هذه المقاربة الإقليمية المعمَّقة أُعِدَّت كجزءٍ من مشروع "إعادة النظر في العلاقات المدنية-العسكرية 2014-2015: الحوكمة السياسية والاقتصادية في المرحلة الانتقالية" الذي وضعه مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي يسعى إلى ترقية البحث حول القوات المسلحة في الدول العربية وتحديات الانتقال الديمقراطي.
----------
لايزال سلك ضباط الجيش السوري متماسكاً، على الرغم من الضغوط الهائلة التي تعرّض إليها خلال نحو سنوات أربع من النزاع المدني والعسكري، وهي حقيقة منعت سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. نظام السكن العسكري عاملٌ حاسم في تحقيق هذا التماسك، إذ هو يتكشّف عن طبيعة العالم الذي يقطنه الضباط السوريون، وعن العلاقات مع النظام والمجتمع السوري الأوسع، وعن أسباب انشقاق قلة منهم حتى الآن.
في حين حدثت انشقاقات عدّة في سلاح المشاة، إلا أنه لم يحدث أن انشقت وحدة مقاتلة برمتها، لأن مثل هذه الخطوة قد تتطلب مشاركة ضباط كبار ومتوسطي الرتبة. والواقع أن نواة سلك الضباط بقيت إلى جانب الرئيس السوري. لقد تمت الإشارة غالباً إلى حقيقة أن غالبية الضباط يتحدّرون من الطائفة العلوية السورية، كسببٍ رئيس، وربما وحيد، لتماسك الجيش منذ العام 2011. بيد أن هذا التفسير يُغالي في تضخيم دور الانتماءات الطائفية.
لدى ضباط الجيش مداخل إلى نظام خدمات يربط تقريباً كل مجالات حياتهم المهنية والشخصية بالنظام، وهذا يضعهم على طرفَي نقيض في العلاقة مع بقية المجتمع. وتكشف ضاحية الأسد في شمال شرق دمشق، وهي أكبر مجمّع سكن عسكري، كيف يعمل مثل هذا النظام. هذا المجمّع، الذي يُعرف باللغة المحكية السورية بـ"الضاحية" يوفّر للضباط فرصة تملُّك عقار في دمشق. وبما أن العديد من الضباط يتحدّرون من خلفيات ريفية مُفقَرَة، فإن تملُّك منزل في العاصمة يتجاوز إمكانياتهم المالية. مشاريع السكن العسكري منحتهم فرصة الترقي الاجتماعي، بيد أن المجتمع المحلّي الذي يقطنه الضباط وعائلاتهم داخل الضاحية، يُعزز بروز هوية متميّزة تفصلهم عن بقية المجتمع السوري الأوسع، وتجعلهم معتمدين على النظام.
بيد أن الفوائد التي توفّرها الضاحية لها ثمن فادح. فبعد انتقالهم إلى السكن العسكري، يستكمل الضباط عملياً استتباعهم، رابطين مصيرهم الشخصي ومصير عائلاتهم ببقاء النظام. كل مقومات حياة الضابط، والاحترام الاجتماعي الذي يترافق معها، تأتي بالتالي من النظام وتعتمد عليه.
في العام 2000، عند وفاة الرئيس آنذاك حافظ الأسد، أرسل العديد من ضباط ضاحية الأسد عائلاتهم إلى قراهم بانتظار حصيلة عملية الخلافة، ولم تعد هذه العائلات إلا بعد أن تم تثبيت بشار كرئيس جديد. لقد فهم الضباط أن حياتهم في دمشق مشروطة ببقاء النظام وليس بوضعيتهم كموظفي دولة أو عناصر في السلك العسكري.
تم توسيع برامج السكن العسكري على نطاق واسع في فترة الثمانينيات، لكن منذ ذلك الحين لم يؤدِّ ذلك إلى ترقية التضامن بين الضباط من مختلف الطوائف، خاصة من الطائفتين السنّية والعلوية. ومع ذلك، تدفع فوائد السكن العسكري إلى لمّ شمل الضباط كأمر واقع، لحماية مصالحهم المادية المشتركة منذ انتفاضة العام 2011.
تشي عملية التطوير العشوائية للضاحية بأن دورها في لحم مشاعر الولاء للنظام لم تكن مقصودة، بل كانت حصيلة غير متعمّدة لسنوات طوال من سوء الإدارة ومحاباة الأقارب. وهكذا، كان في مقدور النظام الاستناد إلى الفساد الداخلي في الضاحية وعزلتها عن المجتمع الأوسع لتعزيز علاقاته بالضباط الذين يعيشون هناك، وتأمين ولائهم الذي لايتزعزع. وحين انحدرت الانتفاضة إلى حرب أهلية شاملة، صبّت غيتوية سلك الضباط في خانة النظام، ودفعت العديد من الضباط إلى اعتبار الثورة تهديداً شخصياً لأصولهم المادية ونمط حياتهم.
وبالتالي، ماجعل سلك الضباط متماسكاً هو إلى حدٍّ بعيد مسألة حماية نظام النفعيات لا الالتزام بولاء إيديولوجي صارم. وعلى الرغم من حدوث انشقاقات فردية في صفوف الضباط الذين يعيشون خارج نظام السكن العسكري، إلا أنه لم تُسجَّل منذ أواسط 2015 سوى حادثة واحدة ترك فيها ضابط ضاحية الأسد كي ينضم إلى المعارضة. وهذا الضابط كان على أي حال متقاعدا. لقد تحوّلت الضاحية من منطقة سكنية إلى مايشبه قاعدة عسكرية شديدة التحصين، يعتبر الضباط أنهم قادرون فيها على الدفاع عن أنفسهم بشكل مشترك، وبالاستتباع عن الجيش برمته والنظام السوري.
ضاحية الأسد: هدية الرئيس
يوجد في سورية نظامان للسكن العسكري: الأول، يوفّر للضباط وعائلاتهم السكن في مجمّعات الجيش خلال الخدمة الفعلية - على غرار منطقة الإسكان في قطنا في دمشق، والريان في حمص، وصيدا في درعا - من دون منح الملكية إلى الضباط. والنظام الثاني، هو برنامج شراء منزل مدعوم من الدولة يمكّن الضباط من شراء بيوت بأسعار متهاودة في مناطق سكنية يديرها الجيش. نظرياً، أي ضابط يمكن أن يتقدّم بطلبٍ تسجيل على منزل، بيد أن الحصول عليه يعتمد إلى حدٍّ كبير على مِنَّة من أولئك الذين يقبعون في السلطة كأمر واقع، أو يملكون سلطة منح أو حجب الملكية.
ضاحية الأسد هي حتى الآن أكبر نموذج لبرنامج شراء منزل بدعمٍ من الدولة. البرامج الأخرى موجودة في دير الزور، وحلب، وطرطوس. في العام 2003، أنهى الجيش برنامجاً كان يعطي الضباط الجدد فرصة التقدم بطلب امتلاك منزل في مجمّعات سكنية عسكرية، ووضع بدلاً منه في العام 2005 برنامج قرض بمبلغ مليون ليرة سورية (نحو 20 ألف دولار) للضابط، يتم تقسيطه من الراتب الشهري. وهذا حدّ من عرض المنازل في الضاحية وفي مناطق ينطبق عليها برنامج السكن العسكري نفسه، ما جعل المنازل القائمة أكثر قيمة ومدار اشتهاء.
من غير المحتمل أن تكون ضاحية الأسد قد صُمِّمت أصلاً لتكون جزءاً من خطة النظام بعيدة المدى للحفاظ على تماسك سلك الضباط. ففي البداية، كانت هذه المنطقة توفّر المنازل لضباط الجيش، ولاحقاً أصبحت هدف استثمارات ومضاربات في الملكية التجارية. والحال أن دعم سلك الضباط بقوة للنظام، لم يكن حصيلة مفروغ منها حين بدأت الانتفاضة في العام 2011، لكن النظام استند إلى عقود من سوء الإدارة، والفساد، والزبائنية، لضمان ولاء الضباط ولتحويل الضاحية إلى معقل للجيش وللدعم الإيديولوجي.
التطوير العشوائي
بُنيت ضاحية الأسد أولاً في العام 1982، بعد أن أصدر حافظ الأسد مرسوماً تنفيذياً قضى بتشييد منازل للضباط وعائلاتهم. واللوحة المعدنية عند المدخل الرئيس للضاحية لاتزال تعلن أن هذه "هدية الرئيس حافظ الأسد إلى ضباط الجيش العربي السوري وعائلاتهم".
بدأ تشييد الضاحية بإشراف شركة الإسكان العسكري، لكن مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية تحمّلت مسؤولية المشروع منذ أواخر الثمانينيات. شركة الإسكان العسكري، التي تُشرف عليها وزارة الدفاع، هي أرفع مؤسسة مسؤولة عن الإسكان العسكري في سورية. وفي حين أنها لاتقوم هي نفسها بعمليات البناء، إلا أنها المقاول الرئيس للإسكان العسكري، وهي المسؤول النهائي عن كل الأعمال التي تجري في الضاحية. أما مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، فهي بالفعل عبارة عن شركة عقارات ومقاول عام، وتدير العديد من مشاريع القطاع العام والخاص.
صُمِّمَ البناء كي يجري في إطار سلسلة من خطط التطوير متعدّدة الطبقات، وتضمنت التنسيق مع مختلف المؤسسات الحكومية لتوفير الخدمات الضرورية. آنذاك، وضع مصطفى طلاس، الذي كان وزيراً للدفاع، حجر الأساس للمجمّع السكني في العام 1985، وبدأ الضباط ينتقلون إليه في أوائل التسعينيات.
وبدءاً من آذار/مارس 2011، غطى المشروع 250 هكتاراً (الهكتار عشرة آلاف متر مربع) ووفّر السكن لأكثر من 100 ألف نسمة.
على عكس الانطباع الشعبي، ليست منطقة الضاحية السكنية فخمة ولا هي موطن كبار الضباط. وعلى الرغم من تنامي سكانها، لاتزال معظم مناطق الضاحية تفتقد إلى خدمات أساسية رئيسة. لا بل تُعتبر نوعية وتوافر الخدمات في الضاحية متأخرَيْن كثيراً عن الأحياء الأخرى في العاصمة السورية، بسبب نقص التنسيق بين مؤسسات الإسكان العسكري وبين الحكومة المدنية التي توفّر الخدمات.5 فالشوارع تحتاج إلى ترميم، والمياه والكهرباء تنقطعان مرارا. وفي حين أن ثمة مساحات واسعة من الأراضي غير المستعملة، إلا أن المنطقة تفتقد إلى الفضاءات العامة أو الحدائق الواسعة. النقل العام من الضاحية وإليها ليس كافياً أيضاً، نظراً إلى حجم السكان والموقع الجغرافي. أول مخبز حكومي في الضاحية افتُتِحَ في العام 2014، وحتى العام 2009 لم يكن يعمل سوى مكب نفايات كبير يخدم بلدة التل المجاورة قرب مدخل الضاحية. إحراق النفايات أمر معتاد في الضاحية، ومكب النفايات فيها غالباً مايجذب الكلاب الضالّة المتوحشة.
تمديُن السكن العسكري
أثارت الإصلاحات الاقتصادية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين موجة سريعة من تضخم أسعار العقارات واندفاعاً للاستثمار في الضاحية، مافاقم أوضاع البنى التحتية الفوضوية فيها. وضعية ضاحية الأسد الفريدة سهّلت أيضاً هذه العملية. فعلى عكس المناطق الأخرى في سورية، لايتم تسجيل العقارات لدى وزارة الإدارة المحلية، لأن مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية هي التي تملك الأرض التي بُنيَت عليها الضاحية، وبالتالي هي وحدها الحائزة على السلطة التامة لاتخاذ القرار حول مشاريع البناء الجديدة ومبيعات الملكية. وبفضل هذه الوضعية الخاصة، للمؤسسة حيّزٌ واسعٌ للمناورة حيال إبرام عقود بناء جديدة للسكن المدني والشركات الخاصة التي يمتلك معظمها أعضاء النظام وأتباعهم. خلال العقد الماضي، غرقت المؤسسة في بحر الأموال النقدية غداة ازدهار البناء في الضاحية، وهذا بدروه جذب موجة جديدة من الأشخاص المرتبطين بالنظام ومعهم موجة أخرى من الفساد.
بفضل هذه المؤسسة، تلقّت ضاحية الأسد دفقاً كبيراً من السكان المدنيين خلال العقد الماضي. وعلى الرغم من عدم توافر إحصاءات رسمية، إلا أن مقابلات أُجريت مع سكان هناك في العام 2011، أشارت إلى أن 60 في المئة من القاطنين في الضاحية كانوا ضباطاً (بما في ذلك الضباط قيد الخدمة والضباط المتقاعدين، وعناصر أجهزة المخابرات وعناصر أمنية أخرى)، و40 في المئة كانوا من المدنيين. وأكدت مقابلات لاحقة مع سكان مدنيين وعسكريين في آن بروز تغيّر ملحوظ في تركيبة المنطقة عشيةَ اندلاع انتفاضة العام 2011. فقد أصبحت الضاحية مدنية وتوقفت عن كونها، كما قال أحد السكان، مرتعاً للضباط وعائلاتهم فقط.
هذا الدفق المدني جعل سلك الضباط أكثر حنكة تجارياً، بعد أن ازدهرت أسعار العقارات خلال العقد الماضي وزادت من قيمة المنازل هناك. وهكذا بدأ الضباط يُطلّون على منازلهم بكونها أصولاً مالية. وفي مناطق الضاحية الأكثر ثراء، مثل الجوية أو الأمجاد، ارتفعت أسعار المنازل إلى 30 مليون ليرة سورية (أي نحو 600 ألف دولار قبل اندلاع الانتفاضة) أو أكثر، هذا على الرغم من أن رواتب الضباط لاتمكّنهم من تحمّل سعر شقة قيمتها نحو مليوني ليرة سورية (40 ألف دولار) حتى بعد خدمة تدوم 30 سنة.
العائلات غير العسكرية التي انتقلت إلى الضاحية، خاصة خلال السنوات الخمس قبل الانتفاضة، جعلت العديد من سكان مدينة دمشق يعتقدون أن المنطقة أصبحت ضاحية سكنية للعاصمة، مثلها مثل أي ضاحية أخرى. ولاحظ أحد السكان المدنيين السابقين قائلاً: "بحلول العام 2007، لم يعد في وسعنا القول إنها منطقة سكن عسكري". بيد أن الانتفاضة التي تحوّلت إلى حرب أهلية أظهرت أن مشاعر المدنيين الجدد في الضاحية كانت مجرد مظهر مخادع لما أصبح بالفعل حيّاً عسكريّاً.
غيتو الضباط
نظام خدمات
كان الجيش يعمد عادة إلى صياغة عملية شراء منزل في الضاحية على أنها بمثابة التزام مدى الحياة للنظام. فغداة تخرجه برتبة ملازم أوّل - وهي الرتبة الأولية للضابط في الجيش - يدخل الطالب في الكلية الحربية فترة انتظار تتراوح بين 10 إلى 15 سنة، يتم خلالها اقتطاع 5-7 في المئة من راتبه كدفعة أولى محتملة لشراء منزل. خلال هذه المرحلة أيضاً، يبقى العسكريون وعائلاتهم في مساكن عسكربة مجانية مؤقتة. ويحتاج الضباط دوماً إلى روابط نافذة كي يتمكنوا من شراء وحدة سكنية في ضاحية الأسد. ومثل هذه الحيازة تحتاج عادةً إلى 20 سنة أخرى من المدفوعات عبر اقتطاعات شهرية من الراتب.
تستقبل الضاحية غالباً ضباط الرتب المتوسطة، حيث أن رتب الغالبية الكاسحة من سلك الضباط هناك تتراوح بين رائد وعميد، ويعيش أقل من دزينة من هؤلاء الأخيرين في الضاحية. أما الضباط من ذوي الرتب الأعلى، فيقطنون مناطق النخبة داخل دمشق.
وفّر الإسكان العسكري للكثير من الضباط فرصة نادرة لارتقاء السلّم الاجتماعي. فضابط الجيش النموذجي الذي يعيش في ضاحية الأسد ينتمي إلى الطبقة الوسطى-الدنيا، بغض النظر عن طائفته، ويتحدّر من الريف أو المناطق الساحلية حيث الآفاق الاقتصادية كالحة. الضباط العلويون يأتون غالباً من المناطق الساحلية في جبلة، واللاذقية، وطرطوس، فيما الضباط السنّة يأتون في الغالب من الضواحي الريفية للحواضر المدينية الكبرى، على غرار حلب ودرعا والرقة. ومع ذلك، يتشاطر الضباط العلويون والسنّة تنشئة اجتماعية-اقتصادية متشابهة، ومعها تطلعات متطابقة للترقي الاجتماعي. الجيش هو أحد المداخل القليلة المفتوحة أمام الشبان، وهو يوفّر لهم درجة من الوضعية الاجتماعية، والأجر اللائق، وآفاق تملّك منزل (في العاصمة التي يعتبرها الكثيرون ذروة النجاح الشخصي). كما يُعتبر المنزل في الضاحية مكاناً يستطيع الضباط العيش فيه فيما هم يقومون بالخدمة، ثم يمكنهم أن يتقاعدوا فيه.
الانتقال إلى دمشق يحسِّن كذلك الرصيد الاجتماعي لكل أفراد عائلة الضابط. فالسكنى في الضاحية توفِّر لأطفال الضابط فرصة الترعرع والدراسة في العاصمة. وقد تحدّث عميد متقاعد عاش في الضاحية لمدة 30 عاماً، أولاً في مسكن عسكري مؤقت ثم لاحقاً في منزله الخاص، عن فوائد العيش في الضاحية لأطفاله الأربعة: "بعد أن تملّكت شقتي، باتت حياتنا أكثر استقراراً ونما لدينا الأمل بمستقبل أفضل لأطفالنا. فلأننا كنا نعيش في العاصمة، سيتمكّن أطفالنا من الدراسة في جامعة دمشق". وأشار الضابط إلى فوائد أخرى مثل الدخول المجاني إلى مستشفيات الجيش في أي مكان في البلاد لكل أفراد عائلته، بما في ذلك مستشفى تشرين الأكثر حداثة في سورية والذي يقع أيضاً في الضاحية.
ثمة منافع أخرى وراء العيش في الضاحية. وهذه يمكن تلمّسها حين ندخل إلى بيوت الضباط. علاوةً على ذلك، هناك البطانيات والصابون الذي يصدّره الجيش، والخبز الذي يأتي من مكاتب عسكرية خاصة، وبطاقات الوقود. كل هذا يُقدَّم إلى الضباط بأسعار متهاودة أو مجّانا. يتلقى الضباط أيضاً اشتراكات مجانية في كل الصحف الحكومية الثلاث (الثورة، وتشرين، والبعث). ويستلم كل ضابط شهادة إتمام التدريب العسكري موقّعة شخصياً من الرئيس، جنباً إلى جنب مع صورة التُقطت مع الرئيس تُعلَّق على أحد جدران غرفة الجلوس.
قد لاتبدو هذه الأمور ترفاً كتلك السلع التي قد يرومها ساكن دمشقي ثري، لكن الضباط يثمّنون هذه العطايا لأنهم يتحدّرون غالباً من الطبقة الوسطى-الدنيا أو من أصول ريفية.
نمط من التضامن
إلى جانب الفوائد المادية، يُعتبر نظام السكن العسكري مركزياً لتنمية هوية مشتركة بين الضباط من ذوي الرتب المتوسطة. فالسكنى في الضاحية هي نمط حياة كلّي وشامل. إذ أن العيش معاً مع أشخاص يتأقلمون مع حياة المدن، يساعد على بناء الشعور بالتضامن. ثم أن الضاحية أيضاً مكان يمكن فيه للضباط التباهي بإنجازاتهم الاجتماعية، والتي يحوطها العديد بعد ذلك بعناية فائقة.
بيد أن السكنى في الضاحية تضع الضباط وعائلاتهم بين رحى عالمَيْن: المدينة التي يعيشون على حوافيها والقرى التي أتوا منها. في العاصمة، يُعتبرون من الريف، وفي القرى والقصبات التي أتوا منها يُعتبَرون من أهل المدن. مثل هذه الهوية الهجينة تعزّز ارتباط الضباط بالضاحية مع كل ماتمثّل، وهي منتشرة على نطاق واسع بين أطفال الضباط الذين ترعرعوا في الضاحية وأرسوا هويتهم على أرضها.
عزل المجتمع الأوسع والانعزال عنه
تؤدي الفوائد المتوافرة للضباط، جنباً إلى جنب مع تشاطر الهوية التي تتغذى من وقائع الضاحية وموقعها، إلى حشر الضباط في غيتوات داخل محيط الضاحية. وهكذا، فإن ضاحية الأسد ليس لديها سوى حفنة من العلاقات الرسمية وغير الرسمية مع المناطق المجاورة لها. ففي حقبة الثمانينيات، لم يكن هناك سوى القليل من التفاعل بين الضاحية وبين مناطق البرزة ودوما وحرستا. وفي أعقاب الإصلاحات الاقتصادية في التسعينيات وفي العقد الأول الماضي، افتتح بعض سكان دوما وحرستا مشاريع صغيرة في الضاحية، بما في ذلك أسواق مركزية، وأسواق خضار، ومتاجر جزارة. بيد أن هذه الأشكال من التفاعلات التجارية والاجتماعية كانت الاستثناء لا القاعدة. أما طلاب الضاحية فكانوا يُرسَلون إلى معسكرات الطليعة التابعة لحزب البعث في دوما. ولأن الضاحية بقيت تابعة لحرستا إدارياً، فإن سكانها كانوا يتوجهون إلى هناك للحصول على بعض الخدمات الرسمية والمستندات الرسمية.
إن عطايا الجيش والتأقلم الاجتماعي للضباط في الضاحية، يمنحا هؤلاء الحافز للبقاء حيث هم مُرحَّب بهم. ويفاقم هذا التوجّه التعبيرُ العامّي الازدرائي الذي يُطلَق على سكان الضاحية، وهو "جيش أبو شحّاطة"، لأنهم يُعتبرون غير متعلمين، وريفيين، وينتمون إلى أصول اجتماعية-اقتصادية خفيضة. والضباط الذين يعرفون هذه الإطلالة عليهم، لايرون أي بدائل معقولة لهم خارج السلك العسكري في الحياة الثقافية في دمشق، حيث يتوقعون أن يُعامَلوا بدونية.
مع انتفاضة العام 2011، ازدادت الهوة بين سكان الضاحية وبين من هم خارجها. فبالنسبة إلى المجتمع السوري الأوسع، الشخص الذي يعيش في الضاحية مرتبطٌ بالنظام لامحالة. وهذا مايُعزّز الموقف الدفاعي لدى هؤلاء الضباط في الضاحية في مواجهة بقية المجتمع. فسواء كان الضباط على المستوى الشخصي يدعمون نظام الأسد أم لا، فإن مجرد إقامتهم في ضاحية الأسد، ومواقعهم في الجيش، وغالباً طوائفهم وأصولهم، تؤدّي كلها دوراً في تواصل الانطباع لدى الضباط بأنهم مستهدفون من جانب أنصار المعارضة.
روابط في مايتعدى الطائفة
لاتلعب الطائفة دوراً رسمياً في الجيش أو في الضاحية، لأن هذا يجافي مزاعم النظام العلمانية. بيد أن السكن العسكري لم يجسر الهوة بين ضباط الجيش المنتمين إلى مختلف الطوائف. الانقسام وانعدام الثقة تواصلا، لا بل تفاقما، بين العلويين وغير العلويين منذ اندلاع الانتفاضة. وحتى في داخل كل طائفة، كانت ثمة انقسامات على خطوط مناطقية وعائلية.
بيد أن نظام السكن العسكري لحم هؤلاء الضباط معاً كأمرٍ واقع للدفاع عن المزايا والوضعية اللتين أسبغتهما عليهم القطنى في الضاحية. وعلى الرغم من أن معظم الضباط هم من العلويين، لايبدو أن هناك فرقاً واضحاً بينهم وبين الضباط غير العلويين من حيث الطريقة التي يقلقون بها حيال التهديدات الخارجية. والواقع أن العديد من الضباط وضعوا جانباً انتماءاتهم الطائفية في سبيل تشجيع اللحمة في صفوف السلك العسكري.
على سبيل المثال، يعتبر ضابطٌ سنّي، هو أساساً من درعا لكنه يعيش الآن في الضاحية، نفسه ضابطاً أولاً وقبل كل شيء. وحين سُئل عمن يختار بين الضاحية ودرعا، أجاب بلا تردّد:" أنا من أهل الضاحية".
وعلى الرغم من أن الضابط لاحظ أن أجهزة الأمن ارتكبت أعمال عنف، إلا أنه أنحى بلائمة إطلاق العنان للفوضى على المعارضة. وشدّد على أن الضاحية بقيت آمنة بعد العام 2011، لكن الانتفاضة أثَّرت عليه شخصياً لأنها كانت ضد مؤسسة الجيش بشكل عام، وهي المؤسسة التي ينتمي إليها ويتماهى بها.
الطائفة ومسقط الرأس لايزالان مهمَّيْن في حياة الضاحية. وحين انطلقت المظاهرات في درعا في العام 2011، تجنّب الضباط السنّة التجمع واللقاءت الاجتماعية معاً لمنع بروز الشكوك. اشتُبه بضابط سنّي، على سبيل المثال، بأنه يحرّض على الفتنة والعصيان، ولذا بذل جهوداً مضنية لإثبات أن ولاءه للجيش يفوق بكثير ولاءه لمسقط رأسه. وقد تلقى الضابط رسالة على "فايسبوك" تقول إن أحد زملائه من الضباط اتهمه بشتم الرئيس وبدعم الانتفاضة في منطقته. دبّ الذعر في قلب هذا الضابط وربط سلسلة الشائعات حول عدم ولائه بكونه يتحدّر من منطقة معيّنة، فبذل قصارى جهده ليثبت لمطلق التهمة بأنه على العكس من ذلك. لا بل علّق صورة كبيرة للرئيس الأسد على شرفة منزله للتشديد على مدى ولائه للنظام.
بيد أن الطائفية لعبت دوراً مختلفاً لدى الضباط العلويين. فالانتفاضة عمَّقت إحساسهم بالعزلة عن غير العلويين، ودفعتهم إلى الاعتماد أكثر على الجيش من أجل الدفاع عن أنفسهم. وقد لوّنت ذكرى تمرّد الإخوان المسلمين من العام 1976 إلى العام 1982 (وقد وقع خلال التمرّد في العام 1979 هجوم على كلية المدفعية في حلب سقط ضحيتها العديد من العلويين) إطلالتهم على احتجاجات العام 2011. فبالنسبة إليهم، كانت الانتفاضة ردّاً على تمرّد الإخوان السابق حين كانت طائفتهم والنظام معاً في مرمى النيران.
كان لانتفاضة العام 2011 دورٌ رئيس في دفع الضباط العلويين إلى التشابك أكثر مع الجيش، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تعزيز الروابط بينهم وبين المدنيين العلويين. وقد وصف ضابط علوي حي عش الورور ذا الغالبية العلوية كالآتي: "عش الورور قريب من الضاحية، لكنني لم أتوجّه إلى هناك ابدا. الناس هناك أولاد شوارع". قبيل الانتفاضة، اعتاد الضابط وعائلته على القول إن علويي عش الورور "بقر وشراشيح". وأعربت ابنة ضابط آخر من الضاحية عن مشاعر مماثلة حول علويي عش الورور: "الضابط العلوي أقرب إلى الضابط السنّي منه إلى علويي عش الورور، لأنه يقول إن هؤلاء الأخيرين أدنى منه قيمة. والدتي تتحدث بشكل سيء عن ناس عش الورور، لأنهم يعطون انطباعاً سلبياً عن العلويين في دمشق".
بيد أن العلاقة يين هاتين الجماعتين تطورت نوعاً ما منذ بدء الانتفاضة. إذ تحوّلت عواطف الضباط العلويين نحو جيرانهم العلويين من درجة معيّنة من العداء إلى مشاعر الشفقة. وهذا عكس جزئياً ارتفاعاً نسبياً للتضامن الطائفي غداة الانتفاضة. وبعد أن تعرَّض عش الورور إلى هجوم المتمرّدين في منطقة برزة، بدأ الضباط العلويون في ضاحية الأسد يصفون ناس عش الورور بأنهم "فقراء" و"بسطاء و"يستحقون الشفقة والحماية".14 بيد أن ضباط الضاحية لم يهرعوا إلى دعم السكان في معركتهم مع المتمرّدين، كما لم تنشأ، مع تطور النزاع، روابط جديدة بين هاتين الجماعتين العلويتين، على الرغم من تشاطرهما الموقف نفسه على خطوط الصدع الطائفي.
معقل التعبئة المضادة للنظام
على الرغم من أن الاحتجاجات الأولية في العام 2011 كانت سياسية بطبيعتها وتستهدف على وجه التحديد تغيير توجهات النظام، إلا أن عزلة سكان الضاحية أدّت بالضباط وعائلاتهم إلى الاعتقاد بأن المحتجّين يشكّلون تهديداً ليس للنظام وحسب بل أيضاً لهم شخصيا. ومع تتابع فصول الانتفاضة، تقاسم الضباط الاعتقاد نفسه، بغض النظر عن الطائفة أو الإيديولودجيا السياسية، وهي أن الدفاع عن أنفسهم ومصالحهم في وجه المجتمع الأوسع يجب أن يحظى بالأولوية.
لقد جعلت الانتفاضة سكان الضاحية أكثر شكاً بالمناطق المجاورة الأخرى. كان الضباط يطلبون بشكل متكرر من أولادهم عدم جعل سائقي التاكسي يعرفون أنهم من ضاحية الأسد، ولا عن الوجهة التي يقصدون. الشائعات كانت منتشرة، بما في ذلك رواية غير مؤكدة عن ابنة ضابط من الضاحية اختُطفت ثم لاحقاً قُتلت على أيدي مجرمين من دوما. وثمة رواية أخرى غير مؤكدة أيضاً منتشرة في الضاحية تتحدّث عن سائق تاكسي يخطف ويقتل ويقطّع أوصال فتى من الضاحية.
انفصال الضباط عن بقية المجتمع سمح بتوسّع الشائعات وانتشارها. على سبيل المثال، في صيدا قرب درعا حيث يعيش الضباط كذلك في مجمّع عسكري، بدأ مخبرو مديرية المخابرات الجوية يبلغون السكان أن محتجين من قرى مجاورة يخططون للهجوم على مجمّع الإسكان العسكري ردّاً على حصار درعا. بعد هذه الشائعات، وضع الضباط العسكريون وعائلاتهم في صيدا خططاً دفاعية واستعدّوا لمواجهة كمين محتمل، على الرغم من أن مثل هذا الهجوم لم يحدث قط. وقد سرت مراراً مخاوف علنية مماثلة في الضاحية بأن الدومانيين (سكان دوما) والبرزاويين (سكان برزة) سيقومون هم أيضاً بهجوم من هذا النوع.
عززت انتفاضة العام 2011 الانطباع بين ضباط الضاحية بأن دفاعات المنطقة تحتاج إلى تعزيز. وفي هذا السياق، تمت بشكل كامل إعادة التوكيد على الهوية العسكرية لضاحية الأسد. وهكذا تحوّلت الضاحية إلى منصة عسكرية تنطلق منها الهجمات على المناطق المجاورة الموالية للمعارضة. البنى التحتية العسكرية التي أُدمجت بالمنطقة السكنية قبل الانتفاضة وُضعت فجأة قيد الاستعمال الكامل. وعلى سبيل المثال، جرى استخدام كلٍّ من الملكيات التابعة لوزارة الموارد المائية ومدرسة لشرطة المرور كمواقع مدفعية لقصف المتمرّدين في منطقتَي حرستا وبرزة المجاورتين. هذا النوع من الأعمال يكشف عن مدى سيطرة الجيش على الضاحية، وأيضاً عن الاعتقاد لدى سكانها بأن النظام حائز على السيطرة النهائية على المنطقة. وفي حين أن عسكرة المناطق المجاورة تحققت في طول سورية وعرضها، كانت عملية الانتقال أسرع وأعمق في الضاحية، التي أصبحت بدءاً من العام 2015 أشبه بقاعدة عسكرية.
في حزيران/يونيو 2012، تقدّم الجيش السوري الحر نحو الضاحية، فبدأ عناصر النظام بتنظيم أبناء الضباط (ومعظمهم من العلويين) في قوات الدفاع الوطني، وهي لجان أمن أهلية أخذت على عاتقها الأمن الداخلي في الضاحية. ومع تحوّل قصف المتمرّدين إلى أمر روتيني، أقامت قوات الدفاع الوطني حواجز تفتيش في كل أنحاء المنطقة، وباتت عرباتها العسكرية كلية الوجود، فيما نُصِبت مدافع رشاشة من طراز دوشكا فوق شاحنات البيك أب والدبابات خلال القيام بدوريات في الضاحية.
أجبر انعدام الأمن والعسكرة المستندة إلى الطائفية السكان المدنيين (السنّة على وجه الخصوص) الذين تدفقوا إلى الضاحية خلال الازدهار الاقتصادي في العقد الماضي إلى مغادرة المنطقة. لكن حدث العكس بالنسبة إلى عائلات الضباط. فقد قال أحد السكان أن لعلعة الرصاص وهدير المدافع هما بالنسبة إليه أمر "مُسرّ" لأنهما يعنيان أن الجميع يخوضون وطيس المعركة لإحباط "المؤامرة" التي تستهدف الجيش والبلاد.
حالما اندلع النزاع، بات المعيار المُحدّد للانتماء إلى الضاحية هو الارتباط الواضح بنظام الأسد مع رموزه. قبل انتفاضة العام 2011، كانت الشعائر الموالية للنظام ليست شائعة في الضاحية أكثر منها في معظم مناطق العاصمة. لكن التجوّل في شوارع الضاحية منذ ذلك الحين يكشف بالملموس عن مدى التحوّل. فالأعلام السورية وصور الأسد منتشرة في كل مكان، ومعها المجموعات الموالية للنظام التي تدلي بالخطب وتعقد دورياً مهرجانات عامة. النقاشات حول الحرب في الضاحية تميل إلى تبنّي رواية النظام وتُحاكي غالباً الإعلام الرسمي. ومن الشائع سماع المقولة بأن "كل شيء على مايرام في البلاد، وليس هناك مشاكل"، جنباً إلى جنب مع روايات حول كيفية قيام "المتسللين" و"الإرهابيين" و"المؤامرة الخارجية" بمحاولة تدمير سورية.
بدأ أبناء الضباط يعرضون بكثافة صور الرئيس مع شعارات مثل "منحبك"، فيما هم يجوبون شوارع الضاحية ويطلقون أغاني النظام عبر مكبرات صوت نُصِبت فوق سياراتهم. هؤلاء الأبناء، الذين لم ينخرط العديد منهم في السلك العسكري، أكثر صراحة عموماً من أبائهم في التعبير عن الحاجة إلى الدفاع عن الضاحية. وهذا كان جزئياً انعكاساً لتمزّق الهوية لديهم: إذ لاهم ينتمون إلى دمشق ولا إلى قراهم الأصلية. هذا التماسك بين شبان الضاحية تجلّى في أشكال مختلفة، بما في ذلك تشكيل منظمات سياسية جديدة مثل "أسود ضاحية الأسد" ومجموعات شبه عسكرية مثل قوات الدفاع الوطني.
أصبح القتال إلى جانب النظام عملياً المعيار المُحدّد للانتماء إلى ضاحية الأسد. وقد ذكر مقيمٌ مدني أن عناصر الجيش الذين انتقلوا إلى المنطقة في العام 2007 باتوا يُعتبَرون من "السكان الأصليين" بدءاً من العام 2015، هذا في حين أن قلة من المدنيين الذين كانوا يعيشون هناك منذ التسعينيات (أي قبل غالبية عائلات الضباط بزمن) أصبحوا "غرباء". هذا المعطى قفز إلى الواجهة حين بدأت قوات الدفاع الوطني بوضع لوائح عن كل سكان الضاحية في أوائل العام 2014، لكنها لم تدخل إلا إلى منازل العائلات غير العسكرية للقيام بالتعداد الإحصائي. بيد أن الانضمام إلى قوات الدفاع الوطني كان أحد الوسائل أمام المدنيين لـ"الانتماء" إلى الضاحية. ويتذكّر أحد سكان الضاحية كيف أن مدنياً سورياً فلسطينياً، كان غير قادر على الانضمام إلى الجيش بسبب جنسيته المزدوجة، التحق بدلاً من ذلك بقوات الدفاع الوطني وبدأ يتحدث بلهجة ريفية علوية بهدف إثبات ولائه.
المراقبة
لطالما اخترق عناصر النظام الشركات الخاصة المنوط بها بناء وتوزيع المنازل في ضاحية الأسد. ونتيجةً لذلك، نادراً ماكانت العملية الرسمية العامل الحاسم في التوزيع، بل كانت الروابط الشخصية مع النظام هي هذا العامل الحاسم. وهذا سمح للفساد والرقابة بالازدهار في الضاحية، حيث كان كلٌ من هذين العاملين يغذّي بعضه البعض.
تقوم مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، المسؤولة عن العقارات والبناء في الضاحية، بتنفيذ مراقبة غير رسمية لحماية مصالح النظام. أساساً، تعمل المؤسسة بإشراف الجيش الرسمي السوري ولاتخضع إلى مساءلة السلطة القضائية. كان اللواء رياض سلمان عيسى، المعروف باسم رياض شاليش وهو ابن عمة الرئيس بشار الأسد، مدير هذه المؤسسة منذ أواخر الثمانينيات. وقد شغل علي صقر، وهو شخصية من شخصيات النظام، منصب المساعد أوّل للمدير لأعوام عدّة. وعلى الرغم من أن علي ليس ضابطاً مُقلَّداً - فرتبته العسكرية الرسمية هي صف ضابط من الطبقة الأولى - إلا أنه كان يُشرف على المهام الإدارية المهمة في الضاحية، ماجعله في آن قوياً ومهيب الجانب بين ضباط الضاحية.
كان الفساد هو أداة النظام الرئيسة لكلٍّ من عمليّتَي الاستتباع والمراقبة في الضاحية. وفي حالة صقر، فقد كان مكتبه عملياً المفتاح لكل شيء، من توزيع المنازل إلى أذونات البناء والأعمال الأخرى. وأي من هذه الأذونات لم تكن تعطى من دون واسطة. كان يتعيّن على الضباط من رتبة لواء أن يمرّوا عبر صقر ومكتبه للحصول على توزيع المنازل عليهم. ونتيجةً لذلك، كان الضباط من ذوي الرتب الأعلى من صقر رسمياً يُجبَرون على تملُّق هذا الأخير للحصول على ماكان، وفق كل المعايير، من حقهم. (جرى في تشرين الأول/أوكتوبر 2007 استبدال صقر بمهندس مدني، كجزء من برنامج الإصلاحات الذي طبّقه النظام لمنح المؤسسة مظهراً أكثر بيروقراطية لا طابعاً عسكري.
في الضاحية، غالباً ماكان الضباط يتجسّسون على بعضهم البعض، ويُزوّدون عناصر النظام بمعلومات ذات صلة بالأمن أو بأشخاص ينتقدون النظام. لهذا السبب نسبياً، كان انتقاد الرئيس أو النظام في الضاحية نادراً، على عكس باقي مناطق البلاد حين ساد بعض التسامح في هذا الشأن. في حادثة وقعت خلال العقد الماضي، نشرت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها تعيش في الضاحية مجلة تفصّل فشل الحكومة في توفير الخدمات للمنطقة. وبعدها بوقت قصير، تلقّت والدتها اتصالاً من مكتب المساعد العام للمدير يحذّرها فيه بأن تكف ابنتها عن هذا الانتقاد أو تنال العقاب. هذا النوع من الردود هو مايربطه معظم السوريين في دمشق عادة بأجهزة مخابرات النظام. صُدِمَت الأم من هذا الاتصال وسألت ابنتها: "ماذا فعلتِ في المدرسة كي يتصل بي علي صقر؟"
أصبح الفساد متجذراً في الضاحية من خلال نظام السكن العسكري. والضابط يعرف أن تحسين مستوى معيشته، بما في ذلك العمل والراتب والسكن له ولعائلته، يستند إلى درجة كبيرة على مدى قدرته على مصادقة عنصر أساسي في النظام. هذه المحسوبية ساعدت على تعزيز بيئة يتنافس فيها الضباط على النفوذ من خلال الوشاية ببعضهم البعض وطعن زملائهم بالظهر. وهذا خلق مناخاً عاماً من المصالح الذاتية الضيقة في الجيش وفي النظام ككل.
خلاصة
لم يكن الجيش السوري هو المستفيد الوحيد من نظام الإسكان المدعوم من الدولة. فعلى مدى عقود عدّة، حصل معلّمو القطاع العام، والعمّال، والعديد من موظفي الدولة على منازل من خلال مشاريع مماثلة. كل مافعلته ضاحية الأسد هو توفير نافذة على وسائل أكثر يوفّر بموجبها النظام المزايا لموظفي الدولة قبل العام 2011. كما وفّرت تبياناً حول كيفية قيام هذه المزايا، سواء عن سابق تخطيط أم لا، بمنع هؤلاء الموظفين من إبداء مقاومة علنية للنظام.
في الجيش، لاتفسّر الروابط الطائفية وحدها تماماً ولاء الضباط. صحيح أن العلويين يُمسِكون بمعظم مفاصل المواقع القيادية الأكثر أهمية، إلا أن العديد من الضباط من غير العلويين لم ينشقوا، مايوحي بأن ثمة عوامل أخرى قيد العمل.
نظرة عن كثب في أعمال ضاحية الأسد تشي بأن المزايا الممنوحة للضباط وعائلاتهم - العديد منهم تحدّروا من عائلات متواضعة - تربطهم بالجيش والنظام، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الإيديولوجية. بيد أن التنوُّع في الضاحية لم يُلغِ الهوية الطائفية ليُحل مكانها هوية سلك ضباط جديدة. شبكات الضاحية ونظام المحسوبية هما اللذان خلقا مصلحة مشتركة في دفع الناس من مختلف الأصول والمشارب إلى الحفاظ على ولائهم للنظام. علاوةً على ذلك، الخدمات غير المتساوية والتنظيمات البيزنطية التي تحكم المنطقة، تشي بأنها هي التي منعت الانشقاق لأنها أسقطت الطابع المهني عن الضباط وجعلتهم معتمدين على الأقنية غير الرسمية للحصول على الخدمات الأساسية والتعويضات، بدلاً من التراتبية العسكرية الرسمية القادرة على تجنُّب الصراع الأهلي.
على مدى عقود، كان أحد الأدوات الأكثر مضاء في يد نظام الأسد الخاصة بالحفاظ على السيطرة على الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، هي إفساد الضباط من خلال تزويدهم بالمزايا على أسس شخصية لامؤسسية. ومن خلال منح المسكن باستنساب وليس كتأهيل، ضمن النظام بأن الضباط وعائلاتهم ليس لديهم من خيار آخر سوى البقاء ضمن بوتقته ومواصلة الولاء له. ولأن الضباط حصلوا على الوضعية والمنافع كأفراد، وليس كمجموعة في إطار سلك عسكري، شجّع ذلك على التنافس في مابينهم، وأثبط قيام الشبكات والثقة الضروريتين إذا ماأراد ضباط أن يقودوا وحدات كاملة نحو الانشقاق.
لقد أمضى العديد من ضباط الجيش السوري سنوات في محاولة القفز فوق مراتب الطبقة الوسطى-الدنيا التي أتوا منها، وحصلوا على المزايا التي تقدّمها ضاحية الأسد لهم ولعائلاتهم. لكن باحتفاظهم بهذه المنافع، تخلّوا أيضاً عن كل الخيارات الممكنة تقريباً لمغادرة الضاحية. وبالتالي، ليس مستقبل الضباط وحدهم بات على المحك بل مصائر عائلاتهم برمتها. ولهذا السبب، جل الانشقاقات التي حدثت في سلك الضباط منذ العام 2011 تضمّنت ضباطاً لم يستثمروا في نظام السكن العسكري.
إن مدى ونوعية اعتماد ضباط الجيش - وموظفي الدولة الآخرين – على النظام في معيشتهم، وعلى ترقيهم الاجتماعي، ورفاه عائلاتهم، يكشفان عن العامل الحاسم الرئيس الذي شكَّل سلوكياتهم منذ اندلاع الانتفاضة. ومثل هذه الحسابات ستشكّل أيضاً ردودهم على أي عملية انتقال سياسي، في حال تنفيذها في سورية.
------------
الكاتب : خضر خضّور, باحث غير مقيم مركز كارنيغي للشرق الأوسط