شابت المرحلة الاخيرة للحرب البرية الكثير من القرارات المتسرعة و التقديرات الامنية الخاطئة. و حتى اخطاء في ايصال المعلومات بشكل يعاكس تماما الصورة المتميزة التي ظهرت عليها قوات التحالف طوال فترة الحرب. فخطة التطويق و الهجوم على البصرة تم وأدها في واشنطن خلال ساعات. ففي مساء يوم الاربعاء (بتوقيت الرياض) اجتمع المجلس الرئاسي ليستمع بوش الى تقارير الحرب. و بعد عرض سريع قال كولن باول ان الفرصة الان متاحة للرئيس ان يقرر متى تتوقف الحرب. فالجيش العراقي هزم و هو لا يقوم بغير محاولات الهرب. و نحن نقتل اعدادا كبيرة منهم بدون اي داع. و كان هذا الانطباع تعزز طوال يوم الاربعاء عندما بدأ القتال يتحول الى مذبحة. فالمخابرات العسكرية لا تجد فرقا عسكرية عراقية، و لا حتى الوية، و لا حتى كتائب لضربها.
"هل تريد يوما اخر؟" سأل الرئيس. و كان الرد ان يوما اخر لن يغير شيئا على الارض. فنحن لا نحارب عدوا منظما. و لا يوجد شيء للفيالق الاربعة لتضربه. و الحرس الجمهوري انتهى. و اتفق كل الحضور على ضرورة ان لا تتحول حرب نظيفة كحرب الخليج لمذبحة. فقد تم تحقيق اهداف الحرب الاستراتيجية: اخراج العراق من الكويت، و تدمير قدرة صدام على تهديد الدول المجاورة.
كون الجيش العراقي قد هزم فهذا امر مسلم به. اما حصار القوات العراقية الهاربة من الكويت فلم يكن واضحا. فقد قيل لتشيني قبل الاجتماع ان الحرس الجمهوري قد حوصر قبل انسحابه للبصرة. و هو نفس ما ورد في تقرير الاركان اليومي. و قد كان هذا خطأ فادحا في التقدير و ايصال المعلومة. فلم تصل القوات الامريكي لجنوب البصرة بعد ولم يتم قطع طريق الانسحاب للاليات العراقية الثقيلة المتوجهة شمالا. و بسبب صعوبة تنسيق الحركة بين الفيلق المدرع السابع و الفيلق 18 المجوقل. كان هناك فراغ بعرض 50 كم بين الفيلقين. و قد هربت معظم فرق الحرس الجمهوري الثلاث الباقية: عدنان و نبوخذنصر و الفاو عبر هذا الفراغ نحو منطقة الفرات او البصرة. اما الدروع فقد كانت دروع فرقتين تقريبا تنتظر دورها لعبور جسور مؤقتة انشئت على شط البصرة. و رغم غارات الاباتشي و القاذفات فلم يتم تدميرها بشكل كلي.
و كان لشوارتزكوف بعض الذنب في هذا الخطأ. حيث اعلن في مؤتمره الصحفي - قبل الاجتماع مع الرئيس- ان قواته حققت اهدافها و سيكون سعيدا متى ما طلب الرئيس وقف اطلاق النار. و استخدم كلام مثل ان البوابة اغلقت و ان لا مجال للهرب و ان كل فرق الحرس الجمهوري دمرت ما عدا اثنتين ما زالتا تقاتلان. و لكن عندما سئل هل امسكت قواته طريق الانسحاب للبصرة اجاب ب "لا". و اضطر ان يوضح انه يقصد انه لا مجال لانسحاب الاليات الثقيلة كالدبابات و المدفعية. اما الجنود فمن المكن لهم الهرب نحو البصرة.
رابط لموضوع يحوي المؤتمر الصحفيعموما شرح باول للرئيس ان بعض الطيارين بدأو يشتكون ان الغارات على عدو بهذا الحال المزري لم يعد قتالا عادلا. و ان ضرب العدو بعد هزيمته الماحقة له كلفة نفسية على الجيش بشكل عام. طلب الرئيس رأي شوارتزكوف و سأله باول على الهاتف في الاجتماع باسلوب ذي دلالة: عرضنا الموقف و التفكير العام هو نحو انهاء الحرب الليلة، ما رأيك؟ كان الجواب: لا مانع. و نشير الى ان سلاح الجو طلب يوما اخر لاكمال تدمير الحرس الجمهوري لكن شوارتزكوف لم يطرح الامر على الرئيس.
و كانت المسألة الاخيرة هي كيف و متى سيتم وقف اطلاق النار. و عوضا عن اعلانه بالطريقة التقليدية، مما يوحي بوجود مفاوضات، فسيقوم الامريكيون بفرض "توقف للعمليات العسكرية" بشكل احادي بشكل يبقى الخيار لهم بالعودة للقتال لو ارادوا. و بالنسبة للتوقيت فقد اقترح باول ان يتم الامر الساعة 8 صباح الخميس بتوقيت الرياض. مما سيعطي عدة ساعات بعد خطاب الرئيس و كذلك سيعطي قواته ساعتين من ضوء الفجر لعمل اي عمل عسكري ضروري.
في قيادة شوارتزكوف كان الانطباع ان الحرب فعلا قد انتهت. فلم يبق اي اهداف لتدميرها، و احتلال البصرة لا معنى له بدون اكمال الاندفاع لبغداد. و كانت التقديرات ان الجيش العراقي المنكسر في البصرة سيقوم على الارجح بتمرد مسلح. و قد تفاجأت قيادة سلاح الجو بسرعة انتهاء القتال البري و حاولوا الحصول على اذن ببعض الغارات على مواقع مكتشفة حديثا في بغداد. و كانت المزحة ان الجيش الامريكي يحاول ان يكسر رقم الجيش الاسرائيلي بهزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 ب 6 ايام.
و قد كان لسلاح الجو فرصة تجربة قنبلة جديدة تزن اكثر من طنين! و كانت صنعت حديثا لاختراق تحصينات بسمك اكثر من 4 متر من الاسمنت المسلح. حيث كان يوجد ملجأ في معسكر التاجي لم تنجح معه كل قنابل الحلفاء. و كان الملجأ مستخدم من قبل القيادة العراقية و كان سلاح الجو يأمل ان يكون صدام هناك. تم تدمير الملجأ و لكن لم يكن الرئيس العراقي هناك.
عموما حين اعلن شوارتزكوف القرار لجنرالاته على الارض اصيبوا بالدهشة. فما اعلن هو ليس وقف اطلاق نار. بل من الممكن العودة للقتال لو استمر العدو به. و لكن لماذا؟ كان رد شوارتزكوف ان ما حصل في المطلاع اثر في الادارة. "و ماذا عن حصار البصرة؟ لماذا لا ننفذه؟" لأن الادارة قررت ذلك كان الجواب.
بالنسبة للحلفاء فقد ابدى الانجليز بعض الاعتراض. فقواتهم على الارض نقلت لهم الصورة كاملة و كان هناك نقاش مع الرئيس بوش الذي اكد ان الحملة حققت اهدافها و لكن الانجليز لم يقتنعوا. و الكثير من قادة الفرق لم يكونوا مقتنعين بالقرار الصادر و قد ارادوا يوما او يومين لانهاء اعمال القتال. و استمر نقاش طويل لسنوات بعد الحرب بعد ان تبين حجم القوات العراقية التي نجت.
و كانت تقديرات الاستخبارات اللاحقة ان نحو 80 الف جندي تمكن من الهرب للبصرة. و ان حوالي ثلث دبابات T-72 تمكنت من الانسحاب نحو البصرة. و رغم ان الحرس الجمهوري ضرب بقوة، فان وحدات كاملة تمكنت من الانسحاب بدون اي مشاكل. لام شوارتزكوف الفيلق المدرع على هذا التقصير، لكن العدل يشير اللى انه هو من كان يجب ان يطرح استمرار القتال لفترة اطول لانهاء المهمة. و اما الغضب الشعبي على ما حصل في طريق الموت، فلم يحصل. و لكن من ناحية الاخرى، لا يوجد دليل على ان وجود هذه القوات من عدمه كان له اي تأثير على مجريات الامور لاحقا. فالعراق ابقى حوالي ثلث قواته شمال نهر الفرات مع حوالي 3000 الية ثقيلة تشمل مئات الدبابات و ايضا حوالي 1000 قطعة مدفعية. و هذه لم تضرب الا قليلا و لم تقاتل بريا بعد.
و قد تراوحت التقديرات حول خسائر العراق في الحرب. و كان تقدير الاستخبارات بعد الحرب بسنتين ان العراق يملك 40% من المعدات التي كان يملكها قبل غزو الكويت. وان اكبر النقص كان في المعدات الحديثة. و طبعا انتهى سلاح الجو و شبكة الدفاع الجوي العراقي المركزية. و كانت تقدير الخسائر حوالي 10-12 الف قتيل اثناء القصف الجوي و مثل هذا العدد في 4 ايام من الحرب البرية.
و كانت النكتة ان الاخبار وصلت الفيلق المدرع ان وقف اطلاق النار هو الساعة 8 مساء و ليس صباحا. و لعدة ساعات كان الفيلق المكلف بمطاردة الجيش العراق و حصاره متوقفا عن القتال. و في الساعة 3 فجرا تم تصحيح الموقف و اخبارهم ان امامهم 5 ساعات لعمل ما يريدون عمله. و بالنسبة للفيلق المجوقل، فقد كان الاعلان الخاطئ كافيا لالغاء انزال على طريق البصرة العمارة. و كان الغضب شديدا عندما جاء التوقيت الصحيح و كان غير كاف حتى لارسال طائرات المروحيات في غارة جديدة.
و خطأ اخر كان ايقاف تقدم لواء من الفرقة الثالثة المدرعة - بسبب حادث نيران صديقة - نحو منطقة صفوان. و عدم سماع قائد الفرقة لقرار اكمال الهجوم بعدها ب 15 دقيقة. و بالتالي بقيت صفوان بيد العراقيين دون ان يعرف الامريكيون ذلك حتى جاء وقف اطلاق النار و قرر الامريكيون ان يتم عمل المفاوضات هناك ظنا انها معهم!
وسط هذا الاهمال الامريكي الجيسيم، كان العراق اكثر من مسرور بقبول وقف اطلاق النار باي صبغة كانت. و تم تثبيت الهدنة - ما خلا بعض الاشتباكات المتفرقة - على طول مسرح العمليات لمدة يومين. و صباح يوم 2 مارس وصلت تقارير عن توجه موكب على الطريق السريع رقم 8 نحو القوات الامريكية. "راقب و لا تطلق النار الا لو تم اطلاق النار عليك". كانت تعليمات الجانب الامريكي.
اظهر استطلاع المروحيات ان سلاح الهندسة العراقي يقوم بعمل ممر من خلال هور الحمار لتمر قواته من جانب المناطق التي تم قصفها بالقنابل العنقودية. و قد توجهت مئتي مركبة نحو الشمال و مئات المركبات نحو غرب باتجاه القوات الامريكية. انها الفرقة حمورابي!
بعد ساعة تم اطلاق قذيقة مضادة للدروع من الجانب العراقي. رد عليها الامريكيون. و بدأ العراقيون بناورون بدروعهم بشكل يشي بنوايا قتالية مع تحريك مدافع مدرعاتهم نحو القوات الامريكية. و كان هذا اكثر من كاف للامريكان لبدء القتال. و استمر القتال لعدة ساعات حتى العصر. مع تدمير 30 دبابة عراقية و 147 مدرعة و 400 شاحنة. و خسر الامريكيون دبابتين و جرح جندي امريكي واحد. كانت هذه معركة حقل الرميلة. و لا شك ان وقوع هذه المعركة العنيفة و المنسية بين لواء مدرع عراقي و القوات الامريكي بعد يومين من وقف اطلاق النار امر يتناسب مع ما حصل من فوضى في اخر ايام الحرب البرية.
R. Atkinson - Crusade