أزمة الخليج كانت لها آثارها النفسية والعاطفية والصحية أيضا على الملك حسين، فقد عانى من سلسلة من العوارض الصحية خضع إثر احداها للعلاج لبضعة أيام في المستشفى لتنظيم ضربات القلب. وفي العام التالي أشارت تشخيصات طبية لأول مرة إلى إصابته بالسرطان.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي برزت خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، لم يشهد مزاجه تحسنا يذكر. وتصف الملكة نور حالة الملك حسين في تلك الأيام في كتابها بعنوان Leap of Faith: Memories of an Unexpected Life، الذي صدر عام 2003: «كان قد بدأ ينعزل أكثر في عالمه الخاص وكأنه يحاول قطع صلته بأي شيء يذكّره آلام أزمة الخليج. وعلى غير المألوف بدأ يتجنب التعامل مع المشاكل المعقدة. كان يقول باستمرار انه يشعر بتعب بالغ، حتى إذا تعلق الأمر بحل مسائل أبوية. لم يقلص من مسؤولياته، لكنه أصبح أكثر انعزالا وابتعادا مما يحدث في العمل وفي المنزل، وهذا تطور غير مألوف لرجل درج على المشاركة بنشاط أكثر من المعتاد في كل شيء يفعله».
خرج الأردن من حرب الخليج موحدا على الصعيد الداخلي ولكن معزولا على الصعيد السياسي ومنهارا اقتصاديا. فقد أشارت تقديرات جاءت في تقرير صدر عن الأمم المتحدة إلى أن خسارة الأردن نتيجة أزمة الخليج كانت 1.5 مليار دولار أميركي عام 1990 وصلت إلى 3.6 مليار دولار عام 1991. الحجم الحقيقي لخسارة الأردن يمكن قياسه بالأخذ في الاعتبار ان إجمالي الناتج المحلي في عام 1990 كان 4.2 مليار دولار أميركي و4.7 مليار دولار عام 1991. وعلاوة على كل مشاكله الأخرى، كان على الأردن استقبال حوالي 300000 من اللاجئين الفلسطينيين ـ الأردنيين بالإضافة إلى عرب آخرين طرودا من الكويت عقب الغزو العراقي.
وواصل ولي العهد الأردني الأمير حسن باسلوب قيادي نشط التعامل مع التبعات المترتبة على أزمة الخليج على الصعيدين المالي والإنساني، إلا ان المشكلة كانت سياسية بقدر ما كانت اقتصادية، وتمثل التحدي الرئيسي في كيفية إخراج الأردن من المستنقع السياسي حتى يتم استئناف تدفق المساعدات الخارجية. اما الملك حسين، فقد واصل في مواجهة التحدي من خلال إبداء موقف أردني تعتبره الولايات المتحدة ايجابيا، إذ أيد عملية السلام برعاية الولايات المتحدة وصياغة مواقفه على أساس التفاهم الاستراتيجي الذي توصل إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق شامير عشية حرب الخليج.
وبدا شامير مؤيدا لمساعي الملك حسين الرامية إلى إصلاح علاقته بالولايات المتحدة، لكنه كان محجما عن المشاركة في عملية السلام.
انتهاء الحرب الباردة 1990-1991 والانتصار في حرب الخليج كانا بمثابة دافع قوي لمشاركة الولايات المتحدة مجددا في عملية السلام في الشرق الأوسط، وكانت الشخصية الرئيسية في ذلك المشروع وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر، الذي عرف في أوساط الساسة الأميركيين بميزة نادرة تتمثل في تعامله الجدي والصارم مع الجانبين الإسرائيلي والعربي على حد سواء. وكان الهدف الذي يطمح بيكر إلى تحقيقه هو جمع أطراف النزاع حول طاولة المؤتمر بغرض معالجة كل جوانب الصراع العربي الإسرائيلي.
وكان بيكر قد زار منطقة الشرق الأوسط عدة مرات عقب إسدال الستار على حرب الخليج الثانية، لكنه تجنب متعمدا زيارة الأردن في أول رحلتين له إلى المنطقة وكان يهدف من ذلك إلى توجيه رسالة إلى عمان مفادها انه غير راض عن موقف الأردن الأخير. فلقاؤه الأول مع وزير الخارجية الأردني طاهر المصري جرى في جنيف وليس في عمان، لكنه زار الملك حسين في العقبة خلال رحلته الثالثة إلى المنطقة في ابريل (نيسان) 1991.
جورج بوش الأب كان لا يزال يشعر بغضب بالغ تجاه الملك حسين إلى حد انه رفض عدة طلبات للعاهل الأردني للالتقاء به. غضب بيكر لم يكن اقل من غضب بوش الأب في هذا الشأن، لكنهما كانا يدركان جيدا انه لن تكون هناك عملية سلام بدون المشاركة النشطة للأردن. فدور الأردن كان مهما للغاية في إقناع الفلسطينيين بالمشاركة في المؤتمر المقترح. كان هناك عدم رضا أيضا تجاه منظمة التحرير الفلسطينية بسبب موقفها المؤيد للعراق عقب غزوه للكويت في أغسطس (آب) 1990، وبدا بيكر مصمما على استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية والسماح لشخصيات معتدلة من الأراضي المحتلة بتمثيل الفلسطينيين في المؤتمر. وكان الحل الأمثل في نظره هو مشاركة وفد أردني ـ فلسطيني، إلا ان هذا الخيار يعني حاجته إلى تعاون الأردن. غير ان بيكر كان يدرك جيدا ان الملك حسين كان على استعداد كامل لفعل أي شيء في سبيل إنهاء عزلته السياسية واستعادة ثقة الولايات المتحدة فيه. وأبلغ بيكر الملك حسين خلال لقائهما في العقبة ان واشنطن راغبة في التحرك خطوة خطوة لتنسى ما حدث ولكن فقط في حال مشاركة الأردن بصورة نشطة في المبادرة الأميركية للسلام. كان بيكر يريد أيضا ان يدرك الملك حسين جيدا ان إصلاح العلاقات بين الأردن والولايات المتحدة ستكون عملية لا تخلو من مصاعب، كما ابلغه أيضا بأنه على الرغم من الخلافات بين عمان وواشنطن فإن الولايات المتحدة «ستفعل ما تستطيع للمساعدة في إصلاح علاقات الأردن مع المملكة العربية السعودية».
وشرح الملك حسين مطولا لبيكر خلال الغداء الذي جمع بينهما مبررات موقف الأردن خلال حرب الخليج، غير ان بيكر اعتبرها جميعا غير مقنعة. رغم كل ذلك اعتبر بيكر اللقاء مشجعا لأنه العاهل الأردني أدرك تماما ان مساعدة الولايات المتحدة له تتطلب بالضرورة لعب دوره وفق الشروط الأميركية.
الأردن فضل عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يهدف إلى معالجة النزاع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية في نفس الوقت وعلى أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ «الأرض مقابل السلام»، فيما كان يرى بيكر ان الحل الأمثل هو عقد مؤتمر دولي ترعاه قوة عظمى تعقبه عملية قائمة على التفاوض في مسارين احدهما بين إسرائيل والدول العربية والثاني بين إسرائيل والفلسطينيين. إلا ان الملك حسين لم يبد ارتياحا لهذا الخيار خشية ضياع القضية الفلسطينية، وهي القضية الرئيسية، والخوف من انهيار عملية السلام برمتها. وبعد وقت قصير وافق الملك حسين على المقترح الأميركي وأعلن ان الأردن سيشارك في المؤتمر حتى إذا لم تشارك سورية، كما وافق أيضا على فكرة اسحق شامير بمشاركة وفد أردني ـ فلسطيني ومقترح بيكر بأن تشارك الأمم المتحدة بصفة مراقب.
فكرة الوفد الأردني ـ الفلسطيني المشترك كانت قد ظهرت خلال شراكة السلام بين العاهل الأردني وياسر عرفات خلال عامي 1985 و1986، إلا انها لم تعد قائمة عقب فض الأردن ارتباطه بالضفة الغربية وتطبيق النظام الديمقراطي لاحقا في الأردن. وفي لقائه معه في 14 مايو (أيار) ابلغ الملك حسين بيكر بأنه على استعداد لتشكيل وفد مشترك ولكن فقط في حال طلب الجانب الفلسطيني ذلك. وللمزيد من التحفيز أبلغ بيكر الملك حسين بأن الولايات المتحدة ستقدم للأردن قريبا مساعدات غذائية بقيمة 27 مليون دولار رغم اعتراضات الكونغرس.
ترى، لماذا وافق العاهل الأردني على لعب دوره وفق الشروط الأميركية؟
ببساطة، لأنه صدّق بيكر عندما قال له ان «حافلة السلام ستأتي مرة واحدة، وان كل من يفشل في الركوب على متنها سيجد نفسه واقفا بمفرده على الرصيف». في واقع الأمر، ظل الملك حسين في انتظار حافلة السلام منذ عام 1967، وظل مصمما منذ ذلك الوقت على ألا تفوته، إلا ان شامير هو الذي لم يكف عن الاعتراض على أجرة الحافلة وسائقها وحقوق ركابها الآخرين وسرعتها وخط سيرها ووجهتها النهائية.
الزعيم العربي الوحيد الذي كان شامير يثق فيه هو الملك حسين، إلى الحد الذي دفعه إلى المواجهة مع إدارة بوش الأب. فقد أصر شامير على ضرورة مساعدة الإدارة الأميركية للعاهل الأردني على الرغم من موقفه المؤيد لصدام حسين خلال حرب الخليج الثانية. وطبقا لوجهة نظر شامير، فإن استقرار الأردن كان عاملا حاسما وحيويا لآفاق السلام على المدى الطويل. وخلال واحدة من زيارات بيكر إلى القدس ابلغه شامير بأنه التقى سرا بالملك حسين وان إقامة نوع من الكونفيدرالية مع الأردن في المستقبل البعيد هي الحل الأرجح لمشكلة الضفة الغربية. يضاف إلى ذلك ان شامير استخدم نفوذ إسرائيل في كل من مجلسي النواب والشيوخ لتخفيف حدة الموقف التأديبي تجاه العاهل الأردني بسبب موقف بلده من حرب الخليج. بعض الأميركيين لم يكن على استعداد للنسيان أو الصفح، إلا ان إسرائيل وأصدقاءها في واشنطن لم يعطوا هؤلاء فرصة.
ذلك الموقف الغريب من جانب شامير كان استمرارا منطقيا للقائه مع العاهل الأردني في آسكوت خلال عطلة نهاية أول أسبوع في يناير (كانون الثاني) 1990، وعلى وجه التحديد يومي 4 و5 يناير. فقد أصر شامير خلال محادثاته مع الأميركيين على ان موقف الملك حسين خلال حرب الخليج كان مبررا وان ذلك الموقف كان مقبولا من جانب إسرائيل. ويقول المحامي والقيادي في حزب الليكود دان ميريدور انه خلال لقاء له مع بيكر وفريق عملية السلام بعد وقت قصير من نهاية حرب الخليج حثهم على زيارة العاهل الأردني والعمل على إصلاح العلاقات، إلا ان الأميركيين ردوا عليه بصورة حادة: «من أنت؟ محامي الملك حسين؟».
على الصعيد الداخلي في الأردن آنذاك، لم يكن الملك حسين في حاجة إلى مؤيدين لأن سياسة تطبيق النظام الديمقراطي أكسبته تأييدا واسع النطاق من كل ألوان الطيف السياسي في الاردن، إلا ان المشاركة في عملية السلام مع العدو لم تجد تأييدا مماثلا. ولإعطاء السلام فرصة، اتخذ العاهل الأردني في يناير (كانون الثاني) قرارا بتعيين طاهر المصري، وهو أردني من أصل فلسطيني، رئيسا للحكومة الأردنية بديلا لمضر بدران الذي أبدى وبعض وزرائه عدم رغبتهم في تفاوض الأردن مع إسرائيل. وكان تعيين رئيس للوزراء من أصل فلسطيني يهدف فيما يبدو إلى إشاعة مناخ من الثقة والوحدة الوطنية، وركز الملك حسين في خطاب التعيين الذي وجهه إلى طاهر المصري على التزام الأردن بالتوصل إلى تسوية سلام عبر التفاوض وبدعم المساعي الدولية الرامية إلى حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي سلميا. إلا ان تنظيم «الإخوان المسلمين» استمر في موقفه المعارض لسياسة الملك حسين للسلام وطرح داخل البرلمان مقترحا بسحب الثقة من الحكومة الجديدة، كما رفض أيضا المشاركة في «المؤتمر الوطني» الذي عقده العاهل الأردني لحشد التأييد الشعبي اللازم لدعم سياسته للسلام.
سورية شكلت عقبة أخرى كان يجب إزالتها من طريق مؤتمر السلام، وقرر الملك حسين من جانبه إجراء محادثات مباشرة مع حافظ الأسد، علما بأن العلاقة بين الطرفين كانت في واقع الأمر جيدة في الظاهر فقط. بيكر كان يشعر بالارتياب تجاه الأسد، وكان يرى ان ثمة فرصة لاحتمال مشاركة الملك حسين من جانب واحد، وكان أيضا يرغب في الحصول على التزام من الأردن للمشاركة في المؤتمر بصرف النظر عن مشاركة سورية. الملك حسين طمأن بيكر وأكد له ان زيارته إلى سورية ولقاء الأسد لأسباب شكلية فقط، على الرغم من ان بيكر كان حذرا، فإنه رأى أن ذلك كان سببا كافيا لإنهاء عزلة الملك حسين السياسية والاقتصادية.
توجه الملك حسين إلى اللاذقية في 19 أغسطس (آب) برفقة رئيس وزرائه، طاهر المصري، وأبلغا الأسد بأن بيكر أصر على تشكيل وفد أردني ـ فلسطيني مشترك وانهم وافقوا على ذلك. وأبلغوه أيضا بأن الأردن يفضل ان يكون هناك وفدان منفصلان إلا ان ذلك غير مقبول للولايات المتحدة وإسرائيل، وفي نهاية اللقاء طلبا من الأسد تفهم موقف الأردن، ووافق الأسد على مضض.
بموافقة الأسد، بدأت المهمة الشاقة المتمثلة في تشكيل الوفد المشترك ووقع الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق بشأن أوجه التنسيق والتعاون. تقرر تعيين الدكتور كامل أبوجبر رئيسا للوفد المشترك الذي تشكل من 28 عضوا نصفهم من الفلسطينيين ونصفهم الآخر من الأردنيين، وترأس الوفد الأردني الدكتور عبد السلام المجالي، فيما ترأس الوفد الفلسطيني الدكتور حيدر عبد الشافي وكان ضمن قيادة الوفد أيضا الدكتور فيصل الحسيني والدكتورة حنان عشراوي متحدثة باسم الوفد.
خطاب الدعوة الرسمي للمشاركة في مؤتمر مدريد طمأن الأردن على ان المفاوضات ستكون قائمة على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 وان هدف المؤتمر هو التوصل إلى سلام شامل.
وفي خطابه إلى المؤتمر الوطني الأردني في 12 اكتوبر (تشرين الأول) قال الملك حسن مخاطبا الحضور ان السلام يتطلب شجاعة لا تقل عن الشجاعة اللازمة لخوض الحرب وشجاعة لقاء الخصم ومواجهة الصعاب ودفن الأوهام والتغلب على العقبات والدخول في حوار بغرض هدم جدران الخوف والشكوك. وأكد في معرض كلمته ان المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لدفع إسرائيل لقبول مبدأ الأرض مقابل السلام.
وإلى جانب السعي إلى التوصل إلى حل للمشكلة الفلسطينية كان لدى الأردن عدة مصالح في ضمان سلامة المفاوضات، وعلى وجه التحديد في الجوانب المتعلقة بالأمن والبيئة والمياه والتنمية الاقتصادية.
افتتح مؤتمر مدريد للسلام في 30 اكتوبر (تشرين الأول) 1991 برعاية كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة كمراقب، وشاركت وفود من كل أطراف النزاع.
كان للأردن هدفان أساسيان في المؤتمر، أولا بدء التفاوض بغرض التوصل إلى حل بشأن نزاعه مع إسرائيل، وثانيا تمكين الفلسطينيين من إجراء مفاوضات منفصلة مع إسرائيل بشأن مستقبل الأراضي المحتلة، بمعنى آخر، كان الأردن يريد ان يتوصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى تسوية النزاع بينهما ولكن ليس على حسابه. وجاء واضحا في كلمة كامل أبوجبر أمام المؤتمر ان الأردن يهدف من المشاركة في المؤتمر إلى التفاوض بغرض التوصل إلى سلام دائم قائم على أساس الشرعية الدولية، وركز أبوجبر على قرارات مجلس الأمن التي تجسد مبدأ عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
اما اسحق شامير فقد ألقى كلمة عكست نظرته الضيقة والمحدودة للنزاع العربي ـ الإسرائيلي وصوّر إسرائيل كضحية لعدوان العرب رافضا الاعتراف بحدوث أي تطور في موقف الفلسطينيين تجاه إسرائيل. قال شامير في كلمته أيضا ان كل العرب يريدون دمار إسرائيل وأن الفارق الوحيد بينهم يكمن في الطرق التي تؤدي إلى هذا الدمار. وبإصراره في كلمته أمام المؤتمر على ان الأرض ليست هي السبب الأساسي للنزاع بين العرب وإسرائيل، اقترب شامير من نسف أساس المؤتمر المتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومبدأ الأرض مقابل السلام.
كلمة الدكتور حيدر عبد الشافي أمام المؤتمر تضمنت هدفا رئيسيا صادق عليه قادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وهو إقناع الرأي العام الإسرائيلي بجدية التزام الفلسطينيين بالتعايش السلمي، وتركزت الرسالة الأساسية في كلمته في إنهاء الاحتلال وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، مؤكدا انهم سيسعون بدأب إلى تحقيق هذا الهدف إلى ان تقوم الدولة الفلسطينية.
يمكن القول ان الأردن نجح في مؤتمر مدريد في التمييز بوضوح بين الهوية الوطنية الأردنية والهوية الوطنية الفلسطينية ونجح أيضا في إضعاف فكرة الأردن كـ«وطن بديل» للفلسطينيين. تبعا لذلك، بات الأردن حرا في صياغة دبلوماسية السلام الخاصة به تمشيا مع الإجماع العربي العام بدلا عن تحديه، مثلما فعل السادات قبل حوالي عشر سنوات، إلا ان أداء الملك حسين في مجال صنع وصياغة السياسات بات يتأثر بصورة متزايدة بحالة الأرق وبعض المشاكل الصحية الأخرى في أغسطس (آب) 1992، ونصحه أطباؤه بالتوجه إلى «مايو كيلنيك» في مينيسوتا، حيث خضع للعلاج وأجريت له جراحة وعاد إلى الأردن أواخر سبتمبر (أيلول).
لم يحدث أي تقدم يُذكر في عملية السلام سواء على المسار الإسرائيلي ـ الفلسطيني أو الإسرائيلي ـ العربي خلال وجود حزب الليكود في السلطة في ذلك الوقت، إلا ان الموقف الإسرائيلي بدأ يتغير فعليا، على صعيد المسار الإسرائيلي ـ العربي على الأقل، عقب وصول حزب العمل إلى السلطة غداة انتخابات يونيو (حزيران) 1992.
على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي اتسم موقف الجانب الإسرائيلي بالاستمرارية ولم يبدأ تغيير ملموس عقب صعود حكومة حزب العمل إلى السلطة بقيادة رابين، وتبعا لذلك اتسمت المحادثات الرسمية في واشنطن بالبطء، الأمر الذي قاد كل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى البحث عن قناة خلفية، وهو قرار كان بمثابة ثورة في السياسة الخارجية الإسرائيلية مهدت الطريق إلى اتفاق أوسلو.
جرت المحادثات بين ممثلي الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلف جدار سميك من السرية في العاصمة النرويجية، وسارت المحادثات في مسار مواز لمحادثات واشنطن ولكن بدون علم المفاوضين الرسميين عن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي واقع الأمر أصدر عرفات تعليماته للوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن بتبني مواقف لا مساومة حولها بغرض إنجاح الاتفاق السري في أوسلو.
اتفاق أوسلو الأول جرى توقيعه في البيت الأبيض في 13 سبتمبر (أيلول) 1993 بمصافحة بين عرفات وإسحق رابين، وتكون الاتفاق من جزئين الأول يتعلق بتبادل الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والثاني أطلق عليه «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي في غزة وأريحا».
اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني، واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية من جانبها بحق إسرائيل في العيش في سلام وأمن، كما اتفق الطرفان على حل كل مشكلاتهما المعلقة بالطرق السلمية.
ألجمت الدهشة والمفاجأة الملك حسين وحكومته والوفد الأردني في محادثات واشنطن على حد سواء، وقال محمود عباس (أبومازن)، نائب عرفات، انه حاول ثلاث مرات التحدث مع الملك حسين على صعيد خاص لكنه فشل، الأمر الذي اضطره للتوجه إلى عمان في 17 اكتوبر 1992 لتوضيح الأمر للملك حسين من الألف إلى الياء. وأورد أبومازن في مذكراته حول لقائه مع العاهل الأردني لتوضيح ما جرى: «لا أعرف إذا كان الملك حسين قد قبل الأعذار التي سقتها أم لا، ولكن كان له كل الحق في لهجة اللوم والمعاتبة التي أبداها». عرفات أيضا كان قد طلب لقاء عاجلا مع الملك حسين في أواخر أغسطس (آب) لإبلاغه بأن منظمة التحرير الفلسطينية توصلت إلى اتفاق سلام مؤقت مع إسرائيل، وهو خبر أثار قلقا وإحباطا لدى العاهل الأردني، فهو لم يكن أصلا يثق في عرفات، إلا ان أسوأ الشكوك لديه قد تأكدت اثر علمه بأمر الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
لم يكن لدى الملك حسين بديل آخر سوى القبول بالاتفاق، فقد سبق ان قبل منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب الفلسطيني ولم يعد بإمكانه بعد ذلك الاعتراض على الاتفاق الذي توصلت إليه مع الحكومة الإسرائيلية. الجانب الايجابي للاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل تمثل في تمهيد الطريق لتحقيق تقدم على المسار الأردني ـ الإسرائيلي، فعرفات كان قد كسر مسبقا حاجز التوصل إلى سلام مع الدولة اليهودية، وهو واحد من المحرّمات العربية، وبات الآن بوسع الملك حسين المضي قدما في هذا الطريق بصورة علنية.