الكتاب من تأليف اللواء اركان حرب حسن الجريدلي قائد عمليات الجبهة الشرقيه عام 1967 وسكرتير عام وزارة الحربيه عام 1971-1973 و رئيس هيئه عمليات القوات المسلحه المصريه من عام 1973-1978
كان يجب إعداد جميع أجهزة الدولة من جميع النواحى العسكرية, السياسية, و المعنوية, و الاقتصادية. ومن ناحية أخرى فإن التخطيط والخداع والسرية كانوا وراء نجاحنا و قد تم اتباع خطتين لتحقيق هذا الهدف..
أولهما سرية التخطيط فقد تم تكليف عدد محدود من الضباط بالتخطيط واقسموا يمينا بأن لا تخرج أى كلمة عن مهمتهم السرية الى أى شخص سواء داخل القوات المسلحة أو خارجها حتى أنهم قاموا برسم الخرائط بأيديهم وليس بواسطة خطاطين أو رسامين حتى لا يعرف عنها احد حتى عندما كان يراد الاستفسار عن معلومة كان لابد من الانتقال للحصول عليها وليس عن طريق الاتصالات سواء السلكية أو اللاسلكية وعندما يتم تسليم اى عمل كان عن طريق اليد باليد وليس عن طريق المراسلات.
ثانيا, كان عنصر الخداع حيث تم إيهام العدو بعدم قدرتنا على القيام بحرب وتم تنفيذ هذه الخطة بإتباع عدة اتجاهات أولا على المستوى السياسى و العسكرى من خلال إيحاء العدو بأننا غير مستعدين للحرب وأننا نسعى لحل قضيتنا بالطريقة السلمية وان قواتنا تحتاج لوقت طويل حتى نكتسب القدرة على القيام بحرب. حتى ان القيادة العسكرية قد أعلنت عن قيام عمرة للضباط كما قام وزير الخارجية المصرية بدعوة وزير دفاع رومانيا لزيارة مصر يوم 8 أكتوبر كما تم تسريب معلومات بأن هناك زيارة مرتقبة لرئيس الجمهورية لدول عدم الانحياز خلال شهر نوفمبر 1973 و الإعلان عن تسريح بعض المجندين قبل الحرب بـ 48 ساعة.
وفى نفس الوقت كان يتم إعداد الأسلحة وإدخالها لمسرح العمليات والمعدات والكبارى فى سرية تامة كل هذا حقق المفاجأة الاستراتيجية وهى 'إخفاء نية العمل' لدرجة ان قرار الحرب تم إصداره يوم 5 أكتوبر للقيادات العليا وظل يتدرج حتى وصل الى الجنود قبل الحرب بساعتين.
يوم 5 أكتوبر
فى يوم الجمعة الخامس من أكتوبر توجه اللواء حسن الجريدلى الى الوزارة بتعليمات من الوزير. وأكمل قائلا أنه فى الساعة الثانية خرجت بسيارة جيب من مقر وزارة الحربية انا والفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية..أقمنا صلاة الجمعة فى طريقنا إلى غرفة العمليات..الأمر كان هادئا جدا و كان عدد المارة قليل جدا و قال لى الفريق أول أحمد إسماعيل: ترى ماذا سيقول عنا هؤلاء الناس إذا قلنا لهم ان الحرب غدا فى مثل هذا التوقيت؟ فقلت له: طبعا لن يصدقنا احد. ووصلنا إلى مركز العمليات حيث كان العمل يسير بشكل طبيعي. أما بالنسبة ليوم 6 أكتوبر فهو يوافق يوم «كيبور» أو عيد الغفران فى إسرائيل و هو اليوم الوحيد خلال العام الذى تتوقف فيه الإذاعة والتليفزيون عن البث كجزء من تقاليد هذا العيد ، و تم اختيار شهر أكتوبر بالتحديد لأننا قمنا بدارسة كل الشهور,
لاختيار أفضل شهر لاقتحام القناة على ضوء حالة المد والجزر وسرعة التيار كما أنه يعتبر توقيتا مناسب لسوريا قبل ظهور الثلج و لن يتوقع أحد ان نقوم بالحرب و نحن صائمون فى شهر رمضان. وأخيرا تم اتخاذ قرار الحرب فى أكتوبر 1972 ولكن تم الاستقرار على البدء فى عام 1973 بعد استكمال بعض الأسلحة والمعدات التى كانت تنقص الجيش المصري.
بداية يوم 6 أكتوبر
بدأ يوما عاديا و لكن فى تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا صدرت الأوامر إلى رئيس هيئة العمليات بإبلاغ القيادات بنزع خرائط المشروع الاستراتيجى ووضع خرائط خطة العمليات الحقيقية و تم إغلاق جميع الأبواب و فى نفس الوقت توجه اللواء احمد إسماعيل الى قصر الطاهرة لاصطحاب الرئيس إلى المركز دون علم أى أحد وكنت فى شرف استقباله وكانت كل أعصابى مشدودة وانا أقوم بتحيته حيث سيتقرر مصير تلك الأمة خلال ساعة واحدة فقط و قلت له: بالتوفيق و بإذن الله ربنا سينصرنا فى معركتنا, فرد قائلا و هو يشد على يدي: على بركة الله. اتجه الرئيس الى الغرفة الرئيسية و اتخذ موقعة على المنضدة الرئيسية وعلى يمينه الفريق احمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة, وعلى يساره الفريق سعد الشاذلى رئيس الأركان وبجوار الفريق احمد إسماعيل كنت انا و أمامى وسائل الاتصال المختلفة و الخاصة بالقائد العام.
بدأت العيون تتعلق بعد ذلك بالساعة فى انتظار ساعة الصفر الساعة 2 وخمس دقائق و فى تمام الساعة الواحدة و خمسين دقيقة بدأ تسجيل خروج الطائرات من قواعدها و تمت الضربة الجوية الأولى بنجاح و بمكالمة بشرنا بها اللواء طيار محمد حسنى مبارك قائد القوات الجوية. و على المنضدة الرئيسية يحدث موقف قاس حيث همس الفريق احمد إسماعيل فى أذن الرئيس السادات وأبلغه باستشهاد شقيقه عاطف السادات و الذى رد بكل شجاعة بعدها: كلهم أولادى و كلهم شهداء فى الجنة. بعد قليل, دخل اللواء محمد سعيد الماحى قائد المدفعية ليعطى تمام ببدء تمهيد المدفعية 2000 مدفع ميدانى تطلق قذائفها معا على الضفة الشرقية و لمدة 53 دقيقة. جدير بالذكر أن المدفعية قد صبت على مواقع العدو ما يبلغ زنته3000 طن من الذخيرة وكان عدد دانات المدفعية فى الدقيقة الأولي10500 دانة أى بمعدل175 دانة كل ثانية. و ليبدأ بعدها عبور القناة بالقوارب المطاطية ليكون على الضفة الشرقية خلال الدقائق الأولى 8000 مقاتل ووصلوا إلى 50 الفا قبل غروب يوم السادس من أكتوبر.
أهم وأعنف التحديات
أما عن أعنف التحديات فقد ذكر اللواء حسن الجريدلى فى مذكراته ان قواتنا كانت أمام مهمة صعبة فى بداية الحرب, وهى عبور قناة السويس والساتر الترابى الذى يصل ارتفاعه إلي18 مترا أى ما يوازى مبنى بارتفاع6 أدوار والذى هو فى حقيقة الأمر ناتج حفر قناة السويس على مر سنوات وليس أكثر. وبجانب كل تلك الدفاعات وضع العدو مواسير زيت أطلق عليها مواسير النابالم يستطيع التحكم فيها ودفق الزيت من خلالها على سطح القناة وإشعاله لتتحول القناة عندئذ إلى بحر من النيران تلتهم كل من بداخلها. أجرينا حسابات دقيقة للغاية للتعامل مع كل تلك الدفاعات فعبرت فى اليوم السابق للعبور أى يوم5 أكتوبر مجموعات من سلاح المهندسين استطاعت إغلاق مواسير النابالم, و قد تم بالفعل الاستيلاء على مستودعات المواد الملتهبة سليمة وتم اسر الضابط الإسرائيلى الذى قام بتصميمها. أما بالنسبة للساتر الترابى فقام المهندسون العسكريون بشق ما يقرب من 60 ثغرة فى الساتر الترابى و أقاموا عشرات الكبارى فى أقل من 6 ساعات.
ولعل المشكلة الأكبر كانت تتمثل فى تأمين الضباط المهندسين الى ان تتم إقامة كبارى لعبور الأسلحة المصرية الثقيلة كما كان يجب التغلب على ان المشاة يحملون كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة فيما يعادل 25 كج مع ضرورة تسليح المشاة بأسلحة مضادة للدبابات وصواريخ صغيرة
وتجهيزهم بسلالم لمساعدتهم على تسلق الساتر الترابى للتصدى للمدرعات والطائرات وتم اجتياز كل تلك العقبات فى زمن قياسى وهو ما يذكرنى بقول الرئيس الراحل السادات: لقد أفقدت قواتنا المسلحة العدو توازنه فى ست ساعات'. و لعل من أجمل اللحظات التى لا تنسى تكليفى بإعداد بيان عسكرى لأجهزة الإعلام ولا انسى مطلقا البيان الشهير الذى قلت فيه «ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة».تلى كل هذا يوم 7 أكتوبر احتواء جميع الهجمات المضادة و بحلول يوم 8 أكتوبر تمكنت القوات المصرية من صد الاحتياطى التعبوى الإسرائيلى لجبهة سيناء و تمت اكبر معركة بالدبابات تكبد فيها العدو الإسرائيلى خسائر فادحة ولذا أطلقوا على هذا اليوم اسم «الاثنين الحزين» حيث تم أيضا اسر العقيد عساف ياجورى قائد اللواء 190 مدرع الإسرائيلي. وبنهاية يوم 9 أكتوبر نجحت القوات المسلحة فى تحقيق مهمتها حسب الخطة الهجومية ووصلت قواتها الأمامية الى عمق حوالى 15 كيلو مترا شرق القناة.