في البلدان المتطوّرة، ظلّت عملية تجنيد المرأة في الجيش موضوع نقاش مكثّف لأكثر من ثلاثين عاما، حيث يؤكد المؤيدون حقّ المرأة المتساوي في العمل جنباً إلى جنب مع الرجل في الجيش، حتى في الأدوار القتالية، حين يخشى المعارضون من أن مجرّد وجود المرأة في مايعتبرونه مؤسّسة ذكورية، يقوّض روح العمل الجماعي والفعّالية القتالية. ويرى البعض أنه لا يمكن للمرأة تحمّل الأذى الجسدي، على الرغم من أن إدماجها في الجيوش الغربية بأعداد متزايدة يَشي بخلاف ذلك.
على النقيض من ذلك، يُعتبر تجنيد المرأة في الجيوش العربية، حتى في أدوار غير قتالية، أمراً نادراً ، ولايزال يثير جدلاً على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. ولذلك عندما أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة أن أحد طيّاريها الذي نفّذ مهام قتالية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في سورية في العام 2014 كانت امرأة، الرائد مريم المنصوري، حظي الخبر باهتمام إعلامي كبير. وأظهرت وسائل الإعلام الجزائرية اهتماماً مماثلاً في العام 2009 عندما تمت ترقية فاطمة الزهراء عرجون، مدير عام مستشفى عين النعجة العسكري، إلى رتبة عميد، وهي أول امرأة في الجيش الشعبي الوطني الجزائري وفي العالم العربي، تصل إلى هذه الرتبة. وبعد ثلاث سنوات، أصبحت فاطمة بودواني ثاني امرأة تتم ترقيتها إلى رتبة عميد في الجيش الجزائري، وتبعتها ثلاث نساء في العام 2015.
تمت مساواة وضع المرأة بوضع الرجل في الجيش من الناحية القانونية بموجب قانون صدر في 28 شباط/فبراير 2006، وكسرت الترقيات العسكرية للمرأة بين عامي 2009 و2015 ما اعتُبر من المحرّمات. ووضع الجيش منذ ذلك الحين إطاراً رسمياً للسياسات الخاصة بتكافؤ الفرص، وبذلت جهود لتطبيقه.
مكّنت سياسة تكافؤ الفرص الجيش الجزائري من تقديم نفسه على أنه جيش تقدمي وعادل ومفتوح أمام جميع أفراد المجتمع الذين يُفترَض أن يمثّلهم. غير أن هذا يبدو مجرّد خطوة على صعيد العلاقات العامة أكثر منه تحوّلاً جوهرياً في نهج الجيش الجزائري. والواقع أنه ليست هناك مساواة، حيث يظل الإدماج الكامل للمرأة في نطاق محدود. ويتم تصوير المرأة في الجيش الجزائري بطرق متناقضة: إذ يُنظر إليها على أنها رمز جدير بالثناء للمساواة بين الجنسين، ومع ذلك فإن طريقة تمثيلها تكشف حقيقة إضفاء الطابع الجنسي عليها وتهميشها. كما يتم الإبقاء على التقسيم التقليدي للعمل القائم على الجندر، حيث يتم وضع العسكريات في الغالب في وظائف ثانوية ويبقين مساعدات لنظرائهن الذكور.
والحصيلة هي استمرار وجود النزعة الأبوية الحمائية، التي تعتبر المرأة عاجزة عن التكيّف مع صرامة الحياة العسكرية والمقتضيات القاسية للقتال. وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى المرأة على أنها أم ومقدّمة رعاية وسط أجواء سائدة من التمييز الحميد على أساس الجندر.
تكشف المجلة الشهرية الرسمية للجيش الجزائري، "الجيش"، إضافةً إلى المقابلات التي أجريت مع ضباط متقاعدين، أن سياسة الجيش تجاه المرأة ليست شمولية بصورة منتظمة ولا حصرية تماماً. وقد تم إحراز تقدم كبير في تجنيد المرأة، حيث يتم قبولها الآن في جميع فروع القوات المسلحة. ومع ذلك، لاتزال ثمّة فجوة بين التصريحات الرسمية عن المساواة وبين الواقع. إذ لاتزال المرأة تعمل في المجالات نفسها كما كانت من قبل، ولاسيّما في مجال الإدارة والاتصالات والخدمات الاجتماعية، وفي الأغلب في وظائف برتبة أدنى. علاوةً على ذلك، يستمر استبعاد المرأة من الوحدات القتالية. وبالتالي فإن عملية إدماجها في القوات المسلحة ناقصة.
مع ذلك، لايزال وضع المرأة في الجيش الجزائري، إلى حدّ كبير، خارج دائرة النقاشات العامة. ذلك أن ثقافة السرّية التي تحيط بالجيش الجزائري، الذي يطلق عليه اسم (الصامت العظيم)، تعني أن هناك القليل من المعلومات المتوفرة عنه، وحتّى معلومات أقلّ عن الموظفات في صفوفه. ومع ذلك، ربما يمكن جمع الكثير من المعلومات من الطريقة التي يتم من خلالها بناء العلاقات بين الجنسين استطرادياً داخل المؤسّسة العسكرية، لأن الخطابات (تعرّفها إحدى الدراسات بأنها "نظم المفاهيم التي تعطي معنى للكيانات والأنشطة" ) والروايات (توصف في تحليل آخر على أنها "طريقة تفكير وطريقة تمثيل" ) تشرح ممارسات ملموسة وتشكّل قاعدة السياسة الكامنة وراء تجنيد المرأة في الجيش الجزائري.
يزداد الدفاع عن موقف الجيش الجزائري من وضع المرأة ودورها صعوبة، إلا أنه لم يَحْظَ إلى الآن بالاهتمام المركّز والجهد المتواصل من جانب قيادة الجيش الجزائري أو وزارة الدفاع.
تاريخ المرأة مع الجيش في الجزائر
منذ استقلال الجزائر في العام 1962، كان يُنظر إلى المرأة باعتبارها أداة للدعاية والعلاقات العامة للجيش الجزائري، أكثر منها عضواً فاعلاً يشارك في صنع القرار وتقاسم الواجبات الرئيسة، خاصة القتالية منها.
تشكّلت المواقف تجاه مشاركة المرأة في القوات المسلحة لأول مرة في حرب استقلال الجزائر 1954-1962، وهي الفترة التي تمت فيها إزاحة المرأة للقيام بأدوار ثانوية، لا بل تم أحياناً استبعادها من حياة الجيش. جرى ترحيل التردّد الأولي في إدماج المرأة في الخدمة الفعلية إلى فترة ما بعد الاستقلال، إلى أن سمح الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين في النهاية بالتحاق النساء بالجيش الجزائري كضباط وضباط صف، باعتبار ذلك وسيلة لتصوير الجزائر على أنها بلد رائد من حيث حقوق المرأة. غير أن السياسة الرسمية بقيت غامضة وغير متناسقة: فقد تم تعليق عمليات تجنيد المرأة في العام 1986، واستؤنفت بعد خمسة عشر عاماً. لم يكن هناك تنويع لدور المرأة حتى منذ العام 2006 عندما تم فتح المزيد من الإدارات والفروع أمام الموظفات.
المقاتلات في جيش التحرير الوطني
على الرغم من مشاركة المرأة في النضال من أجل الاستقلال عن فرنسا، فإن الحركة الوطنية الجزائرية آنذاك والحزب الحاكم الحالي، جبهة التحرير الوطني، وفرعها العسكري السابق، جيش التحرير الوطني، لم يكن يعتبر المرأة عضواً كاملاً سواء بالقول أو بالفعل. كان انعدام المساواة بين الجنسين هو القاعدة في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، ولم تحصل المرأة أبداً على صوت مشروع يُشارك في صنع القرار. لقد جرى تشجيع مشاركة المرأة لأسباب براغماتية ووفّرت بذلك دعاية لجبهة التحرير الوطني.
ومع ذلك اعتُبرت المرأة، منذ الاستقلال، قدوة جزائرية معترفاً بها من الدولة كبطلة وطنية على غرار إخوانها المجاهدين. إذ يتعلم طلاب المدارس عن الفدائيات أي النساء اللواتي شاركن في العمل المسلح، والمسبّلات أي النساء المسلحات اللواتي كانت مهمتهن الرئيسة استضافة وتمريض المجاهدين، والمقاومات أي النساء اللواتي كن يعشن في جماعات التمرّد مع الرجال، ومهمتهن الرئيسة هي طهي الطعام للمجاهدين الذكور ورعايتهم.
هذه الشخصيات ظاهرة للجمهور خاصة في البيانات السنوية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة في 8 آذار/مارس. إضافةً إلى مجلة الجيش الرسمية، تسلّط هذه البيانات الضوء على تفاني المرأة وشجاعتها ونكرانها للذات خلال الحرب.
في عدد خاص صدر في نيسان/أبريل 2013، خصّصت مجلة الجيش 40 صفحة من أصل 86 لمناقشة مشاركة المرأة في الجيش، من مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال وحتى العصر الحديث. تم كذلك تخصيص خمس عشرة صفحة أخرى لإجراء مقابلات مع عسكريات، مثل العميد بودواني. في هذا العدد، اعتبرت مشاركة المرأة في جيش التحرير الوطني أمراً مفروغاً منه: "في بداية الثورة، كانت مشاركة المرأة واضحة في القطاع العسكري حيث التحقت العديد من النساء بصفوف المقاومة". قدمت المجلة المرأة الجزائرية باعتبارها" امرأة ثورية ومقاتلة منتصرة". وكانت المرأة "الشجاعة" و"الجريئة "التي" ارتدت الزي العسكري وحملت البندقية والقنبلة اليدوية بالشجاعة والعزم نفسه على غرار أخيها المجاهد". خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، روّجت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني للصور البطولية لحاملات القنابل مثل جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وحسيبة بن بوعلي، كرموز تقدمية للجمهور الغربي. واستُخدمت صور المقاتلات - الاستثناء وليس القاعدة - على سبيل الدعاية. ومثّلت النساء اللواتي يرتدين الزي العسكري ويقفن للتصوير وهن يحملن البنادق وجه جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني أمام العالم الخارجي.
كانت الأمور مختلفة على أرض الواقع. إذ لم تكن مشاركة المرأة في النضال من أجل الاستقلال الهدف الأساسي لجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني. فقد تم تجنيد النساء لأسباب عملية: لتعظيم الموارد النادرة من أجل النضال بعد اندلاع الاحتجاجات الطلابية في العام 1956. وجاهَرَت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني برفضهما تجنيد النساء. وفي العام 1958، كتب المجلس الإقليمي "للولاية الثانية"، توجيهاً في هذا الصّدد:
"نُذكّر مرة أخرى أنه يحظر توظيف النساء في هذه المراكز، مهما كانت النتائج والفوائد. كما نعلمكم أنه يمنع منعاً باتاً على جميع النساء الالتحاق بصفوفنا. وإذا حاولن الالتحاق، ينبغي إعادتهن إلى مكانهن الأصلي، حتى لو كنَّ أسيرات لدى العدو. ويجب إعدام من يرافقون النساء".
كان هذا هو الحال أيضاً في الولاية الخامسة، حيث أوضح زعيم المنطقة، الملقب سي علال، الأمر قائلاً:
"أودّ أن أذكّر جميع الوحدات مرة أخرى أنه يحظر تجنيد الأفراد والممرضات في المنطقة من دون إذن. في الجزائر المستقلة ستتوقف حرية المرأة المسلمة عند عتبة بابها. لن تكون المرأة أبداً مساوية للرجل".
علاوةً على ذلك، كان هناك تمييز ضد المقاتلات داخل جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني بسبب صفائها الجنسي وضعفها. في بعض المناطق الإقليمية، مثل "الولاية الثالثة"، كانت العذرية شرطاً أساسياً لقبول المقاتلات. كان على كل مقاتلة أن تخضع إلى ذلك الفحص؛ كما كتب المؤرخ جيلبير مينييه، ؛ "جيش التحرير الوطني يحلّ محلّ الأب في إدارة الجنس الحميد".
لم تصل أي امرأة إلى منصب قيادي في جبهة التحرير الوطني أو جيش التحرير الوطني، خلال فترة الكفاح من أجل الاستقلال. علاوةً على ذلك، تم دائماً تفضيل الرجل على المرأة في إجراءات الاختيار التي يملك الرجل والمرأة فيها مؤهلات متساوية، وفقاً لدراسات أجراها باحثون، بمن فيهم جميلة عمران. على سبيل المثال، عندما طلبت نفيسة حمود، وهي طبيبة في جماعات المقاومة، أن تتولّى إدارة مديرية الصحة في "الولاية الثالثة"، رفضت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني طلبها واختارتا بدلاً منها زميلها مصطفى لاليام؛ مع أن الاثنين يحملان المؤهّلات نفسها. وكما تؤكّد أمثلة أخرى كثيرة عن تفضيل الرجال على النساء، فإن انعدام المساواة بين الجنسين كان هو القاعدة.
إضافةً إلى ذلك، بلغت نسبة النساء 3 في المائة فقط من مجموع قوة المجاهدين. وكانت مشاركة المرأة كمقاتلة في حرب الاستقلال في حدّها الأدنى، بواقع 2 في المئة من جميع النساء اللواتي شاركن في الحرب. غالبية المقاتلات أي 82 في المئة، كنّ من المسبّبات اللواتي استضفن المجاهدين وغسلن وخُطْن ملابسهم. وفي حالات أكثر ندرة، كانت المسبّلات جَمعن الأموال والأدوية والأسلحة، بينما أصبحت المؤهَّلات سكرتيرات أو ممرضات.
مع ذلك، فتحت حرب الاستقلال آفاقا جديدة للمرأة الجزائرية، بما في ذلك التساؤل حول العلاقات بين الجنسين. فقد كان في الجزائر مجتمع يسيطر عليه الذكور "انحصرت" فيه النساء في "نظام أبوي-أسطوري"، على حدّ قول عالم الأنثروبولوجيا بيير بورديو؛ وكان الفصل بين المرأة والرجل صارماً. أتاحت الحرب، على الرغم من بشاعتها، للمرأة توسيع دورها المهني خارج الأسرة، لكن جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني حصرتها بالقيام بمهام من شأنها ألا تُخِلّ كثيراً بالنظام الاجتماعي، آنذاك أو في المستقبل. وكما أوضح عالم الاجتماع جويس روبنز: "النزعة العسكرية الثقافية وروح المشاركة القوية في الدول التي تتعامل بلغة السلاح لاتقلّل الفوارق، كتلك الموجودة بين الرجل والمرأة، بل تخفيها لأهداف حربية".
بعد إعلان استقلال الجزائر في 5 تموز/يوليو 1962، أصبحت الأجندة الذرائعية البحتة لجبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني واضحة. فقد عدّل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم مرة أخرى تصوراته للمرأة لتناسب المجتمع التقليدي "ذا النظرة الرجولية"، على حدّ تعبير بورديو. أعيدت القيم والنساء مرة أخرى إلى المناخات المحلية. وعلى الرغم من تبنّي إصلاحات تعليمية لصالح المرأة، أصبحت جبهة التحرير الوطني أكثر تحفّظاً وتقييداً لحقوق الأنثى: صدرت قوانين صارمة في مجال الزواج والطلاق، وأصبحت حقوق الميراث غير المتكافئة، وحظر وسائل منع الحمل، وتعدّد الزوجات، والتحرّش، والعنف المنزلي علامات واضحة على تهميش المرأة. وكما لخّصتها الناشطة والكاتبة ماري-ايمي هيلي-لوكاس، "أصبحت الاشتراكية والقومية والدين أدوات لبلورة سياسة رسمية معادية للمرأة".
من العزل إلى الإدماج؟
بعد انتهاء حرب الاستقلال، اتّخذت جبهة التحرير الوطني صورة الفدائيات (النساء اللواتي شاركن في القتال ضد الاستعمار) رمزاً لمساواة حققتها المرأة بالفعل. وعلى الرغم من ذلك، جرى في الواقع تهميش المرأة، حيث تم تحييدها في عملية بناء الدولة الجديدة وأبقيت خارج دائرة صنع القرار. في الدولة المستقلة حديثاً، كانت قضايا المرأة ثانوية جداً بحيث بدا أن قلّة شعروا بأنها بحاجة إلى الكثير من النقاش.
أحد الأمثلة الهامة على خفض منزلة المرأة في الجزائر هو تمثيلها الضئيل في الهيئات الإدارية. ففي أول جمعية تأسيسية في البلاد، التي تشكّلت في العام 1962، كانت هناك عشر نساء فقط من أصل 196 عضواً، أو 5.1 في المئة من المجموع. وفي الجمعية الثانية، التي أنشئت في العام 1964، وتم تقليص عدد أعضائها إلى 138، انخفض عدد النساء إلى اثنتين، أو 1.4 في المئة. وبلغت نسبة النساء 3 في المئة فقط في المجلس الشعبي الوطني للعام 1977، و1.4 في المئة في العام 1982، و2.9 في المئة في العام 1987. أما بالنسبة إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وهي الهيئة المسؤولة عن إدارة حزب جبهة التحرير الوطني، فقد تم تشكيلها من الرجال حصراً.
تم بصورة مماثلة تهميش النساء في الجيش. وعوملت النساء اللواتي شاركن في الحرب بصورة مختلفة عن نظرائهن من الرجال. على سبيل المثال، تم تكريم جميع المقاتلين الذكور، بمن فيهم بعض من لم يشاركوا في القتال، بلقب "مجاهد". وفي الوقت نفسه، لم يتم حتى تسجيل النساء للحصول على استحقاقات مثل المعاشات التقاعدية، والأولوية في التوظيف والتدريب، والقروض والإسكان وبدلات الأرض. علاوةً على ذلك، لم يتم تخصيص رتب عسكرية للنساء اللواتي شاركن في الكفاح من أجل الاستقلال، كما هو مبيّن في قاعدة البيانات الوطنية للمجاهدين. الرتب المذكورة قاصرة على الرجال فقط. ولم يتم إعطاء أي مبرّر لسياسة الكيل بمكيالين.
وعلى الرغم من تحويل جيش التحرير الوطني إلى قوة نظامية سُمّيت "الجيش الشعبي الوطني" في العام 1962، إلا أن قيادة الجيش لم تضع موضع التنفيذ أي سياسة للتجنيد بالنسبة إلى المرأة. ومع ذلك، يمكن للنساء العمل كموظفات مدنيات في المناصب الإدارية والسكرتارية.
في 5 كانون الثاني/يناير 1978، في أعقاب مرسوم أصدره بومدين، سُمِح للمرأة أخيراً بالالتحاق في صفوف الجيش الجزائري كضابط وضابط صف. تم استبعاد المرأة من فئة المجندين، من يحملون رتبة عسكري أو عريف،"بحكم خصوصية المرأة وطبيعتها، فهي ليست مناسبة لهذا النوع من العمل"، وفق ماورد في مجلة الجيش.
هناك وجهة نظر محافظة واضحة تقلّل من قدرة المرأة وفعّاليتها في تنفيذ المهام التي توكل بصورة طبيعية إلى المجندين، الذين يخضعون إلى تدريبات بدنية مكثّفة وتتراوح مهامهم بين إطلاق القنابل اليدوية وإطلاق المدافع وقيادة الدبابات. لاعلاقة لهذا الاستبعاد بأي شرط موضوعي بقدر علاقته بالبناء الاجتماعي لأدوار الجنسين وماينظر إليه على أنه عمل مناسب للمرأة.
لقد ثبت أن فرصة المرأة في الالتحاق بالجيش كانت قصيرة الأمد، حيث لم تستمر سوى ثماني سنوات. ففي العام 1986، تم تعليق عمليات تجنيد الإناث، لتُستأنف في العام 2001. يُبرّر التعليق باعتباره مشكلة تتّصل بالمنفعة. ووفقاً للأشخاص الذين تمت مقابلتهم لهذه الدراسة، تطلّب تجنيد وتدريب المرأة استثماراً كبيراً لأنه ينطوي على تكاليف لتنفيذ هذه السياسات، وبناء المرافق اللازمة لإيواء النساء، وتطوير رأس المال البشري، وتغطية النفقات المرتبطة بدوران عمالة النساء وإجازة الأمومة. وقد أثّر النمو الكبير في عدد النساء اللواتي التحقن بالجيش بعد العام 1978 بصورة مباشرة في إدارة شؤون العاملين.
وجدت قيادة الجيش أن معظم النساء ترَكْن، في نهاية المطاف، الجيشَ الوطني الشعبي لتكوين أسرة أو للعمل في القطاع الخاص، حيث يمكنهنّ بسهولة استخدام المهارات التي اكتسبنها في الجيش، مثل صنع القرار والعمل الجماعي وحيث وجدن فرصاً للتقدّم.
لكن الأبواب فُتِحَت أخيراً أمام النساء لدخول مايُسمّى معترك الرجال، والجيش الوطني الشعبي أحرز تقدّماً بارزاً في تجنيدهنّ كأفرادٍ في الجيش، وفي الاعتراف بحقوقهنّ. فمنذ العام 1978، أدّت النساء في الجيش الجزائري عدداً متزايداً من الأدوار، وإن لم يكن على نطاق أوسع.
على طريق المساواة؟
شهدت عملية تجنيد النساء في الجيش الوطني الشعبي تطوّراً مهماً، إذ أُدخِلن إلى فروع القوات المسلحة كافة. لكن المسافة التي لايزال عليهنّ اجتيازها قبل أن يُعتبَرنَ متساويات مع نظرائهنّ الذكور، يُظهِرها استمرار سياسات تعيينهنّ في مناصب تابعة، واستبعادهنّ عن الوحدات القتالية.
في أيار/مايو 2001، قررّت قيادة الجيش استئناف تجنيد النساء، ووسّعت المجالات التي يمكن أن ينضممن إليها. شملت هذه المجالات الإدارة، والخدمات الاجتماعية، والصحة، والمالية، إضافةً إلى الأبحاث، والتنمية، والتصنيع العسكري، والصيانة، والتعليم. وواكب الإعلان عن هذا القرار إشارات عدّة إلى أهمية تلبية احتياجات الجيش الجديدة ومتطلّباته الخاصة. وفي العام 2006، أَدخل الجيش الوطني الشعبي تحوّلاً حاسماً في السياسة، ساعياً بشكل استباقي إلى تجنيد أكبر للنساء وتوسيع دورهنّ. وقد انعكس هذا الأمر في خطاب حول الحداثة، وترافق مع تدابير جديدة ترمي على مايبدو إلى تسهيل وضمان مشاركة النساء بشكلٍ أكبر.
وُضِعت المرأة في مكانة متساوية مع الرجل للمرة الأولى في مرسوم شباط/فبراير 2006. و شرح الجيش الوطني الشعبي هذه الخطوة اللافتة باعتبارها:
استجابةً لمتطلّبات أفراد الجيش، وطريقة للانسجام مع متطلّبات تحديث قواتنا المسلحة... إن المرسوم أُقِرّ، والمساواة الجندرية ضمن الجيش الوطني الشعبي مُنِحَت مع الأخذ في عين الاعتبار واقع أن المرأة هي عنصر فاعل يساهم مساهمةً كاملةً في عملية تحديث الجيش الوطني الشعبي وتطويره.
قدّمت مجلة الجيش المرسومَ على أنه "تشريع جديد يرسّخ مبدأ المساواة بين الأفراد الذكور والإناث في تجنيدهم، وتدريبهم، وترقيتهم، كما في حقوقهم وواجباتهم". ووفقاً للمجلة، شدّد المرسوم أيضاً على أهمية مشاركة النساء في الجيش، لكون هذه المشاركة تصبّ "في صلب التحديث الوطني".
واتُّخِذَت تدابير عملية لتطبيق التشريع الجديد، وتسهيل مشاركة النساء في الجيش، وأُخِذَت في عين الاعتبار جوانب خاصة بالمرأة، على غرار إجازة الأمومة قبل الولادة وبعدها، وعوامل تتعلّق بمدّة خدمة النساء. في هذا الصدد، نصّت المادة 20 من المرسوم على أن المجنّدات النساء برتبة مقدَّم ومافوق يمكن أن يستفدن، بناءً على طلبهنّ، من تخفيضٍ تبلغ مدّته ثلاث سنوات لسنّ التقاعد الاعتيادي مدّته. في المقابل، منحت المادة 98 إجازةً مُمدَّدةً إلى النساء في الجيش، من الضباط وضباط الصف، في حال تعرَّضَ أحدُ أفراد عائلاتهنّ المباشرة، مثل الزوج أو الأبناء أو الشخص الخاضع شرعاً إلى الوصاية القانونية المعروفة بالكفالة، إلى حادث أو كان يعاني من مرض خطير. وتُمنَح الإجازة المُمدَّدة أيضاً إلى العناصر من النساء اللواتي يرغبن في أن يتبعن أزواجهنّ لأسباب مهنية، أو في أن يربّين ابناً أو ابنة دون سنّ الثالثة، أو يقدّمن رعاية متواصلة إلى فردٍ من الأسرة ذي احتياجات خاصة. كذلك يستطعن أخذ إجازة مُمدَّدة لغرض الدراسة أو إجراء الأبحاث أو لأسباب شخصية، ولكن لفترة غير قابلة للتجديد مدّتها اثني عشر شهراً. هذا ويعفي المرسومُ الضباطَ الإناث من بعض الواجبات مثل المهام الليلية.
واليوم تُقبَل النساء في الأكاديمية العسكرية الجزائرية، حيث شكّلن نسبة 18 في المئة من مجمل المجنّدين في العام 2013. كما تُقبَل النساء في المدرسة العليا للدرك الوطني، والمدرسة التطبيقية للقوات الخاصة، والمدرسة العليا للإدارة العسكرية، والمدرسة الوطنية للصحة العسكرية، والمدرسة الجهوية لصيانة معدّات النقل. وفي العام 2013، رحّبت المدرسة العليا للبحرية بالضباط الإناث للمرة الأولى. فمن بين 92 ضابطاً، 29 كانوا من النساء، أي مايمثّل 31.5 في المئة من المجموع.
هذا المرسوم عكس مقداراً من التقدّم، لكنه كان على الأرجح جهداً يصبّ في بوتقة العلاقات العامة. صحيح أن المرسوم منح المساواة للنساء في مايتعلّق بالتجنيد، والتدريب، والترقية، والحقوق، إلا أن النساء استُبعِدن عن الوحدات التي تؤدّي مهام قتالية، مثل المدفعية، والمشاة، والوحدات المدرّعة، والوحدات القتالية للقوات الجوية. إضافةً إلى ذلك، ليس على النساء أن يخضعن إلى التدريب نفسه الذي يخضع إليه الرجال. لكن هذا الاستبعاد ليس منظَّماً، كما قال الأشخاص الذين أُجريَت معهم مقابلات لدواعي كتابة هذه الدراسة، بمَن فيهم مسؤولون سابقون في الجيش الوطني الشعبي. إذ يعتقد هؤلاء أن الاستبعاد يجري على الأرجح لحماية صورة الجيش باعتباره مُستخدمِاً تقدّمياً منفتحاً على الجنسين، ومؤسسةً ترتبط بشرائح المجتمع كافة.
إدماج غير مكتمل
وضع الجيش الوطني الشعبي سياسة لتجنيد النساء إضافةً إلى سياسة لتكافؤ الفرص. من الناحية الإيجابية، أصبح للنساء تواجد في الجيش أكبر من ذي قبل؛ إذ ثمة نساء في الجيش أكثر بثلاثين مرة مما كان في العام 1978. أما من الناحية السلبية، فالنساء لسن منخرطات في الجيش بالكامل، ولامُستبعَدات عنه بالكامل. لذا الوضع المبهم، جعل عملية إدماج النساء في القوات العسكرية غير مكتملة. أما السبب فيعود أساساً إلى طريقة تمثيل النساء في الجيش الوطني الشعبي، والتقسيم التقليدي للعمل على أساس الجندر، وهيمنة النزعة الأبوية والتحيّز الجنسي ضد النساء. هذه العوائق الثلاثة تُعزِّز رمزياً وضعَ النساء باعتبارهنّ "أفراداً مابين حدَّين"، أو كيانات فردية لاهوية لها ولامكانة مُعترَف بها ضمن المؤسسة"، على حدّ تعبير عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية ماكسيمو بادارو.
تصوير النساء في الجيش
يُظهِر لنا تحليل أعدادٍ سابقةٍ من مجلة الجيش كيف يرى الجيش الجزائري النساء وكيف يطرح الصور الجندرية. وتُظهِر المجلة أيضاً كيف يروّج الجيش الوطني الشعبي لمشاركة النساء في صفوفه، ليُضفي مصداقيةً على مزاعمه بأنه منصّة تقدّمية ومحايدة وقوية لتمكين النساء، وبالتالي تمكين المجتمع ككلّ.
مع أن الجيش الوطني الشعبي يبذل جهداً ليقدّم إلى النساء الفرص نفسها التي يقدّمها لنظرائهنّ من الرجال، إلا أنه يعزّز في الواقع عدم المساواة بين الجنسين عبر تأنيث النساء، اللواتي يجري تمثيلهنّ دائماً في المواقع غير القتالية ويُستبعدن من الميدان. ومن خلال تجنّب أي ربط بين النساء وبين العمل الحربي، يوطّد الجيش الانقسام الجندري، ويقوّي الروابط بين الرجولة والذكورة والحرب. وبالتالي، يضع حدّاً فاصلاً بين الذكر والأنثى، ويُبقي على طابعه الذكوري والحربي بشكل رئيس.
وقد صدرت مجلة الجيش في العام 1961 كنشرة باللغة الفرنسية تُوزَّع على الوحدات كافة في جيش التحرير الوطني. وفي تموز/يوليو من العام 1963، تحوّلت النشرة إلى مجلة بالاسم نفسه تصدر عن مؤسسة المنشورات العسكرية، وفي العام 1964، نُشِرَت أول نسخة منها باللغة العربية. تحوي مجلة الجيش تقارير عن المراكز التعليمية ومدارس التدريب التابعة للجيش الوطني الشعبي، وتغطيةً للأنشطة التي ينظّمها الجيش، إضافةً إلى دراسات وسجلات تتناول شؤون الأمن والدفاع. وتُعَدّ المجلة، التي يُطبَع منها 65 ألف نسخة، للاستخدام الداخلي ضمن الجيش أساساً وليس حصراً، علماً أن رئاسة التحرير تتألّف بنسة كبيرة من عسكريين.
والواقع أني حلّلت مجموعةً من 40 عدداً، من العام 2011 إلى العام 2014، مع ثغرات بينها لعدم وجود بعض الأعداد في المجموعة التي توفّرها وزارة الدفاع الوطني على شبكة الإنترنت. وهذه المقاربة في التحليل هي مقاربة نصّية تفسيرية. نظرت في ماقيل في المجلة عن النساء وكيف قيل ذلك. فعلى سبيل المثال، هل الجندر مذكور دائماً في النص؟ أي نوع من اللغة مُستخدَم لوصف النساء، وهل يختلف عن نوع اللغة المُستخدَم لوصف الرجال؟
حلّلتُ أيضاً الصور في المجلة، وقيّمت تطبيقاتها الجندرية. فالتصوير وسيلة جيدة لتحديد شكل السرد الذي يريده الجيش الوطني الشعبي للتواصل على الصعيدَين الداخلي والخارجي. وبالتالي، نظرت إلى مظهر الأفراد الذكور منهم والإناث، واستخدام التبرّج واختيار الملابس، والأدوار التي يعكسونها – الأدوار القتالية أو الاحتفالية أو الطبية أو التقنية.34 كما نظرت في الأنشطة التي ينخرط فيها الأفراد، أي ما إذا كانت النساء في مواقع فاعلة أو غير فاعلة، لأن عدم الاضطلاع بدور فاعل يمكن ربطه بالأدوار المؤنّثة، في حين أن السلوك البدني يمكن تفسيره على أنه عسكري أكثر.
الواقع أنه برز تطوّر كمّي واضح في تصوير النساء على مرّ الزمن. فأعداد المجلة الصادرة في العامَين 2013 و2014، تختلف عن الأعداد الصادرة في العامَين 2011 و2012، والتي غابت عنها النساء. لكن تصوير الرجال يُهيمِن على المجلة، على الرغم من الإشارات البلاغية إلى النساء في النص. فلكلّ 100 صفحة ثمة صورتان للنساء في المتوسط. كما يُلاحَظ اختلاف واضح بين صور النساء والرجال، إذ أن صور النساء أصغر ولاتحوي التركيز البصري نفسه الذي تحويه صور الرجال. هذا وتبدو النساء، في معظم الوقت، في أسفل الصفحة، وغالباً مايُصوَّرن مع رجل أو رجال عدة يقودونهنّ أو يوجّهونهنّ.
يُضاف إلى ذلك أن النساء غالباً مايظهرن في أدوار غير فاعلة ولكن تقنية، مثل تشغيل حاسوب أو الجلوس أمام شاشة ما. وغالباً مايُصوَّرن وهنّ يقمن بأنشطة ترفيهية في الهواء الطلق أو في إطار مدني، مثل اليوم الوطني لسلامة الطرق، حيث يمكن رؤيتهنّ يعلّمن الأطفال قوانين السير. وغالباً ماتصوَّر النساء في مايُعتبَر أدواراً نسائيةً مثل التمريض، "تُناسِب ميولهنّ الطبيعية"، كما ورد في مجلة الجيش. فضلاً عن ذلك، يجري تأنيث النساء باستمرار، إلى حدّ أنه من الصعب إيجاد صورة للنساء وهنّ غير متبرّجات وإن لم يكن تبرجهنّ كثيفاً، في حين أن الرجال غالباً مايصوّرون مع تمويه أو تراب على ملابسهم ووجوههم.
لقد أصبح للنساء في الجيش الوطني الشعبي دور أكبر، ويمكن أن تُستخدَم مجلة الجيش لتطوير وتوسيع تعريفٍ للأنوثة والأنوثة العسكرية. في أعداد عدة من المجلة، أُعطيَت النساء صفات معيّنة تُنسَب تقليدياً إلى الرجال، مثل الاستقلالية، والبسالة، والشجاعة، وقدرة التحمّل، والتصميم، والقساوة، والقوة، والقدرة على مواجهة التحديات. على سبيل المثال، تُتاح أمام النساء فرصة الوصول إلى التقليد الذكوري المتمثّل في إثبات الذات. فوفقاً لتجربة المقدّم صوريا عيساوي كما وردت في مجلة الجيش:
"تحتاج النساء مثل عيساوي في الجيش الوطني الشعبي إلى إثبات أنفسهنّ وقدراتهنّ... وإلى مضاعفة جهودهنّ لاكتساب الاعتراف من نظرائهنّ والوصول إلى أعلى المواقع."
على صعيد مماثل، تُظهِر قصة النقيب ليلى حسن المذكورة في المجلة أن الجيش الوطني الشعبي أتاح لها فرصة "إثبات نفسها، وإظهار قدراتها، ومواجهة التحديات بفضل انضباطها ومثابرتها".
يُذكَر أن البنية الخطابية للجيش الشعبي الوطني تشتمل على إشارة نصّية منهجية إلى أنوثة النساء، في حين تغيب كل إشارة إلى الجندر في مايتعلّق بالرجال. وهذا النوع من الإشارات، في تطبيقه اليومي، يميل إلى تعزيز الحالة الطبيعية للجندي الذكر، في حين يسلّط الضوء على تكلُّف الجندي المؤنث. وهذا يُظهِر أيضاً أن المؤسسة لاتزال تحكمها ذهنية ذكورية.
فضلاً عن ذلك، غالباً مايُشار إلى النساء العسكريات وتَظهَر صورُهنّ في نهاية المجلة، في قسم الرياضة. أما السرد المُستخدَم فهو أن النساء قادرات بدنياً، ويمكن أن يكنّ مقاتلات كفوءات. ثمة نيّة إذاً لتطبيع مشاركة النساء. فكما يقول العميد محمد قريش في مجلة الجيش:
"للنساء الحقوق والواجبات نفسها تماماً كما نظرائهنّ الذكور... يمكنهنّ بلوغ الرتب كافة وتبوّؤ المناصب كافة."
هذه الأنواع من الصور تُعيد التأكيد على الوضعية التقدّمية للجيش الوطني الشعبي في مايتعلّق بالمساواة الجندرية. صحيح أن التهميش طفيف جداً، إلا أنه موجود. فعلى حدّ تعبير المؤرّخ جان بوليغ، "مظهر الوضع الطبيعي يُشجِّع القناعة؛ والقناعة تسمح باستمرار التبعية الجندرية".
تُصوَّر النساء وهنّ منخرطات في رياضات وألعاب محدّدة، على غرار الجودو والكاراتيه والشطرنج، لكن ثمة إشارات وصور قليلة تدلّ على ممارستهنّ القفز بالمظلات، أو تأديتهنّ عرض مغاوير، أو ركوبهنّ الخيل، أو إطلاقهنّ النار من بندقية. وهذا يُبيّن كيف أن عسكرة النساء جزئية في الصور التي تَرِد في مجلة الجيش الوطني الشعبي، إذ نادراً مايُنسَب إلى النساء مايدلّ إلى القتال، مثل السلاح – لابل لايُنسَب إليهنّ قط.
أحد الأمثلة على الاستثناءات في التصوير النموذجي للنساء برز في عدد خاص من المجلة، في نيسان/أبريل 2013، بمناسبة يوم المرأة العالمي. ففي إحدى الصور، تظهر امرأة بزيّ عسكري وخوذة قتال وهي تمسك بقاذفة قنابل يدوية، ويبدو شعرها الطويل مربوطاً بشكل واضح. وتُظهِر صورتان أخريان نساء يمسكن برشاش خفيف من طراز فيكرز-بيرتيه (Vickers-Berthier). أما السرد الأساسي الذي تناول هذه الصور النادرة، فكان أن النساء قادرات على القتال في الجيش الوطني الشعبي: إذ يستطعن استخدام الأسلحة مثل قاذفة القنابل اليدوية، ويتمتّعن بمهارات خاصة مثل الرجال.
الواقع أن تصوير النساء في المجلة الرسمية للجيش الوطني الشعبي يخدم غرضَين متناقضَين: تطبيع مشاركة النساء في هذه المؤسسة، التي تصفها عالمة الاجتماع أورنا ساسون-ليفي (Orna Sasson-Levy) بأنها "مفرطة الرجولة"؛ وطَمْس هذه المشاركة في الوقت نفسه. فمن ناحية، يُدخِل الجيش بعض الصور للنساء في مجلته، محاولاً إقناع بعض النساء وأهلهنّ ومجتمعاتهنّ، ولاسيما العناصر الذكور، بأنهنّ يضطلعن بدور في الجيش. بيد أنه، من ناحية أخرى، يُبقي تواجدَ النساء في صفوفه هامشياً ومتناقضاً، وذلك كي لايتحدّى صورة الذكورة ضمن المؤسسة.
تقسيم تقليدي للعمل على أساس الجندر
يصعب إيجاد نساء ذوات رتب عالية في الجيش الوطني الشعبي. لكن بالمقارنة مع النساء من المدنيين في القوة العاملة الوطنية، واللواتي تبلغ نسبتهنّ 18 في المئة، تُمثِّل النساء الخمس من رتبة عميد بداية مهمة يجب الاعتراف بها. فالجيش الوطني الشعبي قام بلا شك بخطوة أساسية بتعيينه خمس نساء برتبة عميد، وباعتماده إطاراً سياسياً لتكافؤ الفرص. لذا ينبغي الاعتراف بأنشطة الجيش في هذا الإطار باعتبارها مثالاً للممارسة الجيدة في تجنيد النساء والاعتراف بحقوقهنّ.
ومع ذلك، لاتُدمَج النساء بالكامل ولايُرفَضن بالكامل، بل ثمة "مزيج من الإدماج والإقصاء"، إذا ما استخدمنا توصيف روبينز للجيش الإسرائيلي. فالنساء يعانين من تقسيم تقليدي للعمل على أساس الجندر. وهذا التقسيم يستند إلى مبدئَين مُنظِّمَين: المبدأ الأول هو الفصل، حيث تُعيَّن مهام مختلفة للرجال والنساء – يوضَع الرجل في المجال الإنتاجي، والمرأة في المجال الإنجابي؛ والمبدأ الثاني هو الهرمية، أي أن عمل الرجل أهمّ من عمل المرأة.
أظهرت المقابلات مع أفراد سابقين في الجيش أن معظم النساء يتركّزن في مايُعتبَر وظائف مناسبة، مثل الوظائف التي يتضمّنها قسم الاتصالات: فبعض النساء يعملن في وحدات الهاتف بصفتهنّ عاملات هاتف، وبعضهنّ الآخر يعملن في رسم الخرائط، فيما تعمل نساء أخريات بصفتهنّ مترجمات أو يتولّين إدخال البيانات. هذا التوجّه تُثبِتُه الأرقام الواردة في مجلة الجيش الوطني الشعبي: فوفقاً للمجلة، يستخدم قسم المعلومات والاتصالات 17 في المئة من النساء العسكريات، و51 في المئة من النساء المدنيات اللواتي يجري استيعابهنّ في الجيش. وتضطلع غالبية النساء بأدوار تعليمية، فيعملن مثلاً بصفتهنّ مدرّسات أو باحثات أو عالمات.
يعكس نمطُ مشاركة النساء في الجيش الوطني الشعبي التوجّهات في التقسيم الجندري للقوة العاملة الوطنية، التي تضمّ نسبةً منخفضةً من العاملات. فمن أصل 10.788.000 موظف في الجزائر في العام 2014، بلغ عدد النساء العاملات 1.926.000، أي مانسبته 18 في المئة فقط. لتوضيح ذلك، شكّلت النساء، في العام نفسه، 49.7 في المئة من مجموع السكان في البلاد، وفقاً للبنك الدولي. وعلى الرغم من وصول النساء إلى الوظائف، نتيجة مستوى التعليم الذي بلغ 92 في المئة لدى الفتيان والفتيات، ومعدل الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الشابات، والذي بلغ 80 في المئة في العام 2014، لاتزال النساء مُمثَّلات بشكل زائد في وظائف أقل مستوى، ومُركَّزات في قطاعات قليلة يُنظَر إليها تقليدياً على أنها أنثوية.
على سبيل المثال، ثمة نسبة عالية من النساء في القطاع الصحي: ففي العام 2013، شكّلت النساء أكثر من 50 في المئة من أساتذة الطب المساعدين، وأكثر من 48 في المئة من المسعفين.
تشكّل النساء نسبة أعلى من الجزائريين العاملين في قطاع التعليم، حيث بلغت في العام 2011 74.3 في المئة من العاملين في التعليم قبل الابتدائي، و54.9 في المئة في التعليم الابتدائي، و39.2 في المائة في التعليم العالي. في العام 2014، كانت نسبة 44 في المئة من المسجَّلين في التعليم العالي من النساء. وفي العام نفسه، بلغت نسبة النساء 67.9 في المئة من الموظفين العاملين في الإذاعة الوطنية.
وصول المرأة إلى عملية صنع القرار لايبدو أمراً مهمّاً. إذ تشغل المرأة نسبة 11.4 في المئة فقط من المناصب العليا مثل الوزراء والأمناء العامين والمدراء العامين ومدراء الوزارات والسفراء والمدراء التنفيذيين في مؤسّسات الحكومة المركزية والهيئات العامة والسلطات المحلية. وفي قطاع القضاء، تبلغ نسبة النساء 24 في المئة فقط من العاملين في المحكمة العليا، وهناك امرأة واحدة فقط تشغل منصب المدعي العام تم تعيينها في العام 2014.
وفقاً لمسؤولين عسكريين سابقين تمت مقابلتهم بخصوص هذه الدراسة، فإن غالبية النساء في الجيش الجزائري يشغلن ماتُسمّى بالوظائف النسائية: فهن يعملن ممرضات وطبيبات ومعلمات ومترجمات ورسامات خرائط، وما إلى ذلك. ولاتتوفّر بيانات بشأن عدد النساء اللاتي تشغلن مناصب رفيعة، بيد أن الأمر الذي لايخلو من مغزى هو أنه في اليوم الذي أصبحت فيه فاطمة الزهراء عرجون أول امرأة تتم ترقيتها إلى رتبة عميد، تمت ترقية 51 رجلاً أيضاً إلى رتبة عميد. بطبيعة الحال، يمكن تفسير التفاوت بحقيقة أنه تم قبول دخول المرأة لأول مرة إلى الجيش في الوقت الذي كان فيه الرجال قد دخلوا بالفعل، وبالتالي فإن النساء تصلن إلى الشروط الصارمة للترقية، والتي تتعلق بمدة الخدمة، بعد الرجال. ولكن لو كان هناك عدد أكبر من النساء يشغلن مناصب عليا لتم الإعلان عن ذلك، حيث كان من المرجّح أن يعلن الجيش الوطني الشعبي عن هذه التطورات كما فعل بالنسبة إلى العمداء الإناث.
ثمّة مثال آخر على محدودية إدماج المرأة في الجيش، تتمثّل في حقيقة أنها لايمكن أن تخدم في سلاح المشاة أو المدرعات أو فروع مدفعية الميدان المخصصة للمعارك البرية المباشرة. ويمتد هذا الحظر ليشمل الوحدات القتالية في سلاح الجو كذلك. وتبقى الاختلافات الفزيولوجية أكثر المبرّرات التي يتم ذكرها لهذا الاستبعاد.
وبما أن المرأة مستبعدة من مواقع القتال، لايمكنها قيادة العمليات العسكرية، وبالتالي ليس لديها منه سبيل للوصول إلى رتب نظيرها الرجل، أي فوق مستوى آمر. ولهذا السبب، فإن المرأة غير قادرة على المشاركة في عملية صنع القرار التي تؤثّر على حياة ومهن النساء الأخريات في المؤسّسة.
يتبع ......