كان اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 24 أكتوبر 1972، الذى انعقد فى مكتب الرئيس بالجيزة فى الساعة التاسعة مساءً واستمر ثلاث ساعات وربع الساعة، يعتبر أخطر اجتماع تاريخى، إذا أردنا أن نقيّم الوثائق العسكرية لحرب أكتوبر. لقد حدد الرئيس السادات فى هذا الاجتماع الموقف بحسم، دون أن يسمح بأى تراجع أو تشكيك، الموقف هو الحرب.. تحريك القضية عسكريّاً، وأعلن للقادة فى هذا الاجتماع أنه ليس الرجل الذى يناور لكى يحتفظ بكرسى الرياسة.. وأعلن أنه لن يستسلم وأن الموت فى سبيل الأرض أشرف من هذه الحياة المهينة. وقال لأعضاء المجلس الأعلى إنه يستدعيهم، ليبلغهم هذا القرار المصيرى، لا مناقشة فى قرار الحرب، ولكن يجب الاستعداد بالتخطيط والدراسة، والاعتماد على ما نملك من تسليح.. وعلينا أن نعوض التفوق الإسرائيلى بروح العسكرية المصرية.. بروح المقاتل المصرى.. بشجاعة الإنسان المصرى.
وفى هذا الاجتماع اتضح أن بعض القادة لا يريدون الحرب. وقد كونوا تفكيرهم على أن إسرائيل ستنتصر، وتضرب فى الأعماق، وستكون النتيجة خراباً.. وذلك بسبب موقف الاتحاد السوفيتى من ناحية التسليح. وغضب أنور السادات فى هذا الاجتماع، وأصر على قرار الحرب، وأعلن أنه مؤمن بالعسكرية المصرية. وإذا كانت إسرائيل متفوقة فى الجو، فلن تتفوق أبداً على الأرض، وأنه علينا أن نواجه قدرنا ومصيرنا بشجاعة.. إن الاتحاد السوفيتى لن يحارب من أجلنا ونحن نرفض أن يحارب أحد من أجلنا. هذه معركتنا. إما أن نكون أو لا نكون، هذا قدرنا التاريخى، ويجب أن نواجهه.
كانت جلسة عاصفة.. ولكن غالبية أعضاء المجلس الأعلى أعلنوا أنهم مصرون على المعركة.. ومستعدون للتضحية. وبعد هذه الجلسة صدرت قرارات الرئيس بإعفاء الفريق صادق.. واللواء عبدالقادر حسن مساعد وزير الحربية.. واللواء محمود على فهمى قائد البحرية.. الذى كان قد تدخل فى المناقشة العنيفة لتهدئة الجو.. ولكن كلماته صدرت وكأنها مؤيدة لما قاله اللواء عبدالقادر حسن.
قال السادات لهؤلاء: لو أخذت بمنطقكم.. إن شاء الله نقعد 50 سنة فى هذا الوضع.. لقد سمعت هذا الكلام كثيراً.. والرجولة، والوطنية، تفرضان علينا أن نحرر الأرض ونواجه امتحان التاريخ. وليعذرنى القارئ أننى اضطررت لحذف فقرات قليلة من هذه الجلسة التاريخية، حفاظاً على أسرار عسكرية، عندما ناقش الرئيس القادة فى الاستعدادات العسكرية..
جاء نهار أحد الأيام المهمة والحاسمة فى تاريخ حياتى كلها، بل لعله أهمها على الإطلاق. وبرغم مضى أكثر من عامين فإننى أتذكر ملامحه تفصيلاً. التاريخ: 26 أكتوبر عام 1972 (19 رمضان 1392)، الساعة الثالثة بعد الظهر. المكان: منزل الرئيس محمد أنور السادات بالجيزة. كنا نسير، سيادته وأنا، فى حديقة المنزل، ولم أكن أدرى سبب استدعائى، لكننى توقعت أن يكون لأمر هام وخطير، من عادة السيد الرئيس فى شهر رمضان ألا يقابل مسئولاً إلا بعد الإفطار. وبعد حوار قصير عن الموقف حدث ما توقعته، حيث أبلغنى سيادته بقرار تعيينى وزيراً للحربية اعتباراً من ذلك اليوم. وفى نفس الوقت كلفنى بإعداد القوات المسلحة للقتال بخطة مصرية خالصة، تنفذها القوات المسلحة لتخلص بها الوطن من الاحتلال الصهيونى. كان لقاؤه بى ودوداً إلى أقصى حدّ. وكان حديثه معى صريحاً إلى كل حدّ. وعندما انتهى اللقاء وركبت السيارة لتنطلق بى عبر شوارع القاهرة، بدأ شريط طويل من الذكريات والأحداث والظروف يمر فى ذهنى وأمام عينى. ها أنا أعود مرة أخرى لأرتدى الملابس العسكرية. كانت آخر مرة خدمت فيها يوم 12/ 9/ 1969 عندما استدعانى وزير الحربية وأبلغنى بقرار إعفائى من منصبى كرئيس للأركان، وبرغم مضى أكثر من خمس سنوات فإننى لا أزال أذكر أننى قلت لوزير الحربية لحظتها «كل ما رجوته أن أتمكن من الاشتراك فى القتال عندما يتقرر قيام القوات المسلحة بحرب شاملة ضد إسرائيل، وفى هذه الحالة أرجو أن أعود للخدمة ولو كقائد فصيلة أو جندى...». وانصرفت إلى منزلى، وكان ظنى أنه لن تُتاح لى فرصة العودة إلى صفوف القوات المسلحة مرة أخرى. وبت شهوراً طويلة أمارس حياتى كـ«لواء» متقاعد، أتقاضى معاشى، وفى سنة 1970 رُفع معاشى إلى معاش وزير، وإن كان ذلك يعنى ردَّ اعتبار لى فإنه لم تكن به إشارة إلى احتمال عودتى للعمل الرسمى. ومرت أشهر عديدة، وظروف مختلفة ولم ينقطع تفكيرى خلالها عن القوات المسلحة، لدرجة أننى تخيلت نفسى وكأننى لا أزال فى الخدمة، وتصورت ما كنت سأفعله حينذاك، وكتبت تقريراً عما يمكن أن تقوم به القوات المسلحة فى أى عمليات مقبلة لاقتحام قناة السويس والانطلاق لتحرير الأرض. فكرت فى أن أطلب مقابلة الرئيس جمال عبدالناصر لتسليمه هذا التقرير، وفى اللحظة الأخيرة ترددت ثم رفضت الفكرة نهائيّاً منعاً من تأويلها إلى أبعد من حقيقة هدفى المجرد. وفى فجر 14 مايو 1971 أصدر الرئيس محمد أنور السادات قراراً بتعيينى رئيساً للمخابرات العامة، والحق أعترف أننى سعدت بهذا القرار فقد كان تقديراً لى كجندى وهب حياته لمصر. كانت فرصة لى للإسهام بشكل ما فى خدمة بلدى وفى معركتها المقدسة.. وبدأت أمارس مهمتى الجديدة، والواقع أن تلك المسئولية جعلتنى غير بعيد، بل ربما جعلتنى قريباً جدّا من القوات المسلحة ورفاق السلاح والعمر، لكننى برغم تلك المشاركة والاقتراب المباشر من القوات المسلحة لم أتوقع -كما ذكرت يوماً- أن أعود للخدمة فى صفوفها مرة أخرى، لكن ها هو اليوم قد جاء عندما كلفنى القائد الأعلى بالمهمة..
ومع ضخامة المسئولية وخطورة حجمها فإننى كنت على قدر كبير من التفاؤل والثقة بالنفس، وبشكل مبدئى أجريت بناءً على ما لدىّ من معلومات تقديراً شاملاً للموقف. وليس سرّاً أن القوات المسلحة المصرية كانت تعانى مشاكل عديدة تطلبت منى أن أضع أولويات لها وفق خطة سليمة وبدقة. من هذه المشاكل على سبيل المثال:
1- مضى 5 سنوات والقوات المسلحة رابضة فى خنادقها على جبهة القناة. وبهذا أصبح الأفراد مهددين بما يُطلق عليه عسكريّا مرض الخنادق من طول المدة، وذلك أمر خطير يؤثر على الروح المعنوية وكفاءة القتال.
2- السياسة دخلت إلى القوات المسلحة من الباب الخلفى، لكثرة الأحاديث السياسية من غير المختصين، واهتزت الثقة وتخلخلت فى نفوس بعض القادة وبين صفوف القوات المسلحة بحيث لاح مرض التراخى شبحاً يوسوس بعدم المقدرة على أى عمل قتالى.
3- نتيجة ما سبق -وهو فى الوقت نفسه بالغ الأهمية- أصبحت كفاءة الخطة الدفاعية عن الدولة موضع شك وساءت التجهيزات الهندسية وأُهمل العمل تماماً فى تحسين أوضاع القوات، بحيث صار الحال فى مواقع الجبهة بغير تجاوز دون المستوى المطلوب.
وترتيباً على ما وجدت من مشاكل وبخطة مدروسة ذات أهداف محددة واضحة كنت أتحدث إلى القادة والضباط والجنود بإصرار أن القضية لن تُحل إلا بالحرب، لكن البعض كان يبتسم كأننى أتحدث عن خيال؛ لأنهم كانوا قد وصلوا إلى درجة اقتنعوا معها بأنه لا قدرة على ذلك الحل. وعندما كان يقال إن مصر وسوريا ستتحدان فى عمل مشترك ضد العدو كانت الظروف المتشككة عارضة، ولن تفتّ فى عضد الرجال ولن تؤثر فى معدن الإنسان المصرى الذى حارب وانتصر عبر العصور. أفقت من حديثى لنفسى فى السيارة التى أعادتنى لمنزلى بعد تكليفى من الرئيس بتولى وزارة الحربية، واتصلت من تليفون السيارة بابنى الأكبر محمد، وأخبرته بأن يأتى إلى المنزل، وبالفعل جاء محمد وكنت أجلس فى غرفة نومى، ودخل محمد وكان يقف على باب الغرفة ابنى سيف، وأخبرتهما بأن السادات عيننى وزيراً للحربية ودار بيننا هذا الحوار:
محمد: وافقت؟
قلت: أيوه.
محمد: لو وافقت تكون غلطان، لأنك لو انتصرت فلن تكون صاحب الانتصار، وإذا خسرت فستكون فى وجه المدفع وستتحمل الخسارة كاملة.
قلت: لو كل واحد قال هذا، فلن تحارب مصر، وأنا وافقت من أجل بلدى،
وكان شيئاً غريباً وقتها، حيث بكى ابنى سيف خوفاً علىَّ، واعتبرت أسرتى أنه من الغريب أن يوافق من يشغل منصب مدير المخابرات على تولى قيادة جيش متهالك، ومن المحتمل ألا يكسب الحرب وأن تتكرر هزيمة 1967. وبدأت تنفيذ الخطة فى ظل الإمكانيات الموجودة فى الجيش، وتطورت الفكرة وعرضت على القوات المسلحة، وأصررت على الحصول على تصريح مكتوب من الرئيس السادات، وعندما ذهبت إلى الجيش واجتمعت بكل القادة، قلت لهم: «يا جماعة، نحن الآن نريد أن نحارب، ماذا نفعل لكل واحد من أصغر عسكرى لأكبر ضابط؟»، وطفت على الجبهة وقلت لهم: «السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح».
ثم بدأنا نجتمع على مستوى الكتيبة وعلى مستوى الجيش ومستوى القادة، واستمعت لجميع القيادات. وكانت وجهة نظر القادة المصريين أن يضربوا أكبر ضربة ممكنة، وعندما نتلقى منهم ضربة نكون كبدناهم ضربات مبرحة، ثم ندخل على السلام، وأننا نستطيع أن نعبر ونحرر أرضنا على مراحل. وعملت تدريبات على الجبهة بشكل عملى، فأخذت مكاناً خارج القاهرة، وأخذت الناس لتدريبهم عمليّا على الخطة، وكانت أولى جلساتى مع قادة الجيش فى 28 أكتوبر عام 1972 بعد 48 ساعة من تولى وزارة الحربية، وكانت أول جلسة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة تعقد برئاسة وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، وفيها لقنت الحاضرين الموقف، وأصدرت توجيهاتى، وهى:
1- القضية لن تحل سلميّا ومهمتنا تحرير الأرض بالقتال، والقوات المسلحة هى السبيل لتحرير الأرض.
2- أول مهمة أؤكد عليها لقادة القوات المسلحة هى أن يتأكدوا وفوراً من كفاءة الخطة الدفاعية عن الدولة.
3- وفى الوقت نفسه تجهيز الخطة الهجومية كأن المعركة ستبدأ غداً.
4- يجب أن تشعر إسرائيل أننا قادرون وبشتى الوسائل على استرداد أرضنا وتكبيدها خسائر لا تتحملها.
5- الوقت المتيسر لدينا من اليوم حتى بدء القتال يجب أن يُستغل وبجدية كاملة فى سبيل المعركة، وهذا يتطلب: إتقان كل فرد عمله والمحافظة على سلاحنا والجدية الكاملة فى التدريب، وتكاتف الجميع كفريق واحد يعمل لهدف واحد وهو المعركة.
6- لدينا رجال على مستوى عال من الشرف والكرامة والرجولة، ولدينا أسلحة وروح وطنية، وهذه جميعاً هى مقومات النصر.
7- يجب أن نثق فى الله وفى قادتنا وأنفسنا ونثق فى النصر وسننتصر بإذن الله.
وفى الجلسة المنعقدة فى الشهر الثانى من تولى القيادة، شعرت بموقف جديد بعد زيارتى لسوريا، وهو أن التنسيق بين مصر وسوريا ستكون له نتائج حاسمة، وتوجد 3 مراحل واضحة ومحددة للعمل، وقرار إنهاء عمل المستشارين السوفيت يعنى أننا قادرون على التخطيط وإدارة المعركة، وقلت خلال الجلسة الثانية: «لقد مررت على الجبهة والعجلة تدور بجدية فى كل اتجاه، وأريد أن أؤكد على الآتى:
1- يجب أن يقتنع الجميع اقتناعاً كاملاً بأنه لا يوجد حل سلمى، علاوة على أننا عسكريون لا دخل لنا بالسياسة.
2- لا بد من المعركة لحل القضية وسنقاتل بإذن الله.
3- ما دام أن هناك معركة، ومعركة شرسة، فلا بد من الاستعداد لها تماماً.
4- هذه المعركة المنتظرة ستكون بإمكانياتنا المتيسرة، وبحسابات دقيقة دون تهور، وفى الوقت نفسه دون تخاذل.
5- نتيجة لزيارتى لسوريا شعرت بموقف جديد، تأكدوا أننا لسنا وحدنا فى المعركة. إن التنسيق -وهذه مسئوليتى- بين سوريا ومصر ستكون له نتائج حاسمة وتأكدوا أن ذلك سيتم بمشيئة الله.
6- يجب العمل على 3 مراحل واضحة:
المرحلة الأولى: الاطمئنان التام على الخطة الدفاعية ومراجعتها بواسطة القادة على كافة المستويات، واستكمال تجهيز مسرح العمليات بما يؤمن الخطة الدفاعية ويخدم المعركة الهجومية، وتجهيز خطط الردع والتدريب المتواصل والشاق ليلاً ونهاراً لإعداد القوات لمهامها.
المرحلة الثانية: إعداد الخطة الهجومية واستكمال تجهيز مسرح العمليات للهجوم.
المرحلة الثالثة: استكمال إعداد القوات للهجوم، وانتظار القرار السياسى لبدء العمليات وبكل جدية، وفى هذا المجال أؤكد على الابتكار وعدم النمطية والعناية الكاملة بالأسلحة والمعدات، ويجب أن تتأكدوا أن قرار إنهاء عمل المستشارين السوفيت كان على أساس أن القوات المسلحة المصرية قادرة بقادتها ورجالها على التخطيط وإدارة المعركة المقبلة، ويجب أن نكون أهلاً لهذه الثقة».
وخلال الفترة ما بين تعيينى وزيراً للحربية، وبين حرب أكتوبر، زرت سوريا 5 مرات، بهدف تنسيق جهود القوات المسلحة فى البلدين للقيام بعمل عسكرى مشترك فى إطار الاتفاق السياسى بين كل من الرئيس محمد أنور السادات والرئيس حافظ الأسد، وكانت الزيارة الأولى من 10 إلى 13 فبراير عام 1972، وكانت أهدافها مراجعة الخطة والتخطيط لعمليات الردع، والإعداد لعمليات هجومية مشتركة. واستقبلنى الرئيس حافظ الأسد وتبادلنا وجهات النظر فى الموقف، ثم تبادلت الآراء مع اللواء مصطفى طلاس والقادة العسكريين السوريين، وذلك على ضوء الاقتناع الكامل بعدم جدية الحل السلمى. وخصصت بعض المهام للقوات المسلحة السورية، وهى نفس المهام التى أصدرت بها أوامر للقوات المسلحة المصرية فى أولى جلساتى مع القادة. وقلت لهم: «الحقيقة أننى استرحت كثيراً لما لمسته فى القوات السورية من روح معنوية عالية، وتصميم كامل على القتال وتحرير الأرض، ما جعلنى أوجه الثناء للإخوة السوريين لما يبذلونه من جهد، وما يقومون به من أعمال باسلة تؤكد صلابة وفاعلية الجبهة الشمالية، ودورها الكبير الذى يمكنها أن تؤديه فى المعركة، وأود أن أؤكد على ثقة بأننا -بما فى أيدينا من عتاد وما فى قلوبنا من إيمان بالله وبأنفسنا وبثقتنا فى وطنية وحكمة قائدنا الرئيس أنور السادات، وبتصميمنا على تحرير أرضنا بالقتال- قادرون على أن نفعل الكثير، وسنعمل ونقاتل بالدراسة والحساب والتخطيط، وتراب الأوطان لا يحرره غير الدم، وأدعو الله أن يوفقنا ويؤتينا نصره» .
مرة أخرى كان لا بد من دعم الروح المعنوية لدى قوات الجيش المصرى، وما أؤكد عليه هنا هو أننى لم أغير من هؤلاء الرجال أو أبدلهم تبديلاً، وكل ما فعلته -إذا كان لى فضل- أننى هيأت لهم المناخ الطيب والظروف الجيدة، وهنا تأججت نفوسهم وتوهَّج تحت النيران جوهرهم الأصيل. كانت مهمتى فى سبيل ذلك -وكحلول عاجلة- أن أعيد الثقة للرجال برفع روحهم المعنوية. وإذا كانت الحرب امتداداً للعمل السياسى أو هى كما يقولون سياسة بالنار، فليس معنى ذلك خلطاً بين الاثنين. للسياسة رجالها وللقتال رجاله، ومن ثم فنحن عسكريون لنا واجب وأمامنا مهمة ومهارتنا تتمثل فى كيف نرفع من درجة استعدادنا وكفاءتنا القتالية، لا أن نتحدث بالسياسة، وعبرة التاريخ أمامنا شاهد يقول: إن السياسة عندما تدخل إلى الجيوش تفسدها.
كان الإعداد للحرب يتطلب منى أداء مهمتين؛ الأولى التنسيق مع سوريا فى سرية تامة للدخول فى الحرب بعد أن طلب الرئيس أنور السادات منى بدء الاستعداد للحرب فعليّا. وهو ما استدعى سفرى إلى سوريا يوم 10 نوفمبر عام 1972 وكان معى اللواء محمد عبدالغنى الجمسى رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة واللواء حسن الجريدلى سكرتير عام وزارة الحربية، وسكرتيرى العسكرى حمدى الجندى. وقضينا فى سوريا 3 أيام اجتمعت فيها مع الرئيس حافظ الأسد لمدة 3 ساعات منفردين وطلب حافظ الأسد أن نكون بمفردنا وأمر الجميع أن يتركوا المكتب بمن فيهم وزير الدفاع السورى، وتحدث معى عن الحرب التى نخطط لها. وبعد هذه المقابلة وافق الأسد على دخول سوريا الحرب مع مصر، وظللنا خلال ثلاث ساعات نتناقش فى كيفية التنسيق بين البلدين، وعدم تخلى أى منهما عن الآخر فى الحرب، واتفقت معه على ذلك، وهو ما يفسر تطوير مصر للهجوم على إسرائيل أثناء الحرب يوم 14 أكتوبر عام 1973 لتخفيف الضغط عن الجبهة السورية التى كانت إسرائيل اقتربت من السيطرة عليها.
أما المهمة الثانية فكانت صفقة أسلحة الاتحاد السوفيتى التى تعتبر من أهم المهام التى قمت بها، رغم أنها شديدة الصعوبة بعد ترحيل الخبراء الروس من مصر عام 1972. وقتها كانت العلاقات سيئة بين مصر وروسيا وعندما سافرت إلى روسيا استطعت إبرام اتفاق معهم بشكل شخصى لتوريد صفقة الأسلحة لمصر تقديراً من الروس لقدرتى العلمية والعملية ولارتباطهم بى بشكل شخصى. وتعتبر الصفقة من أكبر الصفقات التى قامت بها مصر مع روسيا بشكل مباشر عبر مدير المخابرات الروسى وقتها «أندروا بوف» وكان صديقاً شخصيّا لى، وكان لـ«بوف» سلطة قوية فى الاتحاد السوفيتى وعن طريقه استطعت إتمام الصفقة.
كان الاستعداد للحرب يجرى على قدم وساق. كنا نسابق الزمن ونعالج كل ما يصادفنا من عوائق.
فى الأول من أكتوبر 1973، أصدر الرئيس السادات توجيه الحرب وأرسله لى وكان نصه:
بسم الله توجيه صادر إلى القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول أحمد إسماعيل على:
أولاً:
عن الوضع العام:
1- لقد مضت حتى الآن أكثر من ست سنوات على احتلال العدو الإسرائيلى لأجزاء من التراب العربى.
2- إن إسرائيل، مؤيدة بدعم أمريكى خصوصاً فى مجال إمدادات السلاح، حاولت وتحاول فرض إرادتها علينا وإنهاء أزمة الشرق الأوسط على نحو يحقق لها سيطرة شبه مطلقة فى المنطقة العربية وفى أمنها وفى مصائرها.
3- إن مصر حاولت بكل الوسائل، ومنذ صدر قرار وقف إطلاق النار من مجلس الأمن فى 8 يونيو 1967 أن تجد حلّا للأزمة.. وفى هذا السبيل فقد تنوعت وسائلها من قبول قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22 نوفمبر 1967 إلى قبول جهود السفير جونار بارتيج، ثم جهود الدول الأربع الكبرى، ثم جهود قامت بها القوتان العظميان، ثم مبادرة تقدم بها وزير الخارجية الأمريكية وليام روجرز، حتى تقدمت مباشرة بمبادرة لحل يكون فيه فتح قناة السويس بداية لمراحل انسحاب شامل تطبيقاً لقرار مجلس الأمن. ولكن كل هذه الجهود لم تصل إلى نتيجة، فهى إما أنها فشلت وإما أنها توقفت.. أو حاول أعداؤنا الخروج بها عن مقاصدها.
4- إن مصر قامت بعمليات عسكرية ذات طابع محدود فى سنوات 1967 و1969 و1970، كذلك قدمت دعماً كبيراً لقرار المقاومة الفلسطينية لمباشرة عمليات فدائية على الخطوط أو داخل الأرض المحتلة.. ولكن هذه العمليات كلها وإن أدت إلى نتائج لها أثرها فإنها لأسباب متعددة لم تصل فى ضغطها على العدو إلى الحد اللازم.
5- إن مصر كانت تدرك طوال الوقت أنه سوف يجىء وقت يتعين عليها فيه أن تتحمل مسئولياتها.. وكان أهم ما يجب أن نعنى به هو أن نوفر لهذا اليوم كل ما نستطيع.. وفى حدود طاقتنا.. ومع التزامنا بواجب الدفاع عن التراب والشرف.
6- إن الشعب فى مصر يعمل بأكثر مما كان يتصور أحد؛ خصومه وأصدقاؤه على السواء.. ولقد كانت الأعباء التى تحمَّلها الشعب، مادية ومعنوية، أعباء فادحة لا يتحملها إلا شعب يؤمن بالحرية ويمضى فى سبيلها.
7- إن تحسينات مهمة طرأت على الموقف السياسى العربى عموماً وزادت من احتمالات تأثيره.. ومع تزايد أهمية أزمة الطاقة وأزمة النقد فى العالم فإن الضغط العربى فى أحوال ملائمة يستطيع أن يكـون عاملاً له قيمته.
8- إن تأثيرات الموقف العربى العام تجلت بشـكل واضح فى أوضاع تسليحنا.. فإلى جانب ما حصلنا عليه من الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية، وهو كثير، فقد أتيحت لنا من مصادر أخرى أنواع من السلاح لم تكن متوافرة لنا.
9- إن العدو فى شبه عزلة عالمية، بعد الجهود المصرية الناجحة فى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية الأخير فى أديس أبابا، ومؤتمر الدول غير المنحازة الذى لحقه فى الجزائر.
10- إن الموقف الدولى يتغير.. وما زالت حركته مستمرة.. وقد نجد أنفسنا أمام توازنات طويلة الأجل تؤثر على حرية حركتنا وعلى حقنا فى اختيار أنسب البدائل.
ثانياً:
عن استراتيجية العدو:
إن العدو الإسرائيلى، كما نرى، انتهج لنفسه سياسة تقوم على التخويف، والادعاء بتفوق لا يستطيع العرب تحديه.. وهذا هو أساس نظرية الأمن الإسرائيلى التى تقوم على الردع النفسى والسياسى والعسكرى. إن نقطة الأساس فى نظرية الأمن الإسرائيلى هى الوصول إلى إقناع مصر والأمة العربية أنه لا فائدة من تحدى إسرائيل، وبالتالى فليس هناك مفر من الرضوخ لشروطها حتى وإن تضمنت هذه الشروط تنازلات عن السيادة الوطنية.
ثالثاً:
عن استراتيجية مصر فى هذه المرحلة: إ
ن الهدف الاستراتيجى الذى أتحمل المسئولية السياسية فى إعطائه للقوات المسلحة المصرية.. وعلى أساس كل ما سمعت وعرفت من أوضاع الاستعداد يتلخص فيما يلى: تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى وذلك عن طريق عمل عسكرى حسب إمكانيات القوات المسلحة، يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا يفرض عليه ثمناً لا يستطيع دفعه.. وبالتالى فإن نظريته فى الأمن -على أساس التخويف النفسى والسياسى والعسكرى- ليس درعاً من الفولاذ يحميه الآن أو فى المستقبل. وإذا استطعنا بنجاح أن نتحدى نظرية الأمن الإسرائيلى فإن ذلك سوف يؤدى إلى نتائج محققة فى المدى القريب وفى المدى البعيد. فى المدى القريب: فإن تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى يمكن أن يصل بنا إلى نتائج محققة تجعل فى الإمكان أن نصل إلى حل مشرف لأزمة الشرق الأوسط. وفى المدى البعيد: فإن تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى يمكن أن يحدث متغيرات تؤدى بالتراكم إلى تغيير أساسى فى فكر العدو ونفسيته ونزعاته العدوانية.
رابعاً:
عن التوقيت:
إن الوقت من الآن، ومن وجهة نظر سياسية، ملائم كل الملاءمة لمثل هذا العمل الذى أشرت إليه فى ثالثاً من هذا التوجيه. إن أوضاع الجبهة الداخلية وأوضاع الجبهة العربية العامة بما فى ذلك التنسيق الدقيق مع الجبهة الشمالية، وأوضاع المسرح الدولى تعطينا من الآن فرصة مناسبة للبدء. ومع العزلة الدولية للعدو.. ومع الجو الذى يسود عنده بنزاعات الانتخابات العربية وصراعات الشخصيات.. فإن احتمالات الفرصة المناسبة تصبح أحسن أمامنا.
وبدأ العد التنازلى للحرب، كانت الأيام تقترب من ساعة الصفر واضطررت للسفر لسوريا يوم الثلاثاء السابق ليوم السبت الذى حدد لبدء العمليات العسكرية. وعدت فى اليوم نفسه، وكان الهدف من الزيارة تحديد ساعة الصفر والاتفاق عليها. وعدت لمصر، وفى اليوم التالى ذهبت ومعى «سيف» ابنى الأصغر إلى أحد أقاربنا للإفطار معهم فى شهر رمضان، وأثناء ذهابنا فى الطريق إليهم أخبرت «سيف» أنى أريد زيارة قبر والدى، وهناك دار حوار وقلت له: «احتمال أكون هنا بعد أيام قليلة، وأُدفن بجوار جدك».
لم يرد «سيف»، والتزم الصمت والدخول فى حالة خوف على والده،
فقلت له: «أريد أن أقول لك شيئاً.. إننى مخلص للبلد وأبذل قصارى جهدى لخدمته».
كان «سيف» يشعر أن شيئا مهمّا أو حربا ستقع خلال الأيام المقبلة، خصوصا بسبب زياراتى المتقطعة إلى المنزل فى شهر رمضان، حيث كان المعتاد أن أوجد على الإفطار مع الأسرة، وكان لا يوجد أحد فى المنزل سواى و«سيف»، وكنت أرتدى ملابس الميدان وأستقل سيارة جيب وليس السيارة العادية. كل هذا كان يؤكد لسيف أن مصر ستدخل حالة حرب.
حدث يوم 5 أكتوبر أن جاءنى «سيف» وأبلغنى أن حركة الطيران من وإلى مصر، ومن وإلى جميع أنحاء العالم توقفت، وقال إنه علم بذلك عندما ذهب إلى مطار القاهرة لاستقبال والدته العائدة من لندن وشقيقه الأكبر محمد أيضا العائد على طائرة ليبيا الساعة 8 مساء فى اليوم نفسه، وانتظر شقيقه «محمد» فلم يأت، ووجد حالة من الهرج والمرج فى المطار ووجد عددا كبيرا من الناس، وشعر «سيف» بشىء غير مطمئن فتوجه إلى الشرطة العسكرية وسأل ضابط «مصر للطيران» الذى أخبره أن جميع الرحلات من وإلى مصر متوقفة. عاد «سيف» على الفور إلى المنزل واتصل بالسكرتارية وأبلغنى بوقف حركة الطيران فاتصلت باللواء أحمد نوح، وكان وقتها وزيراً للطيران، وطلبت عودة الطيران المدنى إلى حركته الطبيعية، ورغم هدوئى المعتاد فإننى غضبت فور علمى بإيقاف حركة الطيران فى ذلك اليوم، والتى عادت إلى طبيعتها مرة ثانية بعد ساعة. أذكر أننى استدعيت «سيف» لغرفتى مساء يوم 5 أكتوبر عام 1973 وقلت له: «وضعت خطاباً فى درج الشيفونيرة وغير مصرح لك بقراءته إلا إذا حدث شىء لى، ولا بد أن تعلم أن والدك كان مخلصاً للبلد وفعل كل ما فى استطاعته لخدمة الوطن»،
ورد «سيف»: «حاضر»،
وقلت: «أريد أن أستيقظ الساعة 9 صباحاً»،
فرد: «حاضر أنا سأظل أذاكر حتى الصباح».
وبالفعل لم ينم «سيف» لأنه من المفترض أن يذاكر لكنه لم يستطع التركيز، وعند صلاة الفجر وجدنى مستيقظاً أصلى الفجر، سعيداً. كانت زوجتى قد سافرت للندن قبل الحرب بأسابيع للعلاج من ورم فى يدها، وعَمَل فحص شامل عند طبيبها المختص هناك، كنت أرفض فكرة السفر تحسباً لاندلاع الحرب دون أن أبدى أسباباً للرفض. لكن أمام إصرارها على السفر للعلاج وافقت شريطة أن تعود بأسرع وقت وبمجرد إجراء العملية الجراحية. فسافرت ومعها ابنتانا نيرمين ودينا، وأجرت العملية، وفى اليوم التالى من إجراء العملية وجدت مدير مكتبى لديها فى المستشفى، يبلغها أنى مسافر مأمورية ويطلب منها العودة لمصر، فقالت له إنها لن تتمكن من الخروج من المستشفى قبل يومين أو ثلاثة، فقال لها إننى أريد عودتها إلى مصر فوراً، ولم تعرف أى شىء عن الحرب، وكان الرئيس أنور السادات هو الذى أرسل إليها مدير مكتبى، حيث كنت فى مركز 10 استعداداً للحرب، وطلب منها مدير مكتبى أن تجهز أغراضها ليمر عليها فى اليوم التالى لاصطحابها والعودة بها إلى مصر، وذهبت نيرمين إلى الفندق فى لندن لتحضير أغراضهن وظلت دينا مع والدتها فى المستشفى وحضر مدير المكتب ومعه الملحق العسكرى فى لندن وتركت زوجتى المستشفى دون أن تخبر الطبيب المعالج لها. وتوجهت للمطار مع ابنتينا ومدير مكتبى والملحق العسكرى، وأثناء وجودهم فى المطار أخبروهم أنه لا يوجد سفر ولا طائرات، فاضطرت إدارة المطار أن تحجز للمسافرين فى فندق المطار، واصطحب مدير مكتبى زوجتى وابنتىّ للفندق مرة أخرى لأنه كان أكثر أمناً، لحين إصلاح الطائرة التى حدث بها عطل. وفى صباح اليوم الثانى وجدتْ حرساً على باب غرفتها وعندما سألتهم ماذا يفعلون أخبرها الملحق العسكرى أن مصر دخلت الحرب مع إسرائيل، وكسبنا الحرب، واخترقوا خط بارليف، وكانت مفاجأة لها، فسارعت لارتداء ملابس الإحرام التى اعتادت دوماً على أخذها معها فى كل سفرياتها. وصلّت لله صلاة شكر وظلت تدعو للقوات المسلحة، وجاء إليها السفير كمال الدين رفعت، وقال لها إن لديه أوامر بالتحفظ عليها هى والبنتين فى الفندق تحت الحراسة حتى يأتيه أمر بالسماح لهنَّ بالسفر لأنهم خائفون إذا علمت إسرائيل بوجودهن فى لندن أن تتعرض حياتهن للخطر. وهو ما حدث حتى نجحت فى العودة لمصر مع البنات عن طريق السفر إلى ليبيا ومنها لمصر عبر الحدود الليبية.