تحرص الدولة العبرية منذ عقود، على اتباع سياسية الغموض بشأن برنامجها النووي، فيما كانت تعلن عن عمليات عسكرية أو استخباراتية نفذتها بشكل فوري أو بعد فترة زمنية محددة، ربما تمتد لسنوات.
لكن التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، فرضت واقعا جديدا، عمدت فيه إسرائيل إلى اللعب من وراء الكواليس في العديد من الأحداث بالمنطقة، وسط حالة من التعتيم الكامل، ما دفع خبراء إلى التأكيد على أن “سياسية الغموض التي تتبعها إسرائيل، لم تعد حكرا على برنامجها النووي فقط”.
تسريبات أجنبية
وفي السنوات الأخيرة، نفذت إسرائيل عمليات عديدة، تركزت في الغالب على الساحة السورية واللبنانية، دون أن تعلن مسؤوليتها بشكل صريح، لكنها حرصت على عدم نفي ما تردده وسائل الإعلام خارج الدولة العبرية.
ورسخ الإعلام العبري بشكل ملحوظ، مصطلح “طبقا لتسريبات أجنبية”، للحديث عن العمليات التي ينفذها جيش الإحتلال في هذه الساحات وغيرها.
وبنى المحللون الإسرائيليون تقديراتهم على أساس “التسريبات الأجنبية”، لدرجة أن بعضهم كان يتحدث عن دوافع إسرائيل لاغتيال سمير القنطار، على سبيل المثال، وفي كل مرة يذكر ذلك في تحليله ويستخدم عبارة “طبقا لتسريبات أجنبية”.
سياسة الغموض
وتتطابق مسألة عدم تأكيد إسرائيل أو نفيها لتنفيذ عمليات عسكرية محددة مع السياسة المتبعة بشأن برنامجها النووي، ما يعني أن الحديث يجري عن سياسات ممنهجة، انبثقت عن عمليات تقييم واستخلاص للدروس، أدت في النهاية إلى إشكالية لدى الأطراف المستهدفة التي فشلت في توجيه رد يتناسب مع حجم الضربة التي تلقتها.
ويمكن القول أن اغتيال العديد من علماء الذرة الإيرانيين في السنوات الأخيرة، أو تصفية قيادات رمزية بحزب الله اللبناني يصب في هذا الإتجاه.
ويقدر خبراء، أن الاستراتيجية الإسرائيلية الخاصة بتعميم “سياسة الغموض” لتتخطى البرنامج النووي وتشمل العمليات العسكرية التقليدية، جاءت نظرا لتغير طبيعة المواجهات بينها وبين من تعتبرهم أعداءا.
ففي الماضي، كان الجيش الإسرائيلي يعمل في الغالب ضد جيوش نظامية ويسعى لحسم معاركه بما في ذلك من خلال الردع، والذي قد يتأتى من خلال الحرب النفسية، والحديث عن عمليات من شأنها أن تزرع حالة من اليأس لدى الطرف الآخر، حتى ولو كانت كاذبة أو وهمية.
الحسم التدريجي
بيد أن السنوات الأخيرة شهدت ظهور استراتيجية يمكن تسميتها بـ”استراتيجية الحرب متعددة المراحل”، أو “الحسم التدريجي”، والذي يعتمد على استنزاف الخصوم عبر عمليات نوعية في المقام الأول، بصرف النظر عن تحقيق الردع المباشر والفوري، وهي الاستراتيجية التي برزت بشدة بشأن تعاطي إسرائيل مع حركة حماس في قطاع غزة، ما دفع العديد من معارضي تلك السياسة في دولة الاحتلال إلى توجيه التهم للجيش والحكومة بالتواطئ مع هذه الحركة أو الحرص على بقائها ومنحها مساحة معينة للعمل.
وينطبق الأمر ذاته على حزب الله اللبناني وحركة الجهاد الإسلامي، بيد أن تلك الاستراتيجية تتخطى التنظيمات غير الحكومية ليتم تنفيذها على دول، وعلى رأسها إيران وسوريا ودول أخرى.
صعوبة إثبات تورط إسرائيل
وبحسب محلل الشؤون العسكرية والاستخباراتية بصحيفة “معاريف”، يوسي ميلمان، لم تتمكن طهران من إثبات تورط الموساد الإسرائيلي في قتل علماء الذرة في السنوات الأخيرة، رغم يقينها الكامل بضلوع إسرائيل في ذلك، ولم يتمكن أحد من العثور على دليل واحد على وقوف الموساد وراء اغتيال عماد مغنية، ضابط عمليات حزب الله، عام 2008 في دمشق على الرغم من يقين المنظمة اللبنانية من الجهة التي قتلته.
ويؤكد ميلمان أن الحديث يجري عن حرب تواكب التطورات الجديدة، حيث أن أهداف تلك الحرب تختلف عن الحروب التقليدية، وتعتمد على عدم ترك أي فرصة للطرف الآخر لإثبات تورط الجهة المنفذة، ولا سيما وأن الأمر ربما ينطوي على تعاون غير مسبوق بين الجيش الإسرائيلي وجهاز الموساد، ولكل منهما معاييره، بيد أن معايير الأخير ربما طغت.
ويذهب المحلل الإسرائيلي إلى أن عمليات الرصد الاستخباراتي المكثف لأي شحنة سلاح تخرج من سوريا باتجاه لبنان، ومن ثم إرسال المقاتلات لقصفها، لا تتطلب خروج الجيش ببيان ليعلن عن نجاحه في ذلك، لأن الهدف ليس دعائيا ولكن الهدف هو تدمير الشحنة فحسب، مع العلم التام بأن المحاولات ستتكرر لا محالة.