دكتور محيي الدين عميمور
أجد نفسي مضطرا لكي أكرر من جديد، وللمرة الأخيرة على ما أرجو، أنني، وبكل تواضع وبعيدا عن الجدل والملاسنات، كتبت واكتب عما اعرفه، والباب مفتوح لمن يريد ان يصوب او يصحح او يكذب، ولو كتب كل منا عما يعرفه لاتضحت امور كثيرة .
أما فيما يتعلق بالجزائر وأحداثها الدموية المؤلمة، والتي واجهناها وحدنا و معها الكثير من تشفي الأشقاء بل وارتياح بعضهم، فأقول أنه مخطئ من يتصور أنه يُحرجني بإثارة التساؤلات حول ما حدث عندنا وبدور بعض الأشقاء فيه،وأقول أيضا بأن كتاباتي، مقالات وكتبا، حول ما حدث في بلادي تجاوزت مئات الصفحات، قلت فيها رأيي بكل صراحة ووضوح، وجرّ عليّ ذلك أحيانا غضب سلطاتٍ كانت تفضل ألا أكثر من وضع النقاط على الحروف وتحتها.
وليس ذنبي ان هناك من لم يطلع، لسبب أو لآخر على ما كتبته، أو من يقرا بنوع من الانتقائية وكأنه ينتظر مني أن أكون شهر زاد، وهو ما تفضل بعض القراء الأفاضل بوضعه عند حده، خصوصا وهو يحاول الإيحاء بأن ما يكتب ما هو الا هروب من حديث يتصور أننا نخجل من تناوله، لمجرد أنه لم يطلع على ما كتب.
وأعود إلى استكمال الدراسة التي وجدت نفسي ملتزما بها، خصوصا امام شباب لم تتح له فرصة متابعة كل الأحداث،وأكرر أيضا أنني لا أجبر أحدا على قراءة ما أكتبه، وبأن التاريخ بحرٌ أحاول أن أقطعه بزورقي الصغير.
خرج كيسنجر من اجتماعه الأول مع السادات، وكما يقول محمود رياض، مقتنعا بأن تجربته تثبت أنها أفضل وسيلة لتغيير المواقف العربية تجاه إسرائيل، فقد بدأ بمداعبة غرور الرئيس بالقول أن التقدم نحو السلام يحتاج إلى “زعيم عربي” وإلى “رغبة أمريكية”، ثم هاجم سياسة عبد الناصر مدّعيا بأنه حاول الحصول على تنازلات عن طريق تعبئة العالم ضد أمريكا بدعم سوفيتي.
وكان أسوأ ما في المشروع الذي وافق عليه السادات بدون استشارة مساعديه أنه يُجمّد الخطوط العسكرية عند الحدود الجديدة التي وصلت لها القوات الإسرائيلية بعد خرقها لوقف إطلاق النار، ويدعم حصارها للجيش الثالث، ويُعطيها كل ما تريده من فك التعبئة العامة واستعادة أسراها ورفع إجراءات الحصار عند باب المندب، فقد سيطر الوزير الأمريكي على توجيه الحوار في غياب مستشاري الرئيس المصري، ونجده يكتب في مذكراته بأنه كان يريد أن يقول للسادات بأن المفتاح الحقيقي إلى السلام هو تسليمه باستمرار حصار الجيش الثالث، ويقول رياض أن السادات اختار بكل بساطة أن يضع مصر في أسوأ موقف عسكري وسياسي، إلى أن يتم الاتفاق على فك الاشتباك، وهو اتفاق يتم تحت ضغط الحصار.
وكانت موافقة الرئيس على الاتفاق الذي صاغته إسرائيل تمكن كيسنجر من أن يقول، كما فسّرها هو نفسه، للدول العربية وللمجموعة الأوربية وللاتحاد السوفيتي : ابتعدوا جميعا عن المسرح (..) هذا القول يمكن أن يوجه إلى العناصر الأمريكية المطالبة بممارسة ضغوط على إسرائيل (..) بمن فيهم الرئيس نيكسون نفسه، الذي كان يعدّ نفسه للضغط على إسرائيل بسبب أزمة الطاقة ( رياض – ص 446)
ويسجل كيسنجر بعد ذلك النصر الذي حققه على بطل الحرب المزعوم بقوله في كتابه : إن الاتفاق ألزم مصر بالإفراج عن أسرى الحرب الإسرائيليين وإنهاء الحصار عند باب المندب وإعفاء إسرائيل من كل الضغوط الدولية عليها لكي تنسحب إلى خطوط 22 أكتوبر، مع احتفاظها لنفسها، عمليا، بالسيطرة على طريق السويس القاهرة، مقابل السماح بعدد صغير من نقاط التفتيش التي ترفع علم الأمم المتحدة، وقد سمح السادات بأن تقوم إسرائيل بتفتيش الإمدادات الغذائية التي تصل إلى الجيش الثالث في الوقت الذي تعرف فيه أن الموقف الدولي لا يسمح لها بضرب هذا الجيش، والذي حدث هو أنه، بمجرد موافقة السادات على استمرار إسرائيل في مواقعها الحالية، أرسل كيسنجر “تعهدا أمريكيا” لإسرائيل بأن واشنطون سوف تستخدم حق الفيتو ضد أي قرار يطالبها بالانسحاب إلى خطوط 22 أكتوبر.
ويعلق محمود رياض قائلا بأن : هذه الواقعة تشير إلى المدى الذي وصل إليه السادات من الانفراد بالرأي وعدم التشاور مع مستشاريه وذلك لسببين، أولهما الظهور بمظهر الشخص الذي لا يُشاركه أحد في اتخاذ القرار، بما يُضفي عليه نوعا من العظمة، والثاني وضع مستشاريه أمام الأمر الواقع بقبوله تنازلات بدون مقابل بالرغم من معارضتهم لذلك (..) وسوف يظل يوم 7 نوفمبر (تاريخ لقاء كيسنجر مع السادات في القاهرة) علامة سوداء في السياسة المصرية، فقد كان بداية التنازلات الرسمية لصالح إسرائيل.
وهكذا يبدو واضحا أن ادعاءات السادات بعجزه عن مواجهة أمريكا كانت تعبيرا عن عجزه القيادي وفشله في إدارة المعركة العسكرية وفي اتخاذ القرار السياسي المُناسب في الوقت المناسب، مضافا إلى ذلك ضعفه الشخصي أمام كيسنجر، بعد أن سجن نفسه داخل إطار عبارته الشهيرة بأن 99 في المائة من حلول القضية هي في يد واشنطون، وتعاليه عن الاستفادة من خبرة العسكريين والديبلوماسيين المصريين الذين قلّ أن يتوفر وجودهم حول أي زعيم في العالم في وقت واحد.
وكان نصير الرئيس المصري في كل هذا هو الإعلام، الذي استثمرت كل إمكانياته في تلميع صورة الزعيم الواحد الأحَد، وسواء تعلق الأمر بالإعلام الدولي الخاضع للنفوذ الصهيوني أو الإعلام العربي الذي تسيره مصالح المخابرات المكلفة بمهمة صناعة الفرعون الجديد، الذي سيتحمل أمام التاريخ مسؤولية تثبيت الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية.
ويلتقط السادات الفرصة لكي يستعرض عظمته، ولا يُشير بكلمة واحدة إلى أبطال الجيش المصري الذين أعدوا خطة العبور، محمد فوزي وسعد الدين الشاذلي وعبد المنعم رياض وعشرات آخرون، بل ولا يذكر، حتى من باب الطرفة، ضابط الهندسة الحربية المصرية، الذي ألهمته رؤية ابنه على شاطئ البحر وهو يتبول على كوم من الرمال فكرة استعمال آلات ضخ مائي صغيرة لفتح ثغرات في خط “بارلييف” الرملي، الذي لا يمكن نسفه بالمتفجرات.
وربما كان هذا ما أوحى فيما بعد بالأسطورة التي رددها الإعلام المصري من أن السادات ضحك على بيغين، بينما تؤكد التطورات أن الرئيس المصري هو الذي خُدع بكل المقاييس، حيث مارس عليه الإرهابيُّ الصهيوني القديمُ كل ألاعيب الماكيافيلية السياسية، لكن ذلك تم التعتيم عليه من قبل إعلام مُرتزق ومُوجّه، كان همّه أن يُسوّق السادات لدى شعبه، ليمكن تحقيق الالتفاف الجماهيري حوله والتحمس له بما يقترب من التعصب أو يتجاوزه غالبا، مما يحقق هدفا رئيسيا آخر هو تشويه المرحلة الناصرية، التي لا نملك، مهما كانت عثراتها، إلا أن نعترف بأنها كانت سدّا في وجه الإمبريالية العالمية والتعصب الصهيوني، وطريقا نحو سيطرة مصر على مقدراتها، لكن تلك كانت عقدة السادات الرئيسية تجاه رئيسه السابق، أو “المعلّم” كما كان يخاطبه، وتكون النتيجة النهائية إعادة هيكلة المجتمع المصري بما يلغي إلى حد بعيد كل إنجازات ثورة يوليو، بهدف تحويل مصر من دولة منتجة إلى دولة خدمات.
وسنجد صورة من بعض الخلفيات الساداتية في رواية كيسنجر التي يوردها هيكل (ص – 678) قائلا على لسان الرئيس المصري : “إن الجيش الثالث (المحاصر من قبل إسرائيل نتيجة لأخطاء قيادته) ليس هو لب المشكل، فأنا أريد أن أفرغ من مشكلة لأتحول إلى مهام أكبر، فإنا مصمم على إنهاء تركة عبد الناصر” (end Nasser’slegacyTo).
وراجت في مصر آنذاك نكتة تقول على لسان الرئيس الجديد أنه سيسير على خط عبد الناصر.. وتضيف: ببمحاة، وهي لم تكن نكتة، بل جسدت تعبيرا لاذعا عن ذكاء شعب استعمل النكتة دائما للتعبير عن موقف سياسي، فهِمَ الأمر قبل أن يسمعه كيسينجر، الذي راح يقول بأن الرئيس : “يشكو لي من إخوانه العرب الذي لا يفهمون رؤيته الاستراتيجية الواسعة” !!!، ويقول (السادات) بأنه: ليس مُستعدا لقبول ابتزازهم”.
والواقع يقول أن السادات هو الذي ابتز العرب، وكنت أشرت لبعض تصريحاته عن الأموال التي كان يخطط للحصول عليها، وما قاله فيما بعد في حديث للبرلمان المصري على الهواء مباشرة، وجاء فيه أن عشرات المليارات سوف تصب على مصر من العالم العربي.
ويواصل كيسنجر بأن السادات وعده برفع الحصار عن باب المندب تدريجيا (وهو مدخل البحر الأحمر الجنوبي المواجه لليمن) وتعهد بالعمل على إخراج البترول العربي بالكامل من الأزمة (وللتاريخ، فإن الملك فيصل أصر على أن يكون طلب السادات رفع الحظر البترولي مكتوبا وموقعا من الرئيس، ويبدو أنه كان يعرف السادات أكثر مما كنا نعرفه).
وكان مما رواه كيسنجر أن السادات عبّر له عن اتجاهه لإجراء تغييرات أساسية في السياسة المصرية، محورها علاقة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة، تكفل تنسيقا مصريا أمريكيا كاملا في الشرق الأوسط وإفريقيا (..) وهو يريد من الولايات المتحدة تعهدات بحماية نظامه وحماية شخصه في فترة يتوقعها حافلة بالمشاكل (ص 680) وبالفعل، يرسل له الوزير الأمريكي فيما بعد رسالة يشير فيها إلى قضية الأمن الشخصي للرئيس، ويعرض أن يرسل إلى القاهرة الخبراء الآتية أسماؤهم ( هيكل -عواصف الحرب والسلام – ص 236):
– جورج ك.كيثان : خبير في أصول الحماية الشخصية.
– بول لويس :خبير في شؤون مقاومة التنصت.
– هيو وارد : متخصص في تدريب المسؤولين.
– ألان د. وولف : متخصص في شؤون المخابرات (على رأس فريق)
وهذا بالإضافة إلى خبير في الأمن والمتفجرات سوف يلحق بالفريق.
وأستبق الحديث لأتساءل: كيف قتل السادات إذن وهو يحظى بحماية هائلة تتكفل بها واشنطن، اللهم إلا إذا كان ذلك تصفية لرجل انتهى دوره، ولا بد أن يتم التخلص منه ليواصل المسيرة من هو متخفف من أعباء سلفه، وبريء من المآخذ المسجلة عليه؟.
ويروي كيسنجر أن السادات قال له: ” إذا جاءتكم فكرة أو مبادرة فأعطوها لي وأنا أقوم بطرحها باعتبارها اقتراحا أو مبادرة مصرية (..) فشعوب المنطقة ترسّب لديها شكّ كبير في أي شيء تتقدمون به، وعندما تعلنون عن قبولكم اقتراحي، الذي هو اقتراحكم، فإن هذا يُعطي المصريين نوعا من الرضا لأن رأينا هو الذي ساد، وهذا كفيل بتهدئة المشاعر وتجاوز الشكوك”.
ولا أستطيع، أدباً، أن أعلق.
ويستنتج الوزير الأمريكي من زيارته إلى القاهرة أن : “مصر في طريقها إلى سلام مع إسرائيل، وأن إمكانية الحرب في المنطقة قد انتهت (ومن هنا نعرف من يقف وراء الشعار الذي أخذ السادات يتغنى به وهو أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، والذي يُفقد الجانب العربي أهم أسلحة المناورة، أي إمكانية استئناف العمليات العسكرية) والرئيس السادات قام باختيار استراتيجي رئيسي، وعلق مصيره الآن بالولايات المتحدة (..) وهذا سوف تتبعه بالضرورة خيارات داخلية في مصر (..) وبداية التحرك نحو السلام سوف تجعل استعمال سلاح البترول إجراء لا معنى له (..) وإذا انتهى سلاح البترول الآن فإنه سوف يختفي إلى الأبد (..) وإسرائيل حصلت على أهم ما كانت تريده (وبدون العودة إلى خطوط 22 أكتوبر ) وهو استعادة أسراها من مصر بدون انتظار لفك الاشتباك أو لمؤتمر السلام”.
وكان واضحا قبل ذلك أن الجزائر غير راضية عمّا يحدث، وأتذكر أنني استقبلت مراسلي المصري الدكتور أشرف مروان، الذي وصل إلى الجزائر مبعوثا خاصا من الرئيس السادات على متن الطائرة المصرية الخاصة من نوع بوينغ 707، التي ألف المجيء بها وكان فيها دائما وحده، ولا أنفي أنني شعرت أحيانا ببعض الغيرة، ثم رافقته إلى مكتب الرئيس بومدين، الذي كان رد فعله وهو يستقبل المبعوث المصري:
* – الدهشة من عودة العلاقات مع أمريكا بهذه السرعة، ويرى الرئيس بو مدين أن في هذا إحراج للجزائر (التي قطعت علاقاتها مع واشنطن في 1967 بعد أن أبلغتها مصر بأن الولايات المتحدة مشاركة في العدوان، وصمم الرئيس بو مدين آنذاك على أن يتم قطع العلاقات الجزائرية مع واشنطون في نفس اليوم والساعة بل والدقيقة التي تقطع فيها مع مصر، تأكيدا للتضامن مع الرئيس جمال عبد الناصر) وأن تتخذ مصر مبادرة إعادة العلاقات بدون التشاور مع الجزائر أمر يبحث على التساؤل بل والاستياء.
* – تساؤلٌ عن الضمانات الأمريكية التي قدمت لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
* – يُخشى أن يكون الاتفاق الذي تم فخ أمريكي / إسرائيلي. (..)
* – التركيز على أهمية حضور الفلسطينيين منذ أول جلسة لمؤتمر السلام (وكانت إسرائيل ترفض مجرد الإشارة للفلسطينيين في مؤتمر جنيف المرتقب، وكان كيسنجر يقول أنه لا مكان للفلسطينيين في المؤتمر القادم)
* – ضرورة أن يتم التنسيق مع سوريا في كل المجالات العسكرية والسياسية. (..)
ويسارع الرئيس الجزائري فيقوم بزيارة سريعة لكل من مصر وسوريا للاطمئنان على سير الأمور عشية مؤتمر القمة الذي حدد له يوم 26 نوفمبر، وأتذكر أن الرئيس السادات استقبلنا في المطار بملابسه العسكرية، ويقول له الرئيس بو مدين وهو يمسكه من ياقة “الأوفرول” ويضحك ضحكة أحسستُ بأن لها معان أخرى : “أنت أوقفت النار فلماذا تواصل لبس البزة العسكرية؟”.
والموقف مسجل في صورة أحسن المصور الجزائري التقاطها.
ويلتقي كيسنجر بغولدامائير في بداية ديسمبر 1973 ويقول لها بأن ميزة ما تم التوصل إليه أنه : “يعطيكم وقتا ويعفيكم الآن من الحديث عن خطوط الحدود النهائية (..) أما بالنسبة لنا فهو بدء علاقة جديدة استراتيجية مع مصر، ورفع حظر البترول عن الولايات المتحدة، وإنهاء التهديد بالبترول بالنسبة لأصدقائنا وحلفائنا في أوروبا الغربية (وسيكون الفضل كله لواشنطون) ولا ينبغي لأحد منكم في إسرائيل أن يراوده الشك في أن فشل محادثات فك الاشتباك سوف يؤدي إلى فتح خزانات هائلة للضغوط عليكم، ولن تكون هذه الضغوط من أجل انسحاب جزئي وإنما من أجل انسحاب كامل إلى خطوط يونيو” (..)
http://www.raialyoum.com/?p=328861