بعد يومين، أي في 22 أغسطس 1990 ، اقترح صدام أن العراق سينسحب من الكويت إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وانسحبت سورية من لبنان، وكان هذا المقترح هو الذي ادخل مفهوم إقامة الصلة بمفردات الشرق الأوسط الدبلوماسية.
حفز مقترح بغداد بوجود صلة بين نزاع الخليج والنزاع العربي ـ الإسرائيلي الملك حسين على القيام بجولة في العواصم الغربية، مما أوحى للأوساط الإعلامية بأنه جاء يحمل رسالة من صدام. قال الملك حسين انه لا يحمل أي رسالة، لكنه طرح نفسه على الفور كوسيط. لقد كان الملك حسين هو القائد العربي الوحيد الذي ما يزال يستطيع الحديث مع صدام، وكان يأمل أن يستخدمه الأميركيون كقناة اتصال مع بغداد.
عند عودة الملك حسين من جولته اتصل هاتفيا بالرئيس بوش (جورج بوش الاب) وطلب الاجتماع به. كان بوش حينذاك في كينيبنكبورت في منتجعه الصيفي في مين وقد تحدد أن يعقد الاجتماع في 16 أغسطس(آب) 1990 . وصلت مجموعة ملكية صغيرة على متن طائرة مروحية إلى المنتجع الصيفي. كان بوش نفسه متحفظا، لكنه لم يكن موافقا أو رافضا بشكل حاسم لأن يجري الملك مفاوضات مع صدام من اجل تسوية سلمية. كان بوش يتوقع رسالة من بغداد، الشيء الذي لم يذكره الملك حسين له أبدا. وبدا الملك حسين وكأنه يسعى للعب دور وسيط لكن بوش لم ير أن هناك شيئا يستدعي المناقشة. وقد سجل بوش في مفكرته اليومية: «تحدثنا بصراحة شديدة عن الخلافات. ظللت أحاول القول إن الصداقة بيننا متينة.. (ضغط) هو في اتجاه حل وسط يمكن به حل المشكلة وظللت أقول انه لا يوجد شيء كهذا ـ يجب أن يتم انسحاب وعودة الحكم الكويتي ـ لا يوجد حل وسط لأن الغد قد يأتي باعتداء جديد من معتد آخر.. رفض حسين الاعتراف بأن هذا شخص مجنون. تحدث عن الذين يملكون والذين لا يملكون».
شدّد بوش على انه بالنسبة لأميركا، فان النفط هو طريقة حياة وأراد من الملك حسين أن يتفهم موقف أميركا. ربما كان الملك يأمل، وبسبب الصلات التاريخية بين الأردن وأميركا وبسبب صداقتهما الشخصية، أن تكون أميركا معتدلة أو تتحرك تحركا ولو قليلا، لكن رغم أن بوش يقدر صداقته إلا انه رفض أن يتزحزح عن موقفه. وقد اعتبرت جهود الملك حسين في التوسط بمثابة خيانة شخصية لصداقته لبوش وأخذ ذلك شكل: إما انك معنا أو معهم.
ومن المرجّح أن يكون بوش قد اعتقد أنه قد وضع الأردن في زاوية ضيقة. كان يعرف أن الأردن يعتمد اقتصاديا على العراق حيث يستورد منه 95% مما يستهلكه من نفط ويبيع له 45% من صادراته. وقد سمع بوش من الرئيس مبارك أن صدام وعد حكام الأردن واليمن بمنحهم حصصا من نفط الكويت مقابل الحصول على تأييدهم للغزو. لكن هذه القصة لا أساس لها بتاتا، لكنها كانت إحدى العوامل في تفكير بوش. ولكي تبعد إدارة بوش الأردن عن ذلك بدأت في التفكير بتقديم مساعدة مالية دولية للأردن بالإضافة إلى تقديم مساعدة نفطية عربية عاجلة مقابل تنفيذ عقوبات الأمم المتحدة. وقال بوش انه أدرك أن الملك حسين كان قلقا على الوضع الاقتصادي للأردن، واقترح أن تقوم الدول العربية الأخرى بالمساعدة. وذُُكر أن الملك حسين رد على ذلك قائلا «لم احضر هنا لطرح ذلك الموضوع. لقد أتيت لطرح أمر أكبر هو موضوع السلام».
وبالنسبة للمسؤولين الأردنيين كان ذلك بمثابة محاولة لإقناع ملكهم بالانضمام إلى التحالف ضد العراق عن طريق تقديم إغراءات مادية، فقد انتابهم شعور باهت بهذه المحاولة خصوصا بعد الفشل الأميركي في تقديم مساعدة مالية للأردن حينما كانت الأزمة المالية في أوجها بعد ذلك بعام. أما الملك حسين فانه ظل مخلصا لإيجاد حل عربي لمشكلة عربية ولم تغره الجزرة التي كان يلوح به تحت أنفه.
في كينيبنكبورت كان الاجتماع مخيبا لآمال بوش، لكنه كان أكثر خيبة لآمال الملك حسين. وكان نقطة افتراق للطرق التي سيسلكها الصديقان القديمان. تحول بوش إلى مهمة بناء تحالف عسكري ضد «الدكتاتور العراقي الصغير» بينما واصل الملك حسين سعيه لحل سلمي للنزاع. صار سلوك واشنطن تجاه عمان متشددا وصارت نبرته تدريجيا أكثر عداء. ووقع العبء الصعب للمحافظة على الصلة بين العاصمتين على السفير الأميركي الجديد لدى الأردن روجرز هارسون. وقد سلّم هارسون الملك حسين، عقب اجتماع كينيبنكبورت الرسالة التالية: «نعتقد أن الأردن، بسبب موقعه الجغرافي، ضعيف أمام الضغط العراقي. لكن يجب ألا ينتابكم أي شك في أن نجاح العراق في غزوه للكويت سيلبي طموح صدام حسين في الهيمنة على المنطقة، ولن يكون أي جار في مأمن منه. من الأمور الحيوية للمصالح الأردنية الأساسية ألا يقف الأردن محايدا في الصراع بين العراق والأغلبية العظمى من الدول العربية. إن ملاحظة وجود تحالف أمر واقع بين العراق الأردن قد اضر سلفا بسمعة الأردن في الولايات المتحدة وغيرها. ونحن نأمل مخلصين أن تتخذوا خطوات حازمة لوضع حد لهذا التدهور».
وصف الملك حسين هذه الرسالة بأنها «بغيضة» و «فظة جدا جدا». في الأسبوع الأخير من أغسطس زار الملك حسين اليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا والمغرب. كان هدفه إيجاد أرضية مشتركة بين الدول العربية المعارضة للتدخل الأجنبي. وفي الأسبوع الأول من سبتمبر(ايلول) زار الملك حسين اسبانيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وايطاليا. وقد التقى في هذه الدول برؤساء الدول أو رؤساء الحكومات وقدم لهم الرواية الأردنية لأصل وأسباب الأزمة. وكان هدفه الوحيد هو إقناعهم بحل سلمي. وفي كل هذه البلاد، عدا بريطانيا، وجد التشجيع للمثابرة على جهوده في الوساطة. كانت رئيسة وزراء بريطانيا حينذاك هي مارغريت ثاتشر وكان للملك حسين علاقات وثيقة بها في الماضي. لقد كان الملك حسين رجل سلطة ونفوذ وحنكة يعرف كيف يحصل على تعاطف ثاتشر ودعمها. وكان من الجلي أنها تكن له الود. لكن الأحداث الأخيرة في الخليج تسببت في إحداث تعسر خطير في علاقتهما. لقد قادت ثاتشر بلادها بنجاح في حرب جزر الفوكلاند وتعتبر نفسها خبيرة في التعامل مع الدكتاتوريين. كانت ثاتشر تؤيد بحزم فكرة انه لا يجب التفاوض مع الدكتاتوريين.
خلال غداء العمل بين ثاتشر والملك حسين في مقر رئيسة الوزراء في داوننغ ستريت، وجد الملك حسين أنها متصلبة وشغوفة للحرب لدرجة أن الشكوك ساورته حول سلامة عقلها. لقد اتخذت هيئة تشرشلية وحملقت فيه وبدت كشخص مصاب بجنون العظمة. وافتتحت حديثها بسؤال الملك حسين عن سبب «مساندته» لصدام حسين الذي وصفته بأنه «رجل شرير». قال لها «أنا لا أساند أي شخص وإنما أحاول أن أحافظ على السلام في منطقتي» وقال لها بصراحة إن دبلوماسية البوارج العسكرية تنتمي للقرن التاسع عشر. اشتعلت عيناها الشهيرتان بالغضب وقالت «أنت تساند الخاسر وأريدك أن تعرف ذلك قبل فوات الأوان» ووصفت صدام بازدراء بأنه «دكتاتور من الدرجة الثالثة» وأضافت بصوت متغطرس «يا جلالة الملك، لم يبق لك من دور تلعبه في الشرق الأوسط».
كتب عدنان أبو عودة الذي كان يسجل محضر الاجتماع في النهاية «يا الهي؛ كأنها الملكة فيكتوريا تتحدث إلى مهراجا هندي». وشعر كأنه أهين مثل بقية الوفد. انتهت الصداقة بين الملك حسين وثاتشر خلال ذلك الغداء. وافتقرت الرسائل اللاحقة بينهما إلى التهذيب، على الأقل من جانبها.
بعد جلسة الغداء مع ثاتشر عقد الملك حسين اجتماعا سريا مع مسؤولين إسرائيليين في لندن. وقد وردت ومضات مثيرة لتلك العلاقة المتطورة في كتاب من تأليف ايفريم هاليفي الذي كان نائبا لمدير الموساد في ذلك الوقت والذي يعتبر الصلة الإسرائيلية الأكثر قربا من الملك. كان الإسرائيليون يراقبون ما يجري من الخطوط الجانبية بقلق متزايد. وكانت لدى الإسرائيليين معلومات استخبارية تقول إن هناك طيارين أردنيين يتدربون مع طيارين عراقيين في العراق. حينما قدمت هذه المعلومات أول مرة للملك حسين لم ينفها، لكنه أوضح أنها تتعلق بتوفير تكاليف التدريب، وهي لا تعني تغييرا في السياسات تجاه إسرائيل.
بعد غزو العراق للكويت اكتشف الإسرائيليون أن طائرة عراقية تحمل شارة سلاح الجو الملكي الأردني تقوم بجولة على الحدود بين الأردن وإسرائيل جنوب البحر الميت على مقربة من المفاعل النووي في ديمونا. ومن المستبعد أن تتم عمليات تحليق كهذه دون موافقة الملك. وفي القدس ارتفعت أصوات عالية تنادي بإنهاء شهر العسل السري بين إسرائيل والأردن. ورأى مؤيدو إقامة دولة فلسطينية في الضفة الشرقية في الحرب المقبلة فرصة لتحقيق أمرين في وقت واحد: الانتقام من هجوم صاروخي عراقي على إسرائيل وتوجيه ضربة للقوات الجوية الأردنية. وكانوا يعلمون أن هذا السيناريو إذا مضى لنهايته المنطقية فانه سيؤدي إلى نهاية الملكية في الأردن. تم اتخاذ قرار بمواجهة الملك فيما يتعلق بتبعات هذه التطورات الأخيرة، وواجه الملك تحذيراً شديداً بان تتوقف التحليقات الجوية العراقية فورا. جاء التحذير للملك في يوم غداء العمل في داوننغ ستريت مع ثاتشر. وفي حديث لاحق لاحظ الملك حسين انه بينما كانت لهجة ثاتشر مريرة وغير لطيفة فان الرسالة الإسرائيلية كانت أكثر تهديدا من حيث المحتوى.
اغتنم الملك الفرصة ليشرح للإسرائيليين بعض حقائق الحياة كما يراها. كان صدام في نظر الجماهير العربية بطلا حقيقيا. لقد أنقذ المسلمين السنة من انقضاض الشيعة الإيرانيين عليهم. ولم يحقق الاحترام وحده وإنما حقق أيضا الهيبة والخشية. لقد جسّد في شخصه حلم المجد والتضحية والنجاح. وكان ما ينظر إليه الغرب كانعدام للرحمة والقسوة يمثل في أعين العرب شجاعة وقوة وكبرياء. وظل الملك يكرر القول إن على المرء ألا ينسى أهمية الكبرياء وكان يشعر بمرارة خاصة للمعاملة التي لقيها من بوش. لقد عرف كل الرؤساء الأميركيين منذ ايزنهاور وقد بذل جهدا مضنيا في تنمية الصداقة مع بوش حينما كان بوش مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ولكنه الآن لا يستطيع أن يستسلم للضغط العاري لبوش فيما يتعلق بموضوع العراق. وبعد سنوات من الرعاية الصبورة للعلاقات مع الولايات المتحدة وصل إلى طريق مغلق. وها هي علاقته بحليف قديم تنهار. وبالنسبة للأردن وللملك حسين شخصيا فان هذا يعتبر بمثابة كارثة لكنه يقف عاجزا أمام انحدار الأمور نحو الحرب. وفي كل مرة يلتقي فيها ايفريم هاليفي خلال هذه الشهور كان الملك يكرر له انه مقتنع بأنه تصرّف بشرف وانه متأهب لمواجهة قدره كما ظل من قبل في العديد من المرات في الماضي حين واجه تهديدات على حياته وعلى بقاء مملكته. وخلال حرب الخليج رأى هاليفي فيه زعيما يتسم بمزاج قاتم وقدري لكنه في سلام مع نفسه ومستعد لقبول أي شيء يقدره الله له.
في 5 سبتمبر1990 عاد الملك حسين من جولته في العواصم الأوروبية وطار مباشرة إلى بغداد محاولا مرة أخرى إقناع صدام بالانسحاب من الكويت. وكانت هذه الرحلة هي الثانية من ثلاث رحلات قام بها إلى بغداد سعيا لتحقيق تسوية سلمية. وفي رحلته نقل لصدام قناعته الراسخة بان القادة الأوروبيين وحلفاءهم لن يسمحوا له بالبقاء في الكويت. ونصح حسين صدام قائلا «اتخذ قرارا شجاعا بسحب قواتك وإذا لم تفعل ذلك فستُجبر عليه». ولكن صدام ظل على موقفه. كان صدام اقل قلقا على مستقبل العراق منه على مستقبله هو. ربما توصل في حساباته إلى انه إذا أقدم على تنفيذ انسحاب مهين لقواته فان قيادته نفسها ستصير موضع تساؤل.
إن حفاظ الملك حسين على لعب دور صانع السلام في وجه أشكال الصدود العديدة التي واجهها تفوق كل تصور. كان يشعر شعورا عميقا بأن الشرق الأوسط لا يتحمل حربا أخرى وان العالم يجب ألا يفرضها عليه. وجاءت مغامرته التالية في مبادرة سلام مغربية.
في 19 سبتمبر 1990 استضاف الملك الحسن الثاني في الرباط اجتماعا دعا إليه الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. ولم تكن التوقعات في الوصول إلى حل عربي كبيرة لكن رؤساء الدول المجتمعين وافقوا على بذل محاولة أخرى. بعد ثلاثة أيام من ذلك وجه الملك حسين رسالة مطولة إلى الزعيم العراقي نقل فيها رأيهم الجماعي. كان الجانب الأساسي في الرسالة بمثابة نصح لصدام بالانسحاب من الكويت وتحاشي الحرب الوشيكة. وأوضحت الرسالة لصدام أن الحكومات العربية لا تقبل احتلال الأراضي بالقوة ليس فقط بوصفها مبدأ وإنما لأن الفشل في التمسك به سيفيد إسرائيل. وقد مست الرسالة وترا في غرور صدام بإثنائها على قيادته وعلى الإنجازات التي تحققت في ظل تلك القيادة. لكنها تحدثت أيضا عن طموحات القوى الصناعية الكبرى في الهيمنة على المنطقة وحذرته بأن الحرب قد تعود بكارثة ليس على العراق وحده وإنما على العالم العربي بأكمله. وطلبت الرسالة من صدام أن يطرح مطالبه المحددة حول موضوع الكويت لمساعدة القادة الثلاثة للعمل من اجل حل عربي. وبعد أن عرض الملك حسين مخاوفه وضع نفسه في خدمة صدام في هذا الشأن فكتب يقول «لقد غادرت بغداد إلى الأردن قلقا وحزينا وكنت آمل في مواصلة نشاطاتي لوقف التدهور الذي ظل مستمرا منذ ذلك الحين. فهل لنا من استجابة منك لندائنا ونداء كل العرب المخلصين، قبل أن يفوت الأوان؟».
جاء رد صدام إلى عمان مع وزير الخارجية العراقي يوم 29 سبتمبر. لم يستجب صدام للنداء. كان صدام مستعدا لقبول تحدي الحرب لأنه يعتقد أو، على الأقل، قال انه يعتقد، أن الحرب ستكون كارثة ليس فقط على العراق وإنما على الولايات المتحدة وحلفائها.
في أكتوبر(تشرين الاول) تم اتخاذ قرار زيادة عدد القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية إلى 400 ألف نسمة. وقد تغيرت مهمة هذه القوة العسكرية الضاربة من الدفاع إلى الهجوم. وترافقت مع إرسال هذه القوات البرية والبحرية والجوية إلى المملكة العربية السعودية حملة دبلوماسية مكثفة.
في 29 نوفمبر(تشرين الثاني) أجاز مجلس الأمن القرار 678 الذي خوّل استخدام «كل الوسائل الضرورية» ضد العراق إلا إذا انصاع لكل القرارات السابقة في غضون ستة أسابيع. أنع التحول الجذري في الموقف الأميركي الملك حسين بان المواجهات العسكرية صارت وشيكة، ومع ذلك فانه أصر على مواصلة جهوده لاحتواء الأزمة مركزا بصورة مجددة على تأمين الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين في العراق منذ انفجار الأزمة.
عقدت قمة مصغرة في بغداد في 4 ديسمبر. وكانت تلك هي الزيارة الثالثة والأخيرة للملك حسين إلى بغداد خلال فترة الأزمة. كان ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وسالم البيض نائب الرئيس اليمني هناك. وناشدوا جميعا صدام حسين أن يتراجع عن حافة الحرب لكن مسعاهم لم يثمر. وتحججوا بأن تبعات الصدامات المسلحة ستكون كوارثية على العراق والكويت وعلى المنطقة كلها، لكن ذلك كله لم يحرك صدام. تدخل الملك حسين وقال لصدام ان تقييم مستشاريه للأوضاع خاطئ وانهم سيتعرضون لضربة قاسية من الحلفاء وانه يجب الانسحاب قبل فوات الأوان.
احد الموضوعات العاجلة كان مصير الرهائن الغربيين أو «الضيوف» الذين يحتجزهم العراق. وقال الملك متذكرا تلك القمة المصغرة «تجادلنا وتجادلنا، وأخيرا استطعنا أن نخرج ما يسمون بالضيوف من العراق وكان ذلك هو الشيء الايجابي الوحيد الذي خرجنا به».
بعد القمة أعلنت الحكومة العراقية أنها ستسمح لكل الأجانب الموجودين في العراق بمغادرة البلاد. وقام صدام شخصيا، في خطوة تحمل دلالات الاحترام، بمصاحبة الملك حسين إلى المطار. وفي الطائرة قال للملك «لا تقلق يا أبا عبد الله . العالم كله ضدنا لكن الله معنا وسننتصر» فرد الملك حسين قائلا: «هذا شيء يفوق قدرتي على الإدراك أو التعامل. أغادرك وأنا أشعر بحزن وقلق شديدين واعلم أن النتائج، كما تبدو لي، ستكون كارثية في أي مكان. لكن سأعود إلى بلادي فإذا كان هناك ما يمكنني أن افعله بعد فانك تعرف كيف تتصل بي». لم يتصل به صدام بعد ذلك واندلعت الحرب في الشهر التالي.
بعد فشل الملك حسين في تحاشي وقوع مواجهة عسكرية بين العراق والتحالف ذي القيادة الأميركية، تحول اهتمامه إلى الحد من تبعات النزاع على الأردن. كان همه الأساسي هو تحاشي أن يزج بالأردن في حرب ليس طرفا فيها، وكان الملك حسين متخوفا من أن تتحطم مملكته بين الطرفين المتحاربين. وفي ساعة متأخرة من عصر 31 ديسمبر 1990 طار عدنان أبو عودة إلى بغداد في طائرة خاصة لنقل رسالة شفوية من الملك حسين إلى صدام. وعندما وصل ابلغ انه لا يستطيع مقابلة صدام لأن الأخير خارج بغداد فالتقى بطه ياسين رمضان نائب الرئيس وطارق عزيز وزير الخارجية ونقل لهما الرسالة؟ وكانت الرسالة التي تتكون من جملتين هي «احمل تحيات صاحب الجلالة للرئيس. ويود صاحب الجلالة أن تعلموا انه في حالة نشوب حرب فان جلالته لا يريد أن تنتهك الأجواء الأردنية بواسطة أي طرف». وبكلمات أخرى فان الأردن لا يريد أن يكون متورطا في أي خطوة عسكرية، وانه سيدافع عن أراضيه ومجاله الجوي ضد أي اعتداء من أي طرف. أعقب التحذير الشفوي إرسال لواء مدرع إلى الجبهة الشرقية.
نجحت إسرائيل في التقاط علامات التأهب القصوى في الأردن، ومع بوادر ظهور الحرب على الأفق اكتسب الأردن أهمية متزايدة كأرض معارك محتملة بين العراق وإسرائيل. وفجأة اكتشف قادة الليكود قيمة وجود دولة مستقرة يديرها حاكم معتدل على حدودهم الشرقية. وبدلا من إصدار التهديدات بدأت الحكومة الإسرائيلية في إرسال رسائل مطمئنة عبر وسيط ثالث إلى عمان للتأكيد للملك حسين بأنه لا توجد خطط للهجوم على بلاده وحثه على ألا يسمح بدخول قوات عراقية إلى الأردن. وبمجرد انفجار النزاع كتب شامير إلى بوش محذرا بأن دخول أي قوات إلى الأردن سيكون تعديا لـ«خط أحمر» من وجهة النظر الإسرائيلية، كما أوضح شامير أيضا وبجلاء أن إسرائيل ليست لها نوايا عدوانية تجاه الملك حسين، وطلب من بوش ألا يدفع الملك حسين لخدمة الأهداف العدوانية للدكتاتور العراقي.
في بداية 1991 بادر افريم هاليفي نائب مدير الموساد بمحاولة الترتيب للاجتماع بهدف حرمان العراق من استخدام التسهيلات الأردنية للهجوم على إسرائيل في حالة نشوب حرب. وافق حسين على الاجتماع، لكن انتابته الشكوك حول إمكانية مشاركة شامير نظرا للخلافات التي كانت قد ظهرت في لقائهما الوحيد في يوليو(تموز) 1987. لكن شامير رحب بالفكرة عندما طرحها هاليفي.
عقد اللقاء في حديقة بوكهيرس وهي مكان إقامته المعزول والحصين في آسكوت. وصل المدعوون قبل مغيب يوم الجمعة 4 يناير(كانون الاول) 1991 وغادروا المكان نهاية اليوم التالي. رافق شامير كل من الياكيم روبنستاين وزير شؤون الحكومة ويوسي بن اهرون المدير العام لمكتب رئيس الوزراء والجنرال ايهود باراك نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي. أما الوفد الأردني فضم إلى جانب الملك حسين الشريف زيد بن شاكر وعدنان أبو عودة المستشار الخاص للملك حسين والكولونيل علي شكري مدير المكتب الخاص للملك. ذكر الملك حسين أن شامير هو الذي طلب الاجتماع للحصول على تأكيدات بألا يقوم الأردن بشن هجوم على إسرائيل. تمت تسوية موضوع التهديد المحتمل من الأردن على إسرائيل في نهاية الأمر بشكل أرضى الطرفين. والتزم الملك التزاما قاطعا بمنع أي استخدام عسكري لبلاده بأي شكل من الأشكال ضد إسرائيل. أما الموضوع الآخر المتعلق باحتمالات تعرض إسرائيل لهجمات صاروخية من خلال خرق عراقي للأجواء الأردنية وحق إسرائيل في الرد عبر الأردن، فان الزعيمين افترقا من دون أن يتوصلا لاتفاق حول هذا الموضوع الذي يعتبر موضوعا حاسما.
سجّل الاجتماع نجاحا فاق كل تصور. فتأسست علاقة صداقة متبادلة بين الزعيمين. كما تم التوصل إلى تفاهم استراتيجي بان الأردن سيكون محايدا إذا بدأت القنابل تتساقط في الخليج وان إسرائيل ستحترم هذا الحياد. وهكذا نجح الملك حسين في أن يحافظ على بلاده خارج دائرة حرب الخليج بالرغم من كل الضغوط الخارجية عليه للانضمام للتحالف والضغوط الداخلية للوقوف إلى جانب العراق.