أجاز مجلس الأمن في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 قراره رقم 338، مناشدا أطراف النزاع بوقف الحرب والشروع في مفاوضات مباشرة بهدف التوصل إلى تسوية للنزاع على أساس القرار 242. قبلت إسرائيل ومصر والأردن فورا، إلا ان سورية وافقت بعد ذلك بوقت قصير، بغرض إبداء احتجاجها على عدم التشاور معها.
لم يكن الملك حسين موافقا فحسب، بل متلهفا للمشاركة في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بهدف استعادة السيادة الأردنية على الضفة الغربية، لكنه خُذل من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. وقام كيسنجر بأول زيارة له إلى منطقة الشرق الأوسط للتمهيد لعقد مؤتمر دولي عقب تنفيذ وقف إطلاق النار، ووصل إلى عمان في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 في نهاية جولة له في عواصم دول المنطقة.
استقبل الملك حسين كيسنجر وطرح له موقفه بصورة واضحة، ولخصه في ان الاردن الدولة العربية الأكثر تأثرا بالنزاع من ناحية الأراضي ومن الناحية السكانية أيضا، مؤكدا ان واجبه هو استعادة الضفة الغربية مع تعديلات طفيفة من الجانبين، كما أكد الملك حسين لكيسنجر أيضا انه لا يستطيع التخلي عن مسؤوليته عن الأجزاء الخاصة بالمسلمين والمسيحيين في القدس. وكان كيسنجر قد أعرب عن أسفه، حسبما جاء في مذكراته، في ان يكون «أفضل الأصدقاء العرب للولايات المتحدة في تلك المرحلة على هامش عملية السلام»، إلا ان خطوات كيسنجر تشير إلى انه كان يتعامل بوجهين، فقد كان متواطئا مع مصر وإسرائيل بهدف تهميش الأردن.
كان الملك حسين يشعر بقلق واضح إزاء احتمال إهمال مصالحه في المسألة الفلسطينية خلال عملية السلام التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا ان كيسنجر أبلغه بأن أفضل السبل لحماية هذه المصالح ان يصبح الاردن عضوا مؤسسا في «مؤتمر جنيف للسلام»، ذلك ان هذه الخطوة كانت ستجعله متحدثا باسم الفلسطينيين، على حد اقتراح كيسنجر. وافق الملك حسين على المشاركة في المؤتمر، على أمل ان يؤدي إلى تسوية شاملة للنزاع على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338. وكان غرض كيسنجر ينحصر على وجه التحديد في استمرار وقف إطلاق النار والفصل بين القوات وتمكين مصر وإسرائيل من التوصل إلى تسوية ثنائية.
كان يدرك كيسنجر جيدا ان مشاركة الاردن تستوجب التفاوض حول الضفة الغربية والقدس، عاجلا أو آجلا، وهما قضيتان كان كيسنجر يعمل على تفاديهما.
افتتح المؤتمر في جنيف في 21 ديسمبر (كانون الأول) بصورة رسمية، تحت رعاية الأمم المتحدة وبمشاركة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وترأس جلسة الافتتاح كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك. قبلت إسرائيل ومصر والأردن الدعوة للمؤتمر، إلا ان الرئيس السوري حافظ الأسد رفض مشاركة بلاده، لأن المؤتمر لم يهدف، على حد رأي سورية، بصورة واضحة إلى حمل إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة. كما ان إسرائيل رفضت مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية. ومثل الاردن في المؤتمر زيد الرفاعي، الذي أصر في الجلسة الافتتاحية على انسحاب إسرائيل الكامل من كل الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، مؤكدا ان غياب سورية عن المؤتمر لا ينتقص بأية حال من حقها في مطالبة إسرائيل بالانسحاب من مرتفعات الجولان، كما أعلن أمام المؤتمر ان «مسألة الانسحاب والحدود وحقوق الفلسطينيين واللاجئين وواجبات السلام ووضع القدس، جميعها قضايا واهتمامات مشتركة ومسؤولية جماعية».
رفض وزير الخارجية المصري، إسماعيل فهمي، التنسيق مع الرفاعي قبل بدء المؤتمر، ولم يتبادل معه كلمة واحدة خلال المؤتمر. كما أشار خلال حديثه الافتتاحي إلى الضفة الغربية كأرض فلسطينية، الأمر الذي كان يعني ضمنيا نفي حق الاردن في تمثيل الفلسطينيين. اما أبا ايبان، فقد أكد خلال حديثه أمام المؤتمر ان إسرائيل لن تعود إلى أراضي ما قبل حرب يونيو (حزيران) 1967، مؤكدا ان القدس هي العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل. واقترح كيسنجر تشكيل مجموعة عمل عسكرية مصرية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات، إلا ان الرفاعي اعترض وقال، الغرض من عقد المؤتمر هو تطبيق قرارات مجلس الأمن والتوصل إلى تسوية شاملة. ورد كيسنجر من جانبه قائلا، ان السلام الشامل لا يمكن تحقيقه فورا وإنما فقط كنتيجة لسلسلة من الخطوات، الأمر الذي أتاح الفرصة أمام الرفاعي لاقتراح تشكيل مجموعة عمل أردنية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات في الجبهتين. وعارض ابا ايبان ذلك المقترح، بحجة ان القوات ليست في حالة اشتباك وان انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية قضية من الممكن مناقشتها فقط في إطار تسوية شاملة واتفاق سلام.
بدأ الرفاعي يتشكك في أن الغرض الأساسي من وراء مؤتمر جنيف للسلام، هو توفير الغطاء الدبلوماسي اللازم للتوصل إلى اتفاق مصري ـ إسرائيلي. وأكد هذه الشكوك، بعد مضي حوالي 15 عاما، بيتر رودمان، وهو مسؤول أميركي رافق كيسنجر إلى المؤتمر. فقد قال رودمان ان الغرض من مؤتمر جنيف كان التوصل إلى اتفاق لفصل القوات بين إسرائيل ومصر، وأوضح أيضا ان الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل توصلت إلى اتفاق سري قبل انعقاد المؤتمر. حتى قبل هذا الاعتراف كان الملك حسين قد توصل في ذلك الوقت، بناء إلى النتائج التي توصل إليها المؤتمر، إلى انه لم يكن سوى تمثيلية لإضفاء شرعية على اتفاق منفصل بين مصر وإسرائيل وتمهيد الطريق للتوصل إليه. ويمكن القول بصورة عامة ان مؤتمر جنيف للسلام لم يكن مؤتمرا دوليا كما ينبغي، بل خدعة. الجلسة الافتتاحية له كانت في واقع الأمر آخر جلساته. اما الاردن، فقد خرج منه خالي الوفاض.
بدأ كيسنجر عقب إرجاء أعمال المؤتمر، ما بات يعرف بـ«دبلوماسيته المكوكية». وكانت أولى ثمرات هذه التحركات توقيع اتفاق بين مصر وإسرائيل في 18 يناير (كانون الثاني) 1974 للفصل بين القوات. وكان الهدف التالي لكيسنجر التوصل إلى اتفاق مماثل بين إسرائيل و سورية، إلا انه في نفس الوقت كان عليه التوقف في الاردن. وبالفعل وجه الملك حسين الدعوة إلى كيسنجر لزيارته في العقبة. وكان في استقبال كيسنجر والوفد المرافق له كل من الملك حسين وولي العهد الأمير حسن، ورئيس الوزراء زيد الرفاعي، ورئيس هيئة الأركان الجنرال زيد بن شاكر. وعبّر الجانب الأردني عن ارتياحه إزاء التوصل إلى اتفاق الفصل بين القوات، الذي وصفه الملك حسين بأنه انجاز هائل.
الجانب الأردني كان يعلم ان سورية هي الوجهة المقبلة لكيسنجر بعد مصر، بهدف التوصل إلى اتفاق مماثل للاتفاق الذي ابرم مع السادات حول الفصل بين القوات. إلا ان الاردن كان يرغب في ان تكون هناك مناقشات حول انسحاب مبدئي من الضفة الغربية على غرار الإجراءات التي رتبت في ما يتعلق بالوضع بين مصر وإسرائيل. وكان هاجس الاردن يتركز في احتمال ان تحرمها الدول العربية من حق استعادة الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في حرب يونيو 1967. وفي واقع الأمر كان الاردن قد عبر عن معاناته من كابوسين في ما يتعلق بالضفة الغربية، هما احتمال استمرار الاحتلال الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى، أو قيام دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية يكون أول هدف لها المملكة الهاشمية، إلا كيسنجر زعم للجانب الأردني انه متعاطف معه وانه يوافق الملك حسين في تقييمه الاستراتيجي. وقال للملك حسين: «إما ان تتعامل إسرائيل مع ياسر عرفات، أو تتعامل مع جلالتكم. إذا كنت في محل رئيس الحكومة الإسرائيلية، سأسارع إلى التفاوض مع جلالتكم لأن ذلك يمثل أفضل ضمانة ضد عرفات».
إلا ان النظر في البدائل لم يحدث تقدما في الأمور، لأن إسرائيل ليست راغبة في أي من البديلين.
وهكذا، لم يكن لقاء العقبة سوى تكرار لما حدث في زيارة كيسنجر السابقة في نوفمبر (تشرين الثاني). فقد سبق ان عرض على القادة الإسرائيليين مقترح الرفاعي بانسحاب إسرائيلي من مدينة أريحا، التي تقطنها غالبية عربية وتقع على مقربة من نهر الاردن، فضلا عن كونها رمزا لمطالبة الملك حسين بالضفة الغربية، والتأكيد على وضعه كمحاور رئيسي لإسرائيل في مفاوضات الضفة الغربية. إلا ان المقترح رفض من الجانب الإسرائيلي، على أساس انه يتعارض مع «خطة آلون»، التي يعتبر وادي الاردن بموجبها حدودا أمنية لإسرائيل.
طرح الملك حسين في لقاء العقبة خطة أخرى للفصل بين القوات، تتراجع بموجبها القوات العسكرية الأردنية والإسرائيلية مسافة ثماني كيلومترات من نهر الاردن باتجاه سلسلة الجبال عند وادي الاردن، مع إقامة إدارة مدنية أردنية في المنطقة التي ستخليها إسرائيل، خصوصا في مدينة أريحا. وجاء ضمن مقترح الملك حسين أيضا تشكيل مجموعة عمل في أسرع فرصة ممكنة، لتثبيت مطلب الأردن بتمثيل الفلسطينيين. ورد كيسنجر على الملك حسين قائلا، انه سيطرح المقترح على الجانب الإسرائيلي خلال الأسابيع المقبلة. ووصف كيسنجر نهج الملك حسين بالاعتدال، لكنه لم تكن هناك جدوى من ورائه في ذلك الوقت الذي كان يتشكل خلاله ائتلاف حاكم جديد في إسرائيل، بمشاركة حزب يعارض أي تغيير في أراضي الضفة الغربية.
على الرغم من ذلك واصل الملك حسين مساعيه للمشاركة في المساعي والجهود الدبلوماسية. إلا ان إحجام كيسنجر عن إشراك الملك حسين في دبلوماسيته التدريجية تلك، أجبرت الملك حسين على تجديد الاتصالات المباشرة بإسرائيل. ففي أوائل عام 1974 أجرى الملك حسين اجتماعين مع غولدا مائير، التي كانت في ذلك الوقت تواجه عاصفة من الانتقادات على الصعيد المحلي، بسبب فشلها في معرفة الهجوم العربي قبل وقوعه في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. اكتسب الرفاعي من خلال تلك التطورات والأحداث تجربة كبيرة في الدبلوماسية الدولية والإقليمية. وكان هناك تقسيم للعمل بين العاهل الأردني ورئيس وزرائه، على أساس ان الملك حسين هو الذي يحدد الخطوط العريضة، فيما كان رئيس وزرائه الرفاعي، مسؤولا عن تنفيذها وعن التعامل مع التفاصيل وتبديد أي نوع من الالتباس والغموض. كما كان أيضا يدوّن الملاحظات خلال النقاش ويعد سجلا بما دار خلال اللقاء.
كان الملك حسين يتسم باللطف والتهذيب والهدوء، مع براعة واضحة في إشاعة جو من اللطف في المفاوضات، فيما كان الرفاعي سياسيا براغماتيا ولاذعا ومفاوضا صارما ومدافعا بقوة عن مصالح الاردن.
توجه الملك حسين وزيد الرفاعي في 26 يناير (كانون الثاني) 1974 إلى لقاء غولدا مائير ودايان وغازيت في صحراء أرافا، على الحدود بين الدولتين، داخل مقطورة مكيفة الهواء. بدا واضحا ان الطرفين كانا يريدان تحقيق تقدم للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات، إلا ان آراءهما كانت متضاربة بشأن طبيعة ومستوى الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية. كان الطرف الإسرائيلي يفكر انطلاقا من فصل محدود للقوات، فيما طالب الجانب الأردني بفصل للقوات على كامل الجبهة. كانت غولدا مائير تفضل ان تكون العملية تدريجية، وعرضت إعادة مدينة أريحا للحكم الأردني، بالإضافة إلى المناطق المأهولة بالسكان العرب وسط الضفة الغربية. وعلى الرغم ان ذلك كان عرضا متواضعا، فقد أكدت غولدا مائير على ان تلك الخطوة بداية فقط وليس نهاية العملية. إلا ان الملك حسين طالب بأن تخلي إسرائيل شريطا من الأرض بمحاذاة نهر الأردن، وكان ذلك يتطلب تفكيك إسرائيل بعض المستوطنات. ونظر الملك حسين إلى عرض غولدا مائير كونه صورة جديدة لخطة قديمة (خطة آلون) سبق ان رفضها مكررا، ووصفها بأنها «غير مقبولة تماما». وجاء طلب الملك حسين انطلاقا من ان أي تراجع إسرائيلي على طول خط وقف إطلاق النار سيعطي الفلسطينيين أملا في المستقبل ويعيد ثقتهم في الاردن.
وجرى الحوار التالي بين غولدا مائير والملك حسين ودايان والرفاعي:
الملك حسين: اذا وافقتكم من حيث المبدأ على اقتراحي بانسحاب إسرائيلي من نهر الاردن إلى مسافة 15 كيلومترا، على نحو يسمح لي بإقامة إدارة مدنية أردنية، فإن ذلك سيمكننا من المضي على مراحل في التطبيق. سيساعدنا ذلك على إبعاد الفلسطينيين من منظمة التحرير الفلسطينية.
غولدا مائير: من الممكن إيجاد سبل أخرى لفصل قواتنا من خلال ممر يربطكم بالسكان الفلسطينيين.
الملك حسين: نرفض ان يتم حصرنا في ممر ضيق في الضفة الغربية، ولن يكون هناك تقدم من دون الانسحاب من وادي الاردن.
دايان: هل يعني ذلك انه يجب على قوات الدفاع الإسرائيلية الانسحاب من كامل وادي الاردن؟
الرفاعي: نعم، بالتأكيد. لكننا لن نضع قوات من الجيش الأردني هناك.
دايان: وماذا عن المستوطنات اليهودية في وادي الاردن؟
الرفاعي: يجب إزالتها تماما.
دايان: إذا كان الأمر كذلك، أين ستكون حدودكم النهائية؟
الرفاعي: مطابقة لخطوط 1967. نحن على استعداد لتحقيق ذلك بصورة تدريجية.
تواصل الحوار، لكنه لم ينجح في تفادي التوصل إلى طريق مسدود. دايان كان مصرا بعناد على الإبقاء على المستوطنات اليهودية والقواعد العسكرية في وادي الأردن، وأضافت غولدا مائير من جانبها قائلة: ان الحصول من الكنيست حتى على مجرد الممر سيكون أمرا صعبا. ولم يكن الرفاعي أقل إصرارا إذ أكد على ان الانسحاب لا يمكن ان يبدأ بممر، كما أكد أيضا على ان «خطة آلون» اذا كانت هدف إسرائيل، فلن تكون هناك آفاق تسوية.
انعقد لقاء آخر بين نفس المجموعة من الجانبين وفي نفس المكان في 7 مارس (آذار)، وطرح الملك حسين مجددا مطلبه بانسحاب إسرائيلي من على طول الجبهة بكاملها. وهنا أشارت غولدا مائير إلى ان اتفاق الفصل بين القوات مع مصر لم يكن في كامل قناة السويس وإنما على جزء منها فقط. وكشف رد الملك حسين على هذه النقطة عن إحباطه بصورة واضحة عندما قال: «هل كان يجب علي ان أحاربكم في أكتوبر كي أقنعكم بالفصل بين القوات على كامل الحدود؟ لم يحرز النقاش أي تقدم:
الملك حسين: اذا اُمكن التوصل إلى سلام، فإننا سنستطيع منع الإرهاب، ولكن ما دمتم ترفضون مقترحاتنا، فإن الفلسطينيين سيصبحون أكثر قوة.
غولدا مائير: ماذا اذا أراد الفلسطينيون في الضفة الغربية إقامة دولة فلسطينية مستقلة؟
الملك حسين: سيكون ذلك حسنا. هذه الدولة ستكون مثل الساندويتش بيننا وبينكم، وليس هناك ما يثير الخوف.
دايان: هل يمكن ان تستمر المواقع المحصنة والمستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية؟
الملك حسين: من الصعب علينا قبول ذلك.
واصل دايان الضغط للإبقاء على الوجود الإسرائيلي في وادي الاردن، إلا ان الرفاعي رفض تلك الفكرة بصورة أكثر حدة من الملك حسين. وهدد دايان أيضا بسؤال القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية حول ما اذا كانوا سيوافقون على الوجود الإسرائيلي لقاء مقابل مالي مناسب. ورفض الرفاعي الفكرة بتأكيده بثقة ان القادة الفلسطينيين لن يوافقوا على ذلك. قال دايان عند ذلك ان هناك خيارين، فإما ان تعمل إسرائيل جاهدة على التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو ان يوافق الاردن على إجراء تعديلات كبيرة على الحدود. هناك تدخل الرفاعي بسرعة قائلا: ان ترتيب اللقاء جرى أصلا لمناقشة الفصل بين القوات.
انتهى ذلك الاجتماع من دون التوصل إلى اتفاق، وعلى حد تعليق الملك حسين، عاد الجميع إلى المربع الأول. وفي 10 ابريل (نيسان) تقدمت غولدا مائير باستقالتها، غداة نشر تقرير لجنة أغرانات، واختار حزب العمل اسحاق رابين لخلاقة غولدا مائير، وبذلك يكون فصل طويل في العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية قد انتهى.
الحكومة التي شكلها رابين وقدمها إلى الكنيست في 3 يونيو (حزيران) 1974 كانت تعاني من الضعف والانقسام. فقد أصبح آلون وزيرا للدفاع وشيمعون بيريس وزيرا للخارجية. وكان لدى ثلاثتهم أولويات مختلفة. رابين كان يفضل إجراء مفاوضات مع مصر، فيما آلون كان صاحب توجه مؤيد للمفاوضات مع للأردن، وكان بيريس يفضل التوصل إلى اتفاق مع القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية. على الرغم من ان رابين في ذلك الوقت لم يكن على استعداد للتوصل إلى اتفاق حول الضفة الغربية، فإنه ثمّن الاتصال بالملك حسين. فخلال فترة ثلاث سنوات ترأس خلالها الحكومة الإسرائيلية، عقد رابين، برفقة آلون وبيريس، ستة اجتماعات مع الملك حسين جميعها في (أراض إسرائيلية)، واحد في تل أبيب والبقية في وادي عربة. وكان لدى الجانب الإسرائيلي أربعة أهداف محددة خلال تلك اللقاءات: استكشاف التوصل إلى اتفاق مع الاردن وحل المشاكل الصغيرة التي كانت تؤثر على العلاقات بين البلدين وترقية التعاون الاقتصادي بينهما وتنسيق السياسة تجاه الضفة الغربية والمنظمات الفلسطينية.
الاردن تقدم من جانبه باقتراحين خلال المناقشات التي جرت في تلك اللقاءات: التوصل إلى اتفاق مؤقت يتضمن انسحابا إسرائيليا من على طول نهر الأردن والتوصل إلى اتفاق سلام شامل مقابل انسحاب إسرائيلي كامل.
عقد الاجتماع الأول بين الجانبين في 28 أغسطس (آب) والثاني في 19 أكتوبر (تشرين الثاني) 1974، وكان قد تقرر مسبقا عقد قمة عربية في الرباط في نهاية نفس الشهر. خلال تلك الفترة شهد العالم العربي تأييدا متزايدا لإحلال منظمة التحرير الفلسطينية محل الاردن كممثل للشعب الفلسطيني، وبات الملك حسين في ذلك الوقت أكثر تلهفا من أي وقت مضى للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات يساعده على تعزيز موقفه ومد نفوذه إلى الضفة الغربية. فبدون التوصل إلى اتفاق كان سيواجه خطر مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في القمة المرتقبة ممثلا للشعب الفلسطيني بدلا من الاردن، إلا ان رابين، الذي أتى بالحزب الوطني الديني في الحكومة الإسرائيلية، لم يكن على استعداد للتخلي عن أريحا، خشية انهيار ائتلافه الهش. لم يكن رابين راغبا في تحقيق أي تقدم مع الملك حسين في هذا الجانب، ذلك ان أي تنازل عن الأراضي لا يعني سوى انسحاب الحزب الوطني الديني من الائتلاف أو الدعوة لعقد انتخابات جديدة. وكان يعتقد بصورة عامة ان فرص التوصل إلى اتفاق ثان مع مصر أفضل بكثير من فرص التوصل إلى اتفاق مع الملك حسين حول الضفة الغربية.
انعقدت قمة الرباط في 26 أكتوبر بحضور زعماء الدول العربية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وطغى النزاع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية على المناقشات. أكد الملك حسين في كلمته على المسؤولية التاريخية لبلده عن مصير الضفة الغربية وحدد مرحلتين للنضال المستقبلي، هما تحرير الأراضي المحتلة والتوصل إلى تسوية بشأن المشكلة الفلسطينية. وحث أيضا الدول المشاركة على دعم الأردن في مساعيه لاستعادة الضفة الغربية ووعد بمنح سكانها فرصة تقرير مستقبلهم بمجرد انسحاب إسرائيل. ياسر عرفات أكد من جانبه، خلال الكلمة التي ألقاها، على ضرورة ان تكون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، سواء في استعادة الضفة الغربية أو تقرير مستقبلها. صوتت القمة لصالح المنظمة. وجاء قرار القمة مؤكدا ان المنظمة ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني مع التأكيد على حقه في إقامة سلطة وطنية مستقلة تقودها المنظمة. لم يكن أمام الملك حسين سوى الالتزام بقرار القمة حول التمثيل الفلسطيني، لكنه لم يكن يرغب في ان يدفع الثمن الشعب الفلسطيني، الذي يعاني اصلا من الاحتلال. لذا، أعلن أمام القمة ان الأردن سيواصل إدارته للضفة الغربية وسيواصل أيضا مساعدة ومساندة سكانها حتى التحرير، وقوبل حديثه ذاك بعاصفة من التصفيق من الزعماء العرب، لكنه على الرغم من ذلك اعتبر قمة الرباط هزيمة رئيسية له على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وشعر بالخذلان من جانب إسرائيل والتخلي من جانب العرب المعتدلين والخيانة من جانب هنري كيسنجر.