ماذا يحدث لجنرالات الجزائر؟
كأن رهبة وحرمة رتبة جنرال في الجزائر زالت أو تراجعت بعد ان صنعت الحدث والخبر طيلة نحو عقدين.
كأن زمن السطوة العسكرية والأبواب المفتوحة لمجرد إظهار هوية عسكرية ولو على استحياء ودون حتى الكشف عما فيها من معلومات عن صاحبها، قد ولّى.
الجزائر ألقت بجنرالين في السجن ومنعت ثالثا من السفر في إشارة على تحولات هامة تمس نظام الحكم وأسسه التقليدية.
الجنرال عبد القادر آيت واعراب، المدعو حسن، الذي قاد الحرب على الإرهاب في الجزائر في ذروة انتشاره، ولأكثر من عقد ونصف، موجود حاليا في السجن. الضابط الذي قاد عملية تحرير مجمع الغاز بتنغتورين في أقصى الصحراء الجزائرية في كانون الثاني (يناير) 2013، يواجه اتهامات خطيرة قد تكون عقوبتها الإعدام، وبالكاد يجد من يدافع عنه أمام المحاكم العسكرية: تشكيل جمعية أشرار، حيازة أسلحة من دون ترخيص، إخفاء معلومات عسكرية، تهديد الأمن القومي.. وغيرها.
كيف تحوّل البطل الذي قلده قادته النياشين والأوسمة، وقيل للناس في الإعلام أنه أدار عملية تنغتورين باقتدار وثقة يشبهان ما في الخيال، إلى «مجرم» تطاله معاملة المجرمين؟ لا أحد يعلم، تلكم أسرار وألغاز نظام الحكم الجزائري الذي من تخصصاته التهام ابنائه.
العميد المتقاعد حسين بن حديد هو الآخر في السجن. بعض رفاق الأخير اختاروا التجارة والأعمال بعد تقاعدهم، وهو اختار المشاكسة السياسية عبر وسائل الإعلام، فدفع الثمن. لم يشفع له كونه القائد الذي سهر على حماية الصحراء الجزائرية الشاسعة من جهة المغرب لسنوات طويلة، وكونه القائد السابق لـ»الفرقة المدرعة الثامنة» الشهيرة في المنطقة ذاتها، ولم تشفع له صولاته وجولاته في حرب رهيبة مع الجماعات المتشددة في التسعينات.. ها هو سجين ينتظر كيس الدواء من زوجته وأولاده مثلما ينتظر التفاتة من أيٍّ كان عساها تنتصر لعمره وماضيه القريب.
هذا أمره أسهل لأن ما يُنسب له من اتهامات أقل وطأة وخطورة، فهو متهم بالقذف في حق قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح والمس بالروح المعنوية للجيش. والسبب خلافاته السياسية مع قايد صالح وشقيق الرئيس بوتفليقة (يوصف بأنه الرئيس الفعلي للبلاد من وراء ستار)، و»تطاوله» عليهما. أيًّا يكن السبب: هو جنرال، ومتهم، وفي السجن.
اللواء جمال مجدوب القائد السابق للحرس الرئاسي ممنوع من السفر. ليس هذا فحسب، بل بحسب صحيفة الخبر (الأحد 18 تشرين الاول/اكتوبر)، صدمه وجود اسمه في قوائم المنع حتى أدخله في حالة هيستيريا أسفرت عن إصابته بوعكة في عين المكان استدعت نقله إلى المستشفى. حدث هذا يوم السبت بمطار الجزائر العاصمة.
مجدوب هو قائد الحرس الرئاسي ـ التابع للمخابرات ـ إلى غاية 15 تموز (يوليو) الماضي، تاريخ تنحيته أولاً، ثم إحالته على القضاء العسكري (ثانيا) ليستمع له (ليس معروفا هل كشاهد أم متهم) في قضية غامضة تتعلق بإطلاق نار في تخوم القصر الرئاسي بالساحل الغربي للعاصمة.
لم يحدث أن عاملت الجزائر أصحاب الرتب الأعلى في جيشها بمثل هذه المعاملة منذ أُقيل مصطفى بلوصيف في 1986، وهو أول ضابط في الجيش الجزائري يتقلد رتبة جنرال، ثم يزجُّ به في السجن في ربيع 1992.
في تسعينيات القرن الماضي، وفي ذروة التمدد الإسلامي والمواجهة العقائدية والمسلحة مع الإسلاميين المتشددين، عاش الجيش الجزائري، مثل بقية مؤسسات المجتمع والدولة المـُشكـَّلة من كل التيارات والتوجهات، نوعا من الغربلة طالت المشتبه في انتمائهم للتيار الإسلامي وغير الموثوق في ائتمانهم على مواقع وعتاد ومسؤوليات أمنية وعسكرية.
ورغم خطورة وحجم تلك الوقائع التي غرق فيها بلد بأسره، بقي ما دار داخل المؤسسة العسكرية حبيس جدرانها وأدراجها. الأكيد أن المحاكم العسكرية والجهات الإدارية صاحبة القرارات اشتغلت في تلك الظروف بأقصى ذروتها، لكن المؤسسة الكتومة أفلحت في منع خروج أسرارها إلى العالم الخارجي. اختلف الأمر اليوم واختلفت المعطيات والمصالح، وكذلك الأعداء. الصراع والتموقع اليوم داخل مؤسسات الحكم لم يعد عقائديا، والخصم لم يعد التيار الإسلامي.
في الحالات الثلاث للجنرالات المذكورين أعلاه، تبدو قضية حسين بن حديد الأقل غموضا وتعقيداً. هي تبدو مثل «قرصة أُذن» ليهدأ قليلا، بينما تشجع حالتا آيت واعراب ومجدوب على الاتجاه نحو القول إنهما حدثتا ضمن مسلسل التمهيد لإقصاء المدير السابق للمخابرات اللواء محمد مدين (توفيق) الشهر الماضي بعد ربع قرن في المنصب. ذلك المسلسل الذي يبدو انه بدأ منذ سنوات وأخذ من الوقت ما كان يجب ان يأخذ.
لا توجد معلومات كثيرة تساعد على التحليل، سوى الاعتقاد ان الرجلين كانا ضمن الدائرة المقربة من مدين، وأن التخلص منهما كان ضرورة، وثمنا، لينتهي به المطاف وحيداً مجرداً من رجاله وأدواته فيسهل عزله.
وشُحُ المعلومات يقود إلى الاعتقاد أن مسيرة الرئيس بوتفليقة نحو تجريد المخابرات من نفوذها التقليدي على الحياة المدنية والسياسية واستعادة سطوة الرئاسة ويدها العليا، ماضية إلى نهايتها، ولو تطلب الأمر تعزيز سطوة دائرة عسكرية أخرى هي قيادة الأركان التي استلمت صلاحيات هامة من المخابرات.
وبينما اتفقت المؤسسة العسكرية في الماضي على حفظ اسرارها والتكتم عليها، تبدو اليوم وكأنها فقدت ايضا القدرة على ذلك، وكأن هناك من يتعمد خروج هذه الأسرار ليكون لمسلسل بوتفليقة معنى ورسالة، وإلا قلَّ تأثيره وتأخرت رسالته في الوصول.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
القدس العربي