الأمر الجدير بالملاحظة هو ان الأردن أصبح طرفا أساسيا في الدبلوماسية العربية، على الرغم من أنه حتى غداة حرب يونيو (حزيران) لم يكن يحظى بوزن يذكر. ترى، كيف تمكنت دولة صغيرة وفقيرة وغير مهمة من ان تشغل حيزا مهما في السياسة الإقليمية والدولية؟
تكمن الإجابة إلى حد كبير في شخصية وسياسات الملك حسين. فقد كان زعيما قويا ونشطا وصاحب كاريزما مميزة اجتذب اهتمام القوى الكبرى من خلال الدأب وقوة الشخصية. ومكّنت الدبلوماسية الشخصية الفريدة للملك حسين الاردن من فرض نفوذه في الشؤون الخارجية على نحو اكبر من قوته الحقيقية. فالملك حسين كان الزعيم العربي الوحيد الذي ارتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، فضلا عن العلاقة مع إسرائيل، وهذه من المحرمات في ساحة السياسة العربية. كما انه وضع نفسه بعناية وحذر في موقع بين العالم العربي والولايات المتحدة وإسرائيل.
لا شك في ان ذلك الأمر كان يتطلب توازنا صعبا، إلا ان الملك حسين نجح في استمرار هذا التوازن. وكان الزعماء العرب الآخرون، بمن في ذلك عبد الناصر، يعرفون عن اتصالات الملك حسين مع إسرائيل فقط ما اختار هو إطلاعهم عليه. فعبد الناصر كان في حاجة إلى الملك حسين كقناة مع واشنطن والقدس، كما ان الملك حسين واصل علاقته بإسرائيل على نحو لم يؤد إلى عزله عن العرب مثلما فعل أنور السادات في النصف الثاني من عقد السبعينات، فضلا عن انه لم يدفع الثمن الذي دفعه السادات عندما طردت مصر من الجامعة العربية اثر إبرامه اتفاقا منفصلا مع إسرائيل.
وبصورة عامة، نجح الملك حسين في إيجاد شبكة من العلاقات الثنائية، وكان يعرف وحده أين يقف مع كل من واحد من شركائه. وفيما كانت إسرائيل قبل عام 1967 في حاجة إلى الاردن، انقلب الوضع عقب حرب يونيو (حزيران) 1967 تماما، وبات الملك حسين في حاجة ماسة إلى استعادة أراضيه من إسرائيل. وعلى الرغم من العقبات التي اعترضت طريقه، لم يشعر الملك حسين باليأس إزاء التوصل إلى تسوية سلمية. فقد طلب اتصالا مباشرا مع إسرائيل على أعلى المستويات. لم تكن لدى ليفي اشكول رغبة في ان يلتقي شخصيا مع الملك حسين، إلا ان الحكومة الإسرائيلية وافقت على إرسال وزير خارجيتها، ابا ايبان، للقاء الملك حسين في العاصمة البريطانية. وتلقى ابا ايبان تعليمات بالتأكيد على نقطة محددة تتخلص في انه سيطرح فقط مقترحات خاصة دون ان تكون هذه المقترحات مصادق عليها من جانب الحكومة الإسرائيلية.
جرى اللقاء في منزل الدكتور هيربيرت في ضاحية «سينت جونز وود» بالعاصمة البريطانية في 3 مايو (أيار) 1968. رافق أبا ايبان في ذلك اللقاء الدكتور هيرزوغ، وكان بصحبة الملك حسين سكرتيره الخاص زيد الرفاعي. ولعب زيد الرفاعي دورا رئيسيا خلال العقدين التاليين إلى جانب صديقه الملك حسين في إجراء المحادثات السرية مع المسؤولين الإسرائيليين، وكان بمثابة المستشار والمنظِم والمفاوض. لذا، تستحق أفكار ووجهات نظر الرفاعي حول تلك المحادثات اهتماما جديا.
كان الرفاعي يعتقد ان فهم سير الأحداث على مدى العقود الثلاث التالية يتطلب في المقام الأول فهم شخصية الملك حسين. فقد كان الملك حسين بحق رجل سلام يمقت الحرب. كان ذكيا وعمليا وبراغماتيا على نحو كاف جعله يدرك ان النزاع العربي الإسرائيلي لا يمكن التوصل إلى حل بشأنه من خلال العنف وإنما من خلال التفاوض والاتفاق بين الشعبين من اجل العيش في سلام. كانت تلك هي الأرضية التي انطلق منها الملك حسين قبل وبعد حرب يونيو (حزيران).
خسارة القدس أثرت عليه أكثر من أي شيء آخر. فقد كانت تحت السيادة العربية لكنها احتلت على مرأى منه. لذا، فإن استعادتها كانت ذات أهمية قصوى لديه، وهنا أدرك مجددا ان تحقيق هذا الهدف لا يمكن ان يتأتى من خلال الحرب، وكان يشعر بقوة انه من خلال المفاوضات والاتفاق فقط يمكن تحقيق انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية والقدس الشرقية. الرفاعي يعتقد ان الملك حسين كان يشك منذ البداية في ان خوض إسرائيل حرب يونيو (حزيران) كان دفاعا عن نفسها من خطر هجوم عربي وشيك، أو الحصول على اعتراف من الدول العربية. بدأ العاهل الأردني يشك في ان إسرائيل تعتزم التوسع في كل الاتجاهات، وكان أكثر ما أثار قلقه هو رد إسرائيل على عرض تقدم به خلال اللقاءات الأولى مع الإسرائيليين عقب حرب يونيو (حزيران) عندما اقترح عليهم مرارا توقيع اتفاق سلام رسمي مقابل انسحاب إسرائيل الكامل من الضفة الغربية والقدس الشرقية.
كان الملك حسين يدرك انه كان بصدد مخاطرة كبيرة، لكنه كان على استعداد على تغيير مقترحه وقبول حكم شعبه والأمة العربية والتاريخ. كان يعتقد أيضا ان العرض الذي تقدم به كان بمثابة تضحية كبيرة لأنه يعني انتهاك واحد من المحرمات العربية. وشعر بالصدمة عندما جاء الرد على عرضه بأن إسرائيل على استعداد لتوقيع اتفاق سلام مع الاردن ولكن فقط إذا وافق الاردن على التنازل عن أجزاء من الضفة الغربية وكل القدس الشرقية لإسرائيل.
المسألة التي طرحت خلال أول لقاء للرفاعي من الإسرائيليين تلخصت في كيفية استغلال حرب يونيو (حزيران) كمدخل للتوصل إلى سلام. وكان واضحا لديه منذ البداية ان الأمر لن يكون صعبا على نحو استثنائي. فالطرفان راغبان في التوصل إلى سلام، وأن واحدا من الطرفين يريد ضم القدس وبعض أراضي الضفة الغربية، فيما الطرف الآخر لم يكن على استعداد حتى لمجرد النظر في التنازل عن أي أراض. كان ذلك طريقا مسدودا منذ البداية. ويمكن القول ان النية في التوصل إلى سلام كانت متوفرة لدى الطرفين، إلا ان الملك حسين كان مصرا بقوة على انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي التي استولت عليها في حرب يونيو (حزيران)، إلا ان الإسرائيليين من جانبهم لم يكونوا على استعداد لقبول ذلك.
ويمكن القول هنا ان ادعاء الرفاعي ان الأطماع التوسعية الإسرائيلية وتعنتها الدبلوماسي عقب الحرب تدعمه تماما سجلات الوثائق الإسرائيلية. طبقا للسجلات الإسرائيلية حول اللقاء الأول، قال ابا ايبان انه لم يأت للتفاوض أو تقديم التزامات وإنما لتوضيح مسألتين، الأولى معرفة ما إذا كان الاردن قادر على التفاوض وتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل على نحو منفرد دون الاعتماد على أي دولة مجاورة أخرى، والثاني معرفة ما إذا كان الملك حسين قادر على ضمان وقف (النشاطات الإرهابية). جاء رد الملك حسين على المسألة الأولى بأنها ليست مستحيلة، لكنه كان يريد ان يعرف أولا قبل اتخاذ هذه الخطوة نوع التسوية التي كانت إسرائيل على استعداد للتوصل إليها. وجاء رد ابا ايبان مراوغا على هذه النقطة، إذ قال ان حكومته لا ترى سببا لعدم التوصل إلى قرار ملزم إلى أن تقتنع بأن لديها شريكا عربيا جادا لصنع السلام. أوضح ابا ايبان أيضا ان هناك ثلاثة اتجاهات. أولا من يريد الاحتفاظ بكل الأراضي الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن، وثانيا هناك من يفضل التوصل إلى تسوية مع عرب فلسطين، واتجاه ثالث يفضل التوصل إلى سلام مع الاردن على أساس حدود جديدة آمنة ومتفق عليها. وحتى أصحاب الاتجاه الأخير، كما أوضح، لديهم أربعة شروط هي أن لا عودة إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وأن تأخذ التغييرات في الاعتبار الاحتياجات الأمنية والارتباط التاريخي، وجعل المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الاردن منزوعة السلاح، ورابعا، بقاء القدس عاصمة موحدة كعاصمة لإسرائيل.
تجاهل الملك حسين الشروط المحددة، واقترح ان يلتقوا برعاية غونار جارينغ، وسيط الأمم المتحدة، وطلب أيضا التشاور مع القاهرة قبل المضي قدما في إجراء مفاوضات منفصلة. وكان الرفاعي أكثر تشددا وبدا قلقا من أن الملك حسين لم يرد على جوهر ما طرحه ابا ايبان. وقال الرفاعي لأبا ايبان: «كل الأفكار التي طرحتها تعني استسلام العرب وليس التوصل إلى اتفاق». وكان واضحا ان موقف الاردن كان قائما على استعادة أراضي 4 يونيو (حزيران) مع تغييرات طفيفة وعلى أساس متبادل، فضلا عن التأكيد على الوضع العربي، وليس الإسلامي فقط، للقدس، بالإضافة إلى ان أمن إسرائيل يكمن في التوصل إلى تسوية سلمية كاملة وليس طبوغرافية. وكانت آخر كلمات الملك حسين حينها قد أكدت على ضرورة الحصول على موافقة مصرية كافية كي تجرى مفاوضات مفتوحة.
بادر هيرزوغ بعد يومين بالترتيب لإجراء لقاء للمتابعة مع الرفاعي. وأكد الرفاعي في اللقاء الثاني على ان موافقة القاهرة أمر حاسم بالنسبة لهم لأنهم مقيدون بقرارات مؤتمر القمة العربية الذي عقد في العاصمة السودانية الخرطوم بعد حرب يونيو (حزيران): لا اعتراف ولا تفاوض ولا تصالح مع إسرائيل (اللاءات الثلاث). خلال الاجتماع التالي للرفاعي مع هيرزوغ في لندن يومي 19 و20 يونيو (حزيران) جرت ترتيبات لقيام الملك حسين بزيارة إلى خليج العقبة في 8 أغسطس (آب) على متن سفينة. إلا ان طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي أغارت مرتين على معسكرات لحركة «فتح» بالقرب من السلط على الضفة الشرقية وأوقعت خسائر كبيرة وسط المدنيين وأصابت أربع سيارات إسعاف. ووصلت بعد يومين برقية من الدكتور هيربيرت أوضح فيها ان المشاورات قد ألغيت بسبب الأعمال العدائية.
وخلال زيارة له إلى لندن، قابل الملك حسين طبيبه وناقش مسألة إجراء لقاء آخر هناك. أوضح الملك حسين في بداية الأمر انه لن يقابل هيرزوغ إلا إذا كان لديه جديد، لكنه عدل عن رأيه فيما بعد، وأبلغ الرفاعي هيرزوغ بأن الملك حسين يريد مقابلته يوم 24 أغسطس الساعة السادسة مساء بمنزل هيربيرت. التقى هيرزوغ والرفاعي مساء ذلك اليوم قرابة منتصف الليل وقرأ هيرزوغ ملاحظاته حول موقف الملك حسين وتسلم تعليقات الرفاعي، وحضر هيربيرت كل تلك اللقاءات. قال الملك حسين ان الهجمات الإسرائيلية، مثل التي استهدفت الكرامة والسلط، لن تحل مشكلة بل ستجعل حركة «فتح» أكثر قوة، وقال في هذه السياق: «هل يعتقد الإسرائيليون انهم من خلال استعمال القوة سيحصلون على قبول من العرب؟».
النتيجة العملية التي خرجت بها المناقشات التي جرت في لندن خلال شهري يونيو (حزيران) وأغسطس (آب) تمثلت في القرار الذي اتخذ بعقد لقاءات على مستوى عال في لندن نهاية سبتمبر (أيلول). وعلى الرغم من عدم التوصل إلى نتائج ملموسة من تلك اللقاءات مع الملك حسين، فإنها كانت بالغة الأهمية لدى إسرائيل، ذلك ان ابا ايبان أشار في المجلد الثاني من مذكراته إلى أهمية تلك اللقاءات والسمات الفريدة للملك حسين: «مجرد انعقاد تلك المحادثات أعطى إسرائيل إحساسا بأن النزاعات العربية ـ الإسرائيلية ليست بالضرورة غير قابلة للتسوية والمصالحة. فهناك رجل دولة عربي يتحدر أصله من النبي محمد. قاد بلدا عربيا لفترة طويلة ويعبر عن اعتقاده، ولو على مضض، في ان إسرائيل جزء ثابت من الشرق الأوسط. كان يحرص باستمرار على التعبير عن اعتزازه كعربي، لكنه كان أيضا يحترم انتماءات محاوريه الإسرائيليين. لقاءاتي معه والتمعن في بلاغته وأسلوبه في الكلام واختياره كانت بالنسبة لي ترياقا ضد نظرية دايان المعتمة التي تقول ان النزاع بات مكتوبا للأبد كقانون للعلاقات العربية الإسرائيلية.... الانطباع الذي خرجت به من اللقاءات مع الملك حسين هو انه يتعامل مع محاوريه الإسرائيليين بحد أقصى من الاحترام وحد أدنى من الالتزام».
كان الملك حسين صارما باستمرار في صياغة دوره، وكان يعتقد ان لا خيار أمام إسرائيل والعرب سوى التعايش في نهاية الأمر. وكان في بعض الأحيان يفكر في احتمالات مبادرة سلام فردية من جانب الاردن، ولكن فقط في حال نجاحه في عودة حكم العرب في الأراضي المحتلة. ظل شعاره باستمرار ان بوسع إسرائيل الاحتفاظ بالأرض أو السلام ولكن ليس كلاهما معا. وهذا بالطبع لم يكن بعيدا عن ان يصبح إجماعا دوليا، وكان الملك حسين أول زعيم عربي يجعله كذلك. لم يعد هيرزوغ متأكدا من جدوى وقيمة اللقاءات مع الجانب الأردني. ومن أول الأشياء التي قالها هيرزوغ للملك حسين في لقائهما بتاريخ 22 أغسطس (آب) ان لقاءاتهما، من وجهة نظره لم تكن مضيعة للوقت، لكنها لم تسفر عن أي تقدم فيما يبدو.
ثمة سؤال يطرح نفسه هنا: لماذا استمر الملك حسين في الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي ما دام يدرك بوضوح انه لا يبدو في الأفق شيء ملموس من الجانب الإسرائيلي؟ الإجابة: الخوف والأمل. الخوف من ان تصبح السيطرة في إسرائيل في يد المتطرفين الذين قد يحاولون إطاحة الملك حسين، وربما يحاولون أيضا الاستيلاء على المزيد من الأراضي في الضفة الشرقية لمملكته، مثل الجبال المحيطة بالكرامة. كان الملك حسين يدرك تماما انه ليس لدى العرب خيار عسكري، وكان يشعر أيضا بأنه ليس لدى الإسرائيليين رغبة في السلام، وتوصل إلى نتيجة تتلخص في ان إسرائيل تريد لأسباب دينية وثقافية الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها وتحتاج إلى أراض إضافية بغرض تعزيز موقفها، وكانت (مكافحة الإرهاب) سببا في المزيد من التوسع من جانبها.
كان الملك حسين يشعر في ذلك الوقت بقلق إزاء شائعات تحدثت عن محاولة إسرائيلية وشيكة للاستيلاء على أراض على الضفة الشرقية لنهر الاردن كان يستخدمها بعض الفدائيين الفلسطينيين، وذلك الشعور بالقلق دفعه إلى مطالبة السفير الأميركي هاريسون سايمز الحصول على بيان من أعلى سلطة في الحكومة الأميركية توضح فيها موقفها تجاه استقلال وسلامة أراضي الاردن. لم تأبه واشنطن كثيرا بالشائعات التي أثارت قلق الملك حسين، وأكد له الأميركيون مجددا التزامهم بسلامة الاردن، لكنهم رغم ذلك لم ينجحوا في تبديد مخاوف الملك حسين، الذي حاول من خلال الاستمرار في اتصاله مع الإسرائيليين عرقلة وإحباط أي توغل إسرائيلي محتمل يستهدف أراضيه. كان يأمل الملك حسين أيضا في ان تنفذ الولايات المتحدة وعدها في نهاية الأمر وتضغط على إسرائيل بغرض حملها على الانسحاب من الضفة الغربية. وكان في الواقع الشخص الوحيد وسط النخبة الأردنية الذي لم ييأس من دور للولايات المتحدة.
اما في مواجهة إسرائيل، فلم يكن في يد الملك حسين أوراق يضغط بها أو شيء ملموس يقدمه بخلاف السلام، لكنه رغم ذلك ظل يحدوه الأمل باستمرار في النجاح نهاية المطاف في إقناع إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق سلام مع الاردن على أساس حدود عام 1967. كان الأميركيون على اطلاع بما يجري في المحادثات الثنائية من خلال اسحق رابين، رئيس هيئة الأركان السابق والسفير الإسرائيلي في ذلك الوقت لدى الولايات المتحدة.
حدث لرابين تحول مثير للاهتمام من الخيار الفلسطيني إلى ما يسمى بالخيار الأردني. ففي أعقاب حرب يونيو (حزيران) نصح رابين ليفي اشكول بأن الحل الوحيد الممكن بالنسبة للضفة الغربية، من وجهة النظر الأمنية، هو إقامة دويلة فلسطينية. وبنهاية العام رجحت كفة التوصل إلى اتفاق مع الاردن وتحول رابين إلى الخيار الأردني وحاول ان يعمل على دفع هذا الخيار كسفير لدى واشنطن.
عومل رابين باحترام بالغ في واشنطن لأنه كان عسكريا متميزا سجل انتصارا حاسما على العرب، على العكس من الأداء الضعيف لجنرالات أميركا في فيتنام. خلال حديث حول قضايا أخرى تتعلق بـ4 يونيو مع عدد من كبار المسؤولين الأميركيين، ألمح رابين إلى مسألة محادثات السلام الأردنية الإسرائيلية. وقال رابين ان عبد الناصر أعطى الملك حسين الضوء الأخضر في هذا الشأن. وقال عبد الناصر في هذا السياق ان الملك حسين لا يستطيع إبرام اتفاق يؤثر على القدس دون موافقة العالم العربي. ولا بد من الإشارة هنا إلى ان لدى إسرائيل معلومات جيدة حول تفكير الملك حسين ومن هم حوله، إلا ان ثمة التزاما بعدم مناقشة هذا الأمر بالتفصيل، لذا كان رابين خاضعا للقيود المفروضة في هذا الجانب. ابلغهم بالطبع بان الملك حسين على استعداد للتوصل إلى اتفاق سلام من خلال مفاوضات سرية ومباشرة تحت غطاء مساعي جارينغ. إلا ان ثمة جدلا داخل إسرائيل حول ما إذا يمكن الاعتماد على الملك حسين. سياسة الحكومة كانت قائمة على استمرار مساعي وجهود جارينغ مع مواصلة محاولة إحراز تقدم سرا مع الملك حسين. توفير الغطاء لهذه المحادثات السرية كان ضروريا إذا أخذنا في الاعتبار الخلافات الأساسية بين الملك حسين وجمال عبد الناصر.
إسرائيل كانت تدرك نوع التسوية التي كان يريدها الملك حسين، وكان هناك أمل في التوصل إلى تسوية مع الاردن. لم تعد هناك أحاديث حول إطاحته، ووافق كل الأعضاء الرئيسيين في الحكومة الإسرائيلية على «تكييف كل شيء كي يتماشى مع هذه السياسة».
مكجورج بندي، المستشار الخاص للرئيس ليندون جونسون، كان لديه وجهة نظره أيضا حول كيفية تفكير الملك حسين. فقد أعرب بندي عن اعتقاده في ان الملك حسين استعاد بعضا من الثقة التي كان يفتقر إليها خلال صيف عام 1967. أكد أيضا الملك حسين على ضرورة إحراز تقدم باتجاه حل عادل بنهاية العام وأهمية ان يكون هناك شيء ملموس قبل ان يواجه الفدائيين الفلسطينيين بصورة مباشرة. بندي، الذي كان قد عاد لتوه من إسرائيل، التقى الملك حسين وحثه على عدم انتظار الآخرين كي يحلوا له مشكلته والاتجاه بدلا عن ذلك إلى التعامل معها بصورة مباشرة مع شخص مثل موشيه دايان، وزير الدفاع. أبلغ بندي أيضا الملك حسين بتحذير وزير الدفاع دايان من ان هجمات الفدائيين إذا استمرت على إسرائيل، فإنها ربما تضطر لتوجيه ضربة للاردن مرة أخرى، الأمر الذي من المحتمل ان يؤدي إلى المزيد من عمليات النزوح. الملك حسين كان يستخدم كلمة «عادل» على نحو متكرر بنفس الطريقة التي يستخدم بها الإسرائيليون كلمة «سلام». وكان أيضا يكرر لبندي وصف إسرائيل بأن لها ثلاثة وجوه: الوجه المتطرف الذي سعى إلى سقوط الاردن واحتلال إسرائيل للضفة الغربية، والوجه الذي يبدو معقولا ويريد ان يكون هناك كيان فلسطيني، والوجه المعتدل. وقال الملك حسين في ذلك السياق ان الوجه الذي ظل يحاول العثور عليه هو وجه الاعتدال. النزعة المعتدلة للملك حسين ساعدته في كسب أصدقاء ومعجبين داخل إسرائيل مثل غولدا مائير، التي التقته وجها لوجه في باريس عام 1965 عندما كانت وزيرة للخارجية الإسرائيلية في حكومة بن غوريون.
وفي أغسطس (آب) 1968 زار ثيودور سورينسين، المستشار السابق للرئيس كينيدي، منطقة الشرق الأوسط، وبواسطة سورينسين بعثت غولدا مائير برسالة إلى الملك حسين جاء فيها: «أتمنى ان تكون جلالتكم على علم بأن إسرائيل أفضل أصدقائك في الشرق الأوسط». وعندما تلقى الملك حسين تلك الرسالة ابتسم وقال: «البعض يظن انني أفضل أصدقاء إسرائيل في الشرق الأوسط».