الحلقه الثانيه
الاعوام 1988-1991
مع نهاية الحرب مع العراق في آب أغسطس عام 1988، بدأتْ أيران نتيجة قرار سياسي، بتقسيم قواتها الجوية بين: القوة الجوية للجمهورية الأسلامية الأيرانية ( القوة الجوية المُحترفة) وبين الفيلق الجوي لحرس الثورة الأسلامية الأسلامية الذي أملى ماأرادته قيادة الحرس الثوري على المؤسسة العسكرية. وهي الفترة الزمنية التي كانت فيها القوات الجوية الأيرانية تعاني من تجهيز واستيعاب وأدامة القوات، والتغيّر الذي كان يجري على قدم وساق لأدخال عقيدة القتال الشرقي وتدريب الطيارين على الطائرات الروسية التي ضُمتْ للأسراب الحديثة كطائرة أس يو 25 فروك فوت الهجومية التي تعتبر حالياً العمود الفقري في حماية الأجواء الأيرانية.
ومن ناحية أخرى، كان الفيلق الجوي لحرس الثورة وأسطوله من الطائرات يضم مقاتلات قديمة أمريكية الطراز ف-5 التي دخلت الخدمة في السبعينات،كما كانت تنقصهم الخبرة الفنية. وبقيت الأسراب وأستعداديتها للقتال الجوي ضعيفة. على العكس من العراق الذي أدخل معدات وطائرات غربية وبالأخص الفرنسية منها في عملية لأعادة تنوع مصادر السلاح وأعادة هيكل القوة الجوية العراقية لتصبح طائرات الأعتراض الجوي الحلقة التي تحمي الفضاء الأقليمي، بعد الأنفتاح الفرنسي على العراق وعقود النفط الموقعة بين البلدين، ليصبح العراق القوة الضاربة الطويلة الباع في منطقة الخليج قبل الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب آغسطس 1990.
في نفس الفترة، كانت أيران قد دخلتْ في مفاوضات ووقعت عقوداً مع دول آسيوية كوريا الشمالية والصين و روسيا أيضاً لشراء طائرات ومعدات عسكرية وصاروخية جديدة وبدأت بتنويع سلاحها والتقليل من الأعتماد على الغرب الأمريكي وخاصة بعد رحيل 40 ألف خبير أمريكي بعد الثورة الأيرانية عام 1979، وقيام الولايات المتحدة رسمياً بأيقاف تعامل الشركات الأمريكية مع أيران منذ شهر أذار مارس في ذلك العام، وقطعتْ عنها قطع الغيار والأجهزة الألكترونية لما يقارب من 78 طائرة ف- 14 توم كات و 175 طائرة من طراز ف- 4 فانتوم كان الرئيس كارتر قد رخّصَ ببيعها الى نظام الشاه *.
وبحلول عام 1989 ولم يبقَ ماهو صالح للطيران ألا أربعة أو خمس أسراب جوية أو بحدود تقديرية تقارب 44 الى 48 طائرة صالحة للخدمة، بسبب النقص الشديد في قطع الغيار ونقص الأدامة الجوية وهروب الطيارين والفنيين الى دول غربية، ولايخفى هروب بعض الطياريين الأيرانيين الى العراق بطائرة ف- 14 توم كات وطائرة بوينج 727 مدنية ولجوئهما الى أوروبا لاحقاً.
ومن الجانب العراقي بالمقارنة، أصبح العراق بحلول عام 1987، أي قبل أيقاف العمليات العسكرية بسنة واحدة، القوة الجوية التي يُخشى قوتها وذراعها الطويل في المنطقة بعد أدخال أسراب ميغ- 25 فوكس بات وميغ- 29 ب فولكرم وأس يو 25 فروك فوت الهجومية في الخدمة الفعلية وأحلال الطائرات الفرنسية المقاتلة من طراز ميراج ف- 1 أي كيو، محل الطائرات القديمة البريطانية والروسية.
المهم في الجانب الذي أودُ التركيّز عليه هو القرار العراقي لنقل طائرات باهضة الثمن الى دولة كانت قد دخلتْ في حرب طاحنة معها وأستمرتْ ثمان سنوات، ولم يكن قد مضى على أثارها الرهيبة أِلا ثلاث سنوات. كما أنه يجدر الأشارة الى أن وقف العمليات القتالية بين الجارتين لم تلحقه أتفاقية سلام دائم تطمئن لها القيادة العراقية من الناحيتين السياسية والعسكرية وتطمئن القيادة الأيرانية لها من ناحية أخرى،ولم يجرِ تمهيد أو تنسيق مسبق للتعاون العسكري، فكيف توصلَ الرئيس العراقي صدام الى مثل هذا القرار والمغامرة بالطيارين والطائرات وتهريبها الى دولة يعتبرها هو نفسه في أعلى قائمة الدول المُعادية للعراق !!!؟؟.
هناك العديد من الأجوبة، ولعل أتفهها من الناحية العسكرية المحضة هو ماذكرهُ البعض بأن الرئيس العراقي كان يظن، أو تدور في مخيلته جدياً، حرب، يكون بأستطاعته وفقها، جّر أيران وحلفاء أخرون الى جانبه في حرب أقليمية (أم المعارك) وتوسيع ساحة الصراع ليكون عربياً أسلامياً ضد العدو الأمريكي المشترك.
من 28 نيسان أبريل الى 2 مايس مايو عام 1989، أُقيم المعرض العراقي للتصنيع العسكري في بغداد، ووجهت دعوة الحضور الى العديد من الدول العربية والأجنبية وملحقيها العسكريين والشركات المنتجة للسلاح والطائرات.
وقبل أفتتاح المعرض بيومين أسقطت المضادات العراقية الأرضية طائرة تدريب مصرية من طراز(ألفا جت) ظناً بأنها طائرة أيرانية أخترقت وتجاوزت الجدار المخصص للعرض الجوي بتحليقها فوق المجال الجوي للجانب الشرقي من بغداد وأستطاع طاقم الطائرة المصرية من الهبوط بسلام، الأمر الذي يبين مدى الحيطة والتوتر التي فرضتها ضروف حرب مدمرة دامت ثمان سنوات على المرور الجوي المُرخص به، وألأوامر المُشددة المفروضةعلى طواقم الطائرات المشاركة في المعرض العسكري.
وأستعرضَ صدام عضلات القوة العسكرية العراقية التي أشتملت على ماتمَّ تصنيعه وما أستُورِدَ من سلاح، كما أحتوت أرض المعرض العديد من القنابر والصواريخ ومعدات تم أنتاجها في مصانع الأسكندرية العراقية للسلاح والأنتاج العسكري كما تمَّ عرض نموذج دبابة أسد بابل العراقية. وأختتمت القوة الجوية العراقية أيام المعرض بعرض جوي في مطار المثنى لطائرات حربية مختلفة و بمشاركة طائرة ميغ 29- فولكرم التي تضاهي في القدرة والتسليح والسرعة طائرة ف- 15 الأمريكية.
وظن الكثير بأن العراق يتجه نحو تقنية عسكرية وأشراك مصر ودول أخرى كالأرجنتين في مشاريع أنتاج الأسلحة، كما أسندت القيادة القطرية للحزب هذا التوجه بتخصيصات ونفقات لاحدود لها، أِلا أن خزينة الدولة لم تكن تمتلك الأموال اللازمة لهذه التقنية والأشتراك في مشاريع مشتركة لأنتاج السلاح، نتيجة الديون الخارجية المتراكمة المترتبة على العراق. ويميلُ المحللون الى أن ذلك كان أحد الأسباب التي شجعت على الغزو، نظراً لما تملكه الكويت من قوة مالية والهموم العراقية المتعلقة بالديون التي أفترضها العراق بأنها قدمتْ كمساعدات خليجية لمنع أيران من التوسع وتهديد الكويت، أضافةً لما حدث من المعركة الكلامية والتلاسن بين عزت الدوري نائب الرئيس العراقي ونظيره الكويتي عند أجتماعهما في المملكة السعودية لحل مشاكل آبارالحدود النفطية.
وفي عام 1990، وبعد أحتلال الكويت، فأنه من الضروري التأكيد بأن التصريحات التي أطلقها حميد راجي التكريتي قائد القوة الجوية في حينه ، وهو المقرّب من صدام بحكم العلاقة المهنية والعائلية، وقائد القوة الجوية الأسبق حميد شعبان، هذه التصريحات النارية، كانت توحي كما جاءت على لسانه بأن " القوة الجوية العراقية على أتم الأستعداد لأنزال الهزيمة بقوات التحالف أذا ماوقعتْ الحرب وبدأت الحملة الجوية" والتي أنذر فيها أيضاً الحلفاء العرب لدول التحالف الغربي، علماً بأن الأوامر الميدانية لأدارة العمليات ظلتْ تحت تأثير صدام الشخصي وحلقته الخاصة التي لم تكن تمتلك أي خبرة أو معرفة بالأبعاد التكتيكية والأستراتيجية.
رياح الحرب
وفي الأعوام التي تلت الحرب العراقية الأيرانية 1989 و 1990، لوحظ بأهتمام وزارة التصنيع العسكري العراقية بأستيراد معدات وأجهزة من دول غربية تخص تطوير أسلحة بيولوجية ونووية. كما أسرع خبراء ومحللون غربيون أخرون بالتلميح الى أن الرئيس العراقي قد يقوم بعمل طائش يؤدي الى أشعال حرب في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، خاصةً بعد تسرب أنباء عن أستيراد العراق معدات لتصنيع المدفع الجبار البعيد المدى بعيار 359 ملم (بمساعدة جيرالد بول خبير الصواريخ والقذائف الكندي الأصل Super Gun
كما أن مجموعة من الطيارين كانت تقوم بتنفيذ مناورات جوية وتستخدم في التدريب تكتيكات لحالات ألقاء Toss Bombing maneuvers حمولة قنابل تتجاوزألفين باوند، وطرق أسقاط خاصة مُستخدَمة فقط لتنفيذ ضربة جوية نووية الأمر الذي أسرع بالهوس واللغط الغربي بين العسكريين والدبلوماسيين بأن العراق يستعد لتوجيه ضربة نووية لأحدى دول المنطقة، في أشارة متعمدة أو دون الأشارة أحياناً الى أسرائيل.
وبصراحة باتت النظرة واضحةً وأصبح الأعتقاد سائداً لدى المؤسسة العسكرية وقادة الأسراب الجوية المقاتلة بعد تصريحات الرئيس صدام في نيسان أبريل من عام 1990 بأن العراق لن يتوانى من أستعمال مالديه من أسلحة ذات طاقة تدميرية أذا ماقامت أسرائيل بأي عمل عدواني طائش ضد العراق. وزاد ذلك من الأعتقاد بأن سلاح الجو العراقي سيرمي بثقله التكتيكي والأستراتيجي ضد أي قوة عسكرية أجنبية تحاول المساس بسيادته على أرضه، حتى لو كانت هذه القوة متفوقة عليه تقنياً وألكترونياً وعددياً.
فوفق خطة دفاعية هدفها الأول والأساس تنسيق عمل الأسراب العراقية للدفاع عن الأجواء العراقية، تتمكن الطائرات الأعتراضية (مع كونها أقل قدرة في المدى والتسليح والمدى والتوجيه الراداري) من أسقاط أكبر عدد ممكن من الطائرات العدوة وحماية مايمكن حمايته من المرافق والمنشأت الحيوية العراقية، وبأستطاعتها أيضاً، منع العدو من تحقيق تفوق جوي كامل، خاصةً وأن القتال الجوي سيدور داخل الأجواء العراقية، الأمر الذي كان سيعطي الطيارين العراقيين تفوقاً عملياً ومعنوياً ملحوظاً لأدارة سماء المعركة وفق خططهم والأعتماد في الدفاع على الطائرات الأعتراضية القديمة والمُحسنة الحديثة، كما هو مرسوم لها من واجبات (الدفاع عن نقطة أستراتيجية بتوجيه من المحطات والمراصد الأرضية والأسلحة المضادة للطائرات المنتشرة بنظام ميداني بياني دقيق ومتوافق مع واجبات طائرات الأعتراض ) كطائرات ميغ 21، 23 و25 الأعتراضية المُحسنة لحماية الجسور والمطارات والمعسكرات والقطعات العسكرية والمناطق الحيوية.
كان العراق يستطيع أدخال 150 طائرة روسية بالأضافة الى قدرته على أدخال أكثر من 75 طائرة ميراج فرنسية ف- 1 كانت في الخدمة فعلاً، و تضاهي من ناحية التسليح والمدى والأمكانية الأعتراضية طائرات تورنيدو البريطانية وطائرات ف- 16 ف- 15 و( ف - أ 18 الأمريكية التي تم أسقاط البعض منها في قتال جوي في مستهل الحرب).
ألا أن هذه الخطة الدفاعية المتكاملة لم تُنفذ كما هو معروف، أو تم تنفيذ جزء ضئيل منها، ويلوم البعض الرئيس صدام في عدم تنفيذها، ويرجعون السبب الى أنه قد يكون قد تأثرَ بالحرب النفسية والدعائية التي ركّزتْ مبادئ الحرب على شخصه أساساً، كبطل قومي من ناحية، وموقف الدول العربية المحيطة منه وخاصة سوريا و مصر و دول الخليج، وعدم وجود حليف حقيقي يدعم العراق مادياً و رسمياً، من ناحية أخرى.
والسبب الأخر لعدم تنفيذ الخطة الجوية الدفاعية هو ماأتفقَ عليه الرئيس العراقي مع مستشاريه بأهمية الأحتفاظ برصيد وخزين من الطيارين والطائرات لأستخدامهم وأستخدامها في طلعات جوية هجومية مفاجئة بتشكيلات صغيرة العدد فيما لو أستمرت الحرب لأشهر.
من الضروري أن نتذكر مالايستطيع الزمن محوه،وتبقى عبرته الكلاسيكية مع تاريخ الحروب. فما نشرهُ الُمفكر الأستراتيجي الصيني سن تسوSun Tzu في القرن الرابع عن (فن الحرب) The Art of War تبقى قيمته الكلاسيكية التاريخية الى يومنا هذا. " فمن عناصر النصر أن ينتصر المحاربون أولاً، وقبل أن تبدأ الحرب بينما يخوض المنهزمون الحرب وبعدها يبحثون عن النصر " . يالها من موعظة توضح أن العقل الأستراتيجي يقّيم عناصر النصر بواقعية وأحتمالات محسوبة بدقة قبل توريط فيالق جيوشه وأسربه الجوية في الحرب.
وفي عشية بدء الحملة الجوية الجوية للحلفاء ليلة 16 كانون الثاني يناير عام 1991، الذي مهدتْ له طائرات ب- 117 و ب- 111 بالأختراق التكتيكي لفتح ثغرات جوية وقصف مقرات القيادة والسيطرة والتشويش على أجهزة نظم الرادارات العراقية، لوحظ أن التَدخل التكتيكي والعملياتي لطائرات الأعتراض العراقية لم يكن بالمستوى المطلوب أو الشدة المتوقعة، فقد أعتمدت القيادة الجوية على القوة الصاروخية والمقاومات الأرضية ورشقات المدفعية لأسقاط الطائرات المُغيرة.
كما تبين أيضاً أن بعض طائرات ف- أ 18 هورنيت البحرية أخفقت في أصابة الكثير من الأهداف العراقية المُحددة لها بالطريقة التكتيكية والأجهزة الألكترونية المُزودة بها . كما أنه وجد لاحقاً أن القيادة الجوية العراقية سحبت العديد من الطائرات المقاتلة الأعتراضية من القواعد الجوية العراقية وجرى تمويهها وتغطيتها ونقلها الى مزارع نخيل وحقول وملاجئ مؤقتة، كما تم دفن بعضها تحت الأرض لحمايتها ولتوقي الضربات الجوية الأمريكية الأولى المتوقعة وأمتصاص فعاليتها. ويبدو أن الرئيس صدام كان قد وضعَ لمستشاريه على طاولة الحرب أمران بمفهومين مختلفين، وأراد وزن قيمة كل منهما قبل أن يقرر أفضلهما :
الأعتبار الأول، وهو الأعتبار الوارد، يقوم على مبدأ صد القوات الجوية المهاجمة وأستخدام الطائرات الأعتراضية القديمة منها والفرنسية الجديدة وأسناد أدوار للطيارين يشابه أدوار الطيارين البريطانيين في الحرب العالمية الثانية (الطيران والأشتباك مع الطائرات الألمانية المُغيرة فوق الجزر البريطانية فقط ومحاولة أسقاط أكبر عدد ممكن منها وأسر طواقم الطيارين والملاحين).
أما الأعتبار الثاني فهو الأعتماد الكلي على منظومة الصواريخ والمضادات الأرضية وأستخدام السلاح الجوي كأحتياطي يدخل المعركة عندما ترتأي القيادة الوقت المناسب له لأعتراض الطائرات المُغيرة.
وقد فضلَ صدام على مايبدو الأعتبار الثاني والأحتفاظ بالطائرات الى وقت أطول فما لو أستمرت الحرب لأشهر طويلة. وهو قرار أستراتيجي ذو أبعاد خطيرة كما رأينا لاحقاً، وقد يكون مثل هذا القرار خاطئاً أو صحيحاً من الناحية العسكرية لأمور تتعلق بأمدادات مصادر السلاح والعتاد ومصادرها وطرق تأمين وصولها. كما أن مثل هذا القرار يرتبط بالناحية الجيوبولتيكية وموقع العراق في المنطقة.
أما النظرية الأكثر قبولاً فهي أن الفرنسيين الذين وقفوا الى جانب الحلفاء في الحرب كانوا قد تعهدوا بعدم دراسة أي طلبات عراقية لتزيدهم بصواريخ ميترا 550 وصواريخ أخرى للقتال الجوي التي تحملها طائرات الميراج الفرنسية ف- 1 أِلا في حالة أنسحاب العراق من الكويت، كما تعهد الرئيس الروسي كوربيجوف برفض دراسة أي طلبات عراقية مقدمة من الرئيس العراقي، الأمر الذي سبب قلقاً لصدام والمؤسسة العسكرية الجوية لحاجة الطائرات الى خزين من صواريخ أ أ 8 الروسية الصنع ، بالأضافة الى نقص الخزين من الصواريخ والعتاد الفرنسي الذي تحتاجه الطائرات العراقية من طراز ميراج الفرنسية الصنع، أن صح التقدير. ولايُعرف من نقل شخصياً الى صدام خبر نقص خزين طائرات القتال الأعتراضية الروسية والفرنسية أو وقت وطريقة نقل الخبر أليه.
وفي مقابلة مع أحد طياري الخطوط الجوية العراقية مؤخراً.... ذكرَ لي بهدوء تام،الكيفية التي كان بموجبها يتم نقل الطائرات الى أيران. وقد قام بنقل أحدى طائرات الخطوط الجوية المدنية من طراز بوينغ727. فعملية نقل الطائرات العراقية وبأنواع مختلفة منها الى المطارات الأيرانية كانت تتم بصمت يسوده التوتر من ساعة الأقلاع الى ساعة السماح بالهبوط، وكانت تتم في حدود زمنية قصيرة جداً لتلافي رصد طائرات الأنذار المبكر الأمريكية من طراز AWACS E-3 وHawkeye E-2 وتجنب الملاحقة والأعتراض من الطائرات الأمريكية والبريطانية المقاتلة ف 15، ف 16، ف 18 و 6 Intruder A المُحلقة في الأجواء العراقية والتي كانت تستلم، على مدار الساعة، الأوامر والتعليمات والبيانات الألكترونية عن حركة الطائرات العراقية من الرادارات الجوية وألأقمار الفضائية. فحالما يتم التملص وعبور الحدود الى الجانب الأيراني كان الطيار العراقي يتصل ويخاطب الطائرات الأيرانية المُعترضة ف- 4 فانتوم على موجات الأرسال اللاسلكية الدولية للحالات الطارئة المتعارف عليها، ويطلب الأذن بالهبوط في مطارات أيرانية، حيث كان يؤذن لها بعد أن يتم مخاطبة أبراج المراقبة الأيرانية والحصول على الأذن .
ويَعتقد بعض المحللين بأن الزيارة السرية التي قام بها عزت الدوري نائب رئيس الجمهورية لأيران قبل نشوب الحرب كانت لدراسة سبل التنسيق العسكري والتمهيد لتعاون عراقي أيراني بعد أن فقد الطرفان الكثير من الحلفاء السياسيين في المنطقة، وقد يكون محور المحادثات قد دار بين الجانبين حول هذه النقطة أضافة الى نقاط أخرى. أِلا أنه لاتوجد دلائل مؤكدة لهذا المسار نظراً للغموض والكتمان الذي دأبت عليه المؤسستان العسكريتان في العراق وأيران.
ويعتقد الخبير الروسي سيرجي أفانوف ، الذي تطرق الى عموميات الموضوع، أن العملية بدأت يوم 25 كانون الثاني يناير 1991 ( أي الأسبوع الثاني للحملة الجوية)، عندما أكتشفت طائرة أي واكس للرصد والأنذار مجموعة مؤلفة من 7 طائرات عراقية متجهة شرقاً نحو الحدود الأيرانية، فأنذرتْ تشكيلاً من طائرات ف-15 أِلا أن الطائرات العراقية كانت قد عبرت الحدود الأيرانية. ويبين أفانوف بأنه ليس معروفاً فيما أذا كانت هذه الطائرات قد طلبتْ من السلطات ألأيرانية، التي كانت قد أعلنت حيادها، الهبوط لأسباب طارئة فنية أو تحت حجة نفاد الوقود. كما أنه يُعتقد (بضم الياء) بأن يوم 26 شباط فبراير 1991 كان اليوم الذي ضمّ العدد الأكبر من رحيل الطائرات العراقية وألتجائها الى أيران، كما أنه يُحدد عدد الطائرات المُهرّبة ب 115 طائرة، بينما يصنفها أخرون برقم أعلى وبحدود 147 طائرة على الوجه التالي:
24 ميراج - ف 1 الفرنسية
68 سوخوي- طراز أس يو 20، 22 و24 روسية الصنع
12 ميغ 23 روسية الصنع
7 ميغ 25 و4 ميغ 29 فولكرم روسية الصنع
15 أليوشن 76 للنقل الجوي روسية الصنع. بالأضافة الى 17 طائرة مدنية، وطائره من طراز عدنان 1
للرصد والأنذار والمقتبسة من طائرة أ - 50 الروسية.
الغموض والسِرية: دوافع أخرى للقرار
وحسب ماينسبه العراقيون الى بعض الطيارين قولهم بأن الرقم الحقيقي للطائرات المُهربة يفوق هذه العدد، ولكنهم لايعرفون العدد بالضبط، فالتشديد والسِرية تمنعهم من معرفة مايجري في قواعد جوية عراقية أخرى. كما أن الأوامر تُشدّد على عدم الأستفسار الفضولي عما يجري بالنسبة للأسراب في الصنوف الأخرى.
فبالنسبة للسرية والغموض، لم يكن قادة أسراب القواعد الجوية جنوب العراق على معرفة بسبب الزيارة الخاطفة التي قام بها قائد القوة الجوية في ليلة 1 آب أغسطس 1990 وأجتماعه،غير المعلن، مع الطيارين في حضيرة طائرات لم تكن مخصصة لأجتماعات من هذا النوع، والتي طلب فيها عدم دخول أي شخص عسكري لايحمل رتبة طيار الى مكان الأجتماع. وحسب ماورد من المصدر المُقرب بأنه قال بلهجة حازمة " بس الطيارين والبقية بره"، قبل أن تُغلق بوابة حضيرة الطائرات و يفتح حقيبة تعليمات القيادة العليا. حتى أن أحد الطيارين علق هامساً في أذن زميل له " يبين علّكنا الريس مرة أخرى ويا أيران". ولم توضح لهم أن المهمة هذه المرة هي الكويت وليست أيران أِلا بعد أن وضع الآمِر خطةَ الأقتحام الجوي أمامهم.
كان من الهموم العراقية اللوجستيكية أيضاً هو عملية حماية ونقل مايطلق عليه بالأسطول الجوي الشرقي الضخم الذي يضم طائرات باجر ت يو- 16 القاذفة وطائرات النقل الضخمة أليوشن- 76.
وتثير مصادر عسكرية عراقية على علم بما جرى التمهيد له في حينه على أن أوامر عسكرية عليا صدرتْ وأمرتْ بتنفيذ الصفحة الأولى لنقل الطائرات في خضم الحملة الجوية للحلفاء كما هو مفصل أدناه. لم يكن في خطة القيادة العسكرية العراقية المحترفة نقل أو تهريب طائرات عراقية مدنية أو عسكرية الى أيران أو أي دولة أخرى قبل ليلة السادس عشر من كانون الثاني يناير 1991. أن التفكير بذلك أو حتى التلميح بعرض مقترح مخجل كهذا على الرئيس صدام قد يؤدي بأي قائد عراقي محترف الى حتفه مهما كانت رتبته أو مركزه وألصاق تهمة الجبن والخيانة به.
فلماذا أذن تمت هذه العملية الغامضة والمُهينة ؟ وكيف سّببَ هذا القرار بالخلل الأستراتيجي وتحطيم الروح المعنوية للقوات الجوية وألوية المشاة المدرعة في نفس الوقت.
كان العراق قد تسلّم من روسيا قبل سنة من بداية الحرب 4 الى 8 طائرات قتال حديثة من طراز ميغ 29 ب فولكرم المقاتلة (تتضارب الأرقام بالنسبة للعدد). ويحول الغموض الى اليوم لأسباب موافقة صدام على أرسالها الى أيران بالذات، وقد تمَّ فعلاً أرسالها أولاً، في الأسبوع الثاني من الحرب. وأعطيت للطيارين مهلة 25 دقيقة للتهيؤ والأقلاع وهبطت بسلام مع طاقمها في قاعدة مهرباد الجوية قرب طهران، وتبعها في يوم 26 شباط فبراير مابين 115 الى 148 طائرة، وهو العدد الأكبر من الطائرات المدنية والعسكرية التي كانت قد أقلعت من قواعد مختلفة وتوجهت بها الى أيران لتهبط في قواعد متفرقة. أِلا أن مصادر عراقية أخرى ذكرت أن القيادة السياسية الأيرانية منعتْ الطائرات العراقية العسكرية ( ميغ 29 ب فولكرم المقاتلة وطلئرات النقل الضخمة اليوشن -76) منها من التقرب من العاصمة طهران لأسباب غير معروفة، وأمرتها بالطيران الى زهدان قرب الحدود الباكستانية .
وكانت أيران قد أعلنت رسمياً موقفها الحيادي بالنسبة للحرب كي لاتعطي مبرراً للأسطول الأمريكي بالمبادئة وتوسيع رقعة الصراع أو بدخول الأجواء الأيرانية. فقد كانت أيران منهكة من الحرب التي كانت قد خرجت لتوها منها ولم تكن في وضع يُمكنها الدفاع عن 14 قاعدة جوية معظمها تنتشر في القسم الجغرافي الغربي والجنوبي الساحلي من الخليج، كما أن معظمها كان في دور التطوير والتحديث، بالأضافة الى كلية ستاري الجوية. وتم وضع كل القواعد الجوية الأيرانية في أقصى درجات الأنذار طوال فترة الحرب و لِما بعد يوم 28 من شهر شباط فبراير 1991، وهو تاريخ وقف أطلاق النار وأنتهاء العمليات رسمياً .
وينبغي التأكيد هنا أن الطائرة ليس لها أي قيمة، قدرة أو فائدة قتالية أو دور لوجستيكي مادامت جاثمة على الأرض في ملجأ أو قاعدة جوية. ولعل ذلك من أبسط المبادئ التي يفهمها منتسبو السلاح. كما أن التاريخ الحديث للحروب يعطي العديد من ألأمثلة والدروس التي توضح بأن ماتفضله أي قيادة جوية هو القيام بمباغتة سلاح الجو للدولة المُعادية بهجوم وقائي مفاجئ، يُقصّر من أمد الحرب عندما يتيح الجانب الأخر، بغباء الفرصة لقصف القواعد الجوية وتعطيل المدارج وضرب الطائرات الحربية وخزانات وقودها قبل أقلاعها من الأرض. أنه حلم يراود أي قيادة جوية وفرصة لاتعوض لأنتزاع النصر السريع.
ولعل المثال الأسرائيلي المصري لحرب عام 1967 يعطي صورة الأوضح لمثل هذه النكبات الأستراتيجية. لقد حشّد الحلفاء مايقرب من 1700 طائرة في قواعد جوية محيطة بالعراق: تركيا والمملكة السعودية وقطر. وأنذروا العراق بالأنسحاب من الكويت قبل أنتهاء المهلة التي وافق عليها مجلس الأمن بقراره المرقم 678 المُتخذ في تشرين الثاني نوفمبر من سنة 1990، كما حشدت الولايات المتحدة للعمليات أكثر من 300 ألف جندي، فلم يكن هناك أي شك أو مفاجأة بأن الهجوم كان سيقع بعد أنتهاء المُهلة المحددة للأنسحاب.
وقد قدّر الخبراء والمعنيون بالشؤون العسكرية والأستراتيجة بأن الحلفاء، أن حالفهم الحظ، سيفقدون طائرة واحدة مقابل كل أربع طائرات عراقية ( التقدير الأمريكي 5 الى 1 ) سواء تمّ ذلك في قتال جوي أو نيران الأسلحة ألأرضية. فقد قام الحلفاء ب 8000 طلعة جوية خلال الخمسة أيام الأولى لتصل الى 15000ألف طلعة بعد تسعة أيام من الحملة الجوية. ولا يستطيع أي مصدر أن يؤكد في نفس الوقت بأن طائرات أمريكية من طراز ف 15 الأعتراضية أستطاعت أسقاط 4 طائرات نفاثة مرافقة للأسراب العراقية المُهربة والتي وصل عددها في رواية أخرى الى 121 طائرة بنهاية الحرب.
ويدعي البعض وفقاً لمصادر أعلامية غير مُؤكدة أنه لم يكن لصدام أي خيار أِلا خوض الحرب بطريقته الخاصة.كما لم تستطع القيادة السياسية (الحزبية والعسكرية) تقديم أي تبرير تكتيكي أو أستراتيجي لأدارة عمليات عسكرية على النحو المأساوي الذي جرتْ عليه.
ولم تُعلن الحكومة العراقية عن موافقتها على الأنسحاب من الكويت أِلا بعد مرور شهر من الدمار الكلي الذي لَحِق بالعراق نتيجة الضربات الجوية لطائرات F-117A Nighthawk والأصابات المباشرة المتكررة لأكثر من 1600 هدف حيوي أشتركتْ هذه الطائرات بمهاجمته ليلاً، دون مواجهة فعالة من طائرات الأعتراض المقاتلة نتيجة أبقاء التشكيلات الجوية العراقية في حالة ركود أو أخفاء.
ومن جهة اخرى تمحورَ القرار النهائي للتركيز على ايران كدولة (غير عربية) مجاورة للعراق دون غيرها من الدول العربية لأرسال ماتبقى من طائرات، بعد تردد القيادة العراقية، سبقه أرسال سوريا ومصر قوات أضافية الى السعودية لمساعدة دول التحالف لفك قبضة القوات العراقية عن الكويت.
ولايُعرف مادارَ في مخيلة صدام بعد بدء العمليات وكيف غيّرَ بقرار غريب ، تحديد ( وفي حالات أخرى) ألغاء دور القوة الجوية العراقية والخطة الدفاعية المتماسكة التي تعتمد على تناسق عمل طائرات الأعتراض وصواريخ أرض جو والأسلحة الخفيفة المضادة للطائرات وتناغم عملها التقني التكتيكي ونظم أتصالاتها وتبادل المعلومات بين الوحدات.
فحسب ما أورده طيار عراقي أمتنعَ من ذكر أسمه لأسباب أمنية " أن التشويش على مقرات القيادة وأجهزة السيطرة الجوية العراقية لم يؤثر الى درجة مخيفة من عمل وحدات الصواريخ المضادة للطائرات أو تنسيق عمل المجهود الجوي العراقي، بقدر ما أثرَ القرار الذي أصدرَهُ صدام وأربكَ فيه معظم القيادات العراقية في معظم القوعد الجوية العراقية، وقلدها بنتيجة هذا التصرف وسام الهزيمة العسكرية خلال الحرب المشتعلة.
" فلقد كان سلاح الجو العراقي على درجة عالية من الكفاءة والأستعداد القتالي والأشتباكات الجوية في الحالات التي يدور فيه القتال داخل دائرة الفضاء القطري وبصندوق قتالي مُحدّد. وكانت الخطة المعتمدة وضع أو نصب شراك جوية لقتل طائرات تخترق الأجواء العراقية و تشترك في الخطة القتالية أساساً، طائرات ميغ21 القديمة نسبياً وميغ 25 وطائرات الميراج الفرنسية ف 1 المقاتلة التي حشّد العراق العشرات منها منذ عام 1979".
ورغم الأعتقاد الذي كان سائداً بين ضباط الفرق العسكرية والقطعات العسكرية البرية بأن الحماية التي ستوفرها القوة الجوية لهم ولمراتب الجنود والضباط ومدرعاتهم ومعداتهم المحمولة لن تكون محدودة الأمد، أِلا أن القيمة المعنوية والنفسية لهذا الأعتقاد تراجعتْ في الأيام الحاسمة الأولى للحملة الجوية نظراً للخلل الأستراتيجي الذي سبّبه قرار القيادة العليا بعدم ربط العلاقة التكتيكية للعمليات بين صنوف القوات الأرضية وحاجتها للأسناد الجوي. فكان هذا القرار في نظر خبراء الأستراتيجية يعني تجميد دور القوة الجوية الى ادنى الحدود وعدم الأرتكاز على دورها الأستراتيجي بنسب خطيرة، أضاعتْ وفقها تكتيكياً وأستراتيجياً، فرصة لاتعوض للمجهود القتالي لأن العراق لم يكن بمقدوره أمتصاص الضربة الجوية أو التقليل من تأثيرها الكُلي دون أعتماد خطة مُحكمة للدفاع الجوي وأعتراض الطائرات المُغيرة. وبذلك خسرَ العراق معركة أم المعارك وفُقدتْ الطائرات التي لايعرف مصيرها أوعددها بالضبط .
وَبقيتْ أسرار القرار غامضةً يكتب عنها الغربيون والمحللون العسكريون ماشاء لهم الخيال.
---------
الكاتب : ضياء الحكيم