بأجدير، وفي أسرع وقت ممكن".
لكن، ورغم كل ذلك، فليوطي انهزم أمام الخطابي وفشل المقيم العام في دحر الثورة الريفية التي طالما نظر إليها بغير عين الارتياح والرضى. فشل ليوطي واستنجدت فرنسا "الحامية" بالجنيرال بيتان الذي جاء بوجه السرعة عله ينقذ ما يمكن انقاذه، وهو الذي يحمل صورة بطل الحرب العالمية الأولى المنقذ لوجه فرنسا.