مقال اخر طويل بقلم الدكتور محي الدين عميمور:
http://www.raialyoum.com/?p=321444كان المفروض أن أقوم اليوم بإعداد حديثي الرابع عن حرب أكتوبر لولا أن مأساة المشاعر المقدسة فرضت نفسها على تفكيري، فلم أستطع الالتفات لأي اهتمام غيرها، وساعدني مرور عدة أيام على أن أتخلص من حالة الألم الغاضب التي كنت أشعر بها، وآمل أن أتناول الأمر، في حدود الممكن بشريا، بهدوء وبرودة أعصاب، وبعيدا عن التهريج الذي يخل بقدسية الموت ورهبة المكان وحرمة الفريضة.
وبداية، سيكون من التجاوز التسرع باتهام الإجراءات الأمنية التي قيل أنها نتجت عن مرور وفد أميري، اللهم إلا إذا ثبت ذلك بتحقيق نزيه، لأن المعروف بأن هناك ممرّا خاصا للشخصيات السامية التي تتجه لرمي الجمرات، فهذا أولا وقبل كل شيئ ضرورة أمنية واضحة تلتزم بها الدولة.
وإذا كان من الحماقة أن يحاول بعضهم، دولا وأفرادا، تصفية الحسابات مع السعودية والتفنن في الإساءة للمملكة فمن الحماقة أيضا أن يحاول البعض إخلاء مسؤولية من تولوا عملية التنظيم منذ بداية الاستعداد لحج هذا العام، وهو عبء مشترك بين الرياض وكل العواصم الإسلامية.
والادعاء الخطابي بأن المأساة هي أمر عرضيّ طرحٌ يمكن أن يكون مقبولا لو كان الحادث هو الأول من نوعه، كما أن تحميل المولى عز وجل مسؤولية سقوط الضحايا بالقول أنه اختارهم شهداء هو أمر مثير للسخرية، ولا يقل استهانة بالعقول عن الادعاء بأن رافعة الحرم “سجدت” لله في البيت الحرام في الشهر الحرام.
ولا مجال للمزايدات الرخيصة التي تدعي أن زيدا يمكن أن ينظم عملية الحج خيرا من عمرو، أو أن ما حدث عقوبة إلهية على عاصفة الحزم.
هذا كله عبث طفولي ومساس معيب بسمعة الإسلام وبكرامة المسلمين، والرجولة تقتضي وقفة موضوعية تضع كل شيئ في نصابه، بعيدا عن التهريج والنفاق واللعب بالعواطف والتنابذ بالألفاظ وتوزيع الاتهامات يمينا ويسارا بخلفيات تفوح منها رائحة السياسة وتصفية الحسابات.
وأتذكر أنني، منذ عدة سنوات،عدتُ من الأراضي المقدسة بعد أداء فريضة الحج بحجم كبير من الإرهاق خفف منه الرضا بأداء الفريضة، ولكنني عدت أيضا بانطباعات متناقضة، كتبتها آنذاك ولكن فائدتها ذهبت أدراج الرياح، لأن من يملكون سلطة القرار لا يقرءون.
ولقد كان انطباعي الأول تقدير الجهد الهائل الذي قامت به السعودية لتسهيل عملية الحج بالنسبة للملايين التي تحتشد كل عام في المملكة، سواء بتوسعة الحرم المكي، أو ببناء أنفاق وجسور منطقة رمي الجمرات، أو باستعمال القطار الكهربائي الذي استطاع أن يمتص حجما هاما من الحجاج الذين يتنقلون إلى منى والمزدلفة، أو بتخصيص أعداد هامة من رجال الجيش والشرطة والكشافة لتأطير الحجاج ومعونتهم.
لكن السؤال: إلى أي حدّ أثمرت تلك الجهود؟
وهنا، سأكون صريحا إلى أبعد الحدود.
وأذكر أنني، عندما بدأتُ وأسرتي الطواف حول الكعبة المشرفة وخصوصا في طواف الوداع، فوجئت بأمر لا يمكن السكوت عنه أو التستر عليه، فبدلا من جوّ الخشوع المطلق والتبتل الهادئ وجدنا أنفسنا، وكثير من حجاج بيت الله الحرام، في مواجهة مخلوقات كانت أقرب إلى الثيران الهائجة في ملعب إسباني، تندفع وتتدافع بين الصفوف، بصفة فردية تارة وبأسلوب “القطار” متشابك العربات تارة أخرى، وهو ما ضاعف من آثار زحام هائل فرضه العدد الكبير من الحجاج، وزاد من خطورته تصرفات مخلوقات أخرى كانت تحاول السير ضد اتجاه الطائفين بعد أن أكملت الأشواط السبعة، مخترقة صفوفهم في الاتجاه المعاكس، بدلا من أن تخرج من الدائرة تدريجيا في نفس اتجاه الطواف.
وكانت هناك صور تثير الرثاء، من بينها قوم متشابكون يندفعون إلى الأمام وقد التصقت أعينهم بكتب يقرءون منها كالببغاوات أدعية مكتوبة، وكأنهم تلميذ غبي يحاول حفظ درس ثقيل، وكان هناك من يصرخون بالدعاء وكأنهم يتصورون أن السماء مصابة بضعف في السمع.
وكان الغريب أن بعض من كانوا يمارسون تلك التصرفات أناس تصل لحاهم إلى أسفل صدورهم، وتحمل جباههم الخاتم القاتم الذي يُسمونه زبيبة الصلاة، والذي لا أفهم كيف يتكون عند البعض في حين لم أصبْ به، رغم أنني أؤدي الفريضة منذ سنوات وسنوات.
ومرت في ذهني خلال لحظات سريعة صور للمُصلين في ساحة الفاتيكان، حيث يتم كل شيء بخشوع وباحترام للمكان وللحضور وللطقوس، وشعرت بحجم كبير من الغيرة، فرحت أتساءل: هل أمتنا هي فعلا خيرأمة أخرجت للناس، وهل هؤلاء البشر المتدافعون هم من سنواجه بهم أعداء الإسلام؟
وعندما كنا في مِنىً شعرت بحجم من القرف يفوق التصور، فلقد اكتسحت أكوام القذارة في الشوارعوالممرات كل الجهود التي بذلتها السلطات لتنظيف المكان، لأن أكداس البشرالمكومة على جوانب الطريق أو العابرة فيه كانت تلقي فضلاتها حيثما اتفق، في حين كانت هناك أوعية مخصصة لرمي القمامة، ولم يختلف الأمر في كل مكان وُجد به الحجاج.
وكان تفسير كل ذلك يتركز في جملة واحدة هي “الجهل بقواعد الإسلام”، والذي لا نجده في تصرفات الأميين وحدهم، بل نجده عند أنصاف العلماء وأشباه المتعلمين، ممن يتصورون أنهم يعرفون، مما يجعلهم أكثر خطرا على الإسلام وأكثر إيذاء للمسلمين.
ورحت أتساءل ثانية.
أين علماء المسلمين ممن يتفننون في اختراع أشكال العمائم وألوانها، وفي الاهتمام باللحى والذقون وأطوالها، ويتسابقون إلى شاشات الفضائيات للتباري في تقديم الفتاوى العجيبة والتشدق بلغة خشب دينية لا يفهمها أحد لأنها ترديد لجمل معلّبة متوارثة عبر السنين، ثم يمارسون عملية تهديد لكل من يحاول تذكيرهم بدورهم الحقيقي في توعية المسلمين، فيقرعون أسماعنا بالشعارات المتوارثة مننوع “العلماء ورثة الأنبياء”، في حين أن العلم ليست صفة آلية يحصل عليها كل من شاب رأسه وجفت مياهه وضمرت عضلاته وارتخت أعضائه، بالإضافة إلى أن سيد المرسلين قال بصريح العبارة : “نحن معشر الأنبياء لا نورث”،.
ولا يتورع بعضهم، لمنعنا من محاولة نقد ما ننكرهمن تصرفات، عن تهديدنا صارخين في وجوهنا بكلمات ابن عساكر :”لحوم العلماء مسمومة”، بدون فهم حقيقي للمعنى، وإن كنت لا أدري إذا كانت صفة العلماء تصح على هؤلاء هؤلاء مقارنة بمن عرفهم الإسلام في عصرنا الحديث من العلماء الحقيقيين أمثال بن باديس والمراغي والإبراهيمي والعربي التبسي وشلتوت والخضر ومحمد الغزالي والقرضاوي ومئات بل وآلاف آخرون، كانوا قدوة وكانوا روادا.
ولقد رأيت بعض أولئك العلماء الجدد الذين استفادوا من الرعاية الكريمة للسلطات السعودية في إطار المدعوين (VIP) لكنهم لم يقوموا، فيما رأيت، بأي جهد لإرشاد المسلمين، وكان منهم من كان يصلّي وحده أو مع بعض خلصائه، بدلا من أن يصلي بنا نحن، معشر الأميين دينيا، ويرشدنا إلى ما يجب عمله في هذا الموقف أو ذاك.
بل إن واحدا من الذين تقدمهم بعض الفضائيات كدعاة إسلاميين بارزين سمح لنفسه، في مطار المدينة، أن يتجاوز صلاة العصر التي وقفنا صفوفا لأدائها بعد أن أقيمت فعلا، ليفرض على الناس أن يسبقوا بركعتي إحرامٍ كان قد قام به لتوّه، أي أنه وضع السنة قبل الفرض.
ولم أر أحدا من الدعاة الذين كانوا كثراُ حولنا في الحرم يطالب الناس بالخشوع ويدعو إلى احترام نظام الطواف، بدلا من ترك العبء على رجال الشرطة الذين قد لا يجرؤون على ردع حاج مهما كانت مخالفته، ولم نسمع لأحد منهم صوتا في عرفات، حيث تركت الخطبة لإمامٍ كنا نسمع صوته الأجش المُنفر عبر مكبرات الصوت الموجهة لنحو ثلاثة ملايين من الحجاج، يقذفنا بسلاسل من الكلمات التي لم يفهم منها معظم الحجاج، وأنا منهم، كلمة واحدة، وذلك بدلا من قيام الأئمة، كل في موقعه، بمخاطبة من حوله من الحجاج، أو الاقتداء برسول الله الذي اختار أجمل أصوات الصحابة لرفع الأذان.
وهكذا وبقدر ما كان تنظيم الحج من الناحية المادية إنجازا متميزا للسلطات السعودية كان هزيمة دينية وأخلاقية لكثير من علماء المسلمين، كلاسيكيين أو مودرن، ومعممين أو مُكرفتين مُكستمين (أي لابسي كرافتات وبدل عصرية)
ولا أعتقد أنني أتجاوز حدودي إذا قلت أن الحج بهذه الطريقة لا يحقق هدفا رئيسيا من تجمع ملايين المسلمين في مهبط الوحي، “ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله في أيام معدودات”، بل أجرؤ على القول بأنه إساءة لذلك الهدف وخروج عنه.
ومواجهة الأمر هي مسؤولية الجميع، لكنها تتجسد أولا في التوعية التي يجب أن يتولاها علماء المسلمين في كل بلد مسلم، وقد يستدعي الأمر إقامة معسكرات تدريبية لجموع الحجاج قبل انطلاقهم نحو البقاع المقدسة، ولقد استعملتُ كلمة : “معسكرات” عمدا، لأن المطلوب ضمان أكبر حجم ممكن من الانضباط مما لا توفره المحاضرات والندوات والخطب المتلفزة.
وهكذا يتعرف الحجاج، والأميون منهم على وجه التحديد، على كل معطيات الحج وطريقة ممارسة شعائره، وبكل الأساليب الممكنة، صورا وأفلاما وإرشادات من كل نوع، تتضمن على وجه الخصوص الحضّ على عدم التدافع، وخصوصا أمام الحجر الأسود ثم عند الصفا والمروة وخلال رمي الجمرات، وإفهامهم مسبقا بأن التعلق بأستار الكعبة أو التمسح بجدرانها أو مزاحمة الآخرين لتقبيل الحجر الأسود ليس من الإسلام في شيء، والمطلوب مهم أولا وقبل كل شيء الخشوع في أول بيت بني للناس.
وهذه مسؤولية كل الدول الإسلامية، التي يجب أن تقتدي بما تقوم به بعض الدول الآسيوية في تنظيم دورات تدريبية عملية لمجموع الحجاج، وهو ما رأيت نتائجه الإيجابية في البقاع المقدسة، وما لا يختلف كثيرا عن تنظيم الحجاج الجزائريين الإباظيينمن منطقة ميزاب، وميزاب وحدها.
وهنا تأتي مسؤولية التنظيم الذي تتحمل المملكة العربية السعودية الدور الأول في القيام به، والذي يمكن ألأن أقول أنها تهربت من القيام به، وهو الدور الذي لا ينحصر في توسعة الحرم وأنفاق مِنىً، لأن أي توسعة ستتوقف عند ساحة “عرفات” التي لا يمكن أن يضاف لها متر واحد، اللهم إلا إذا كان هناك من سوف يُفتي ببناء أدوار متعددة وسلالم متحركة، وهو في تصوري إخلال بطبيعة المكان وربما بقدسيته.
والاستنتاج الأساسي هنا هو أن تخفيض عدد الحجاج إلى نحو النصف أصبح أمرا يفرض نفسه، وهذا الدور هو قاعدة التنظيم السليم المنوط بعنق السلطات السعودية، ولا يمكنها أن تتنصل منه بأي مبرر أو حجة.
ولأن الحاسوب أصبح الآن في متناول الجميع، فإن على سلطات المملكة اتخاذ قرار علني بعدم منح تأشيرة الحج لمن سبق له أداء الفريضة، وسواء تعلق الأمر بمواطن بسيط أو بأمير جليل أو بزعيم قبيلة أو رئيس مؤسسة أو لابس عمامة ضخمة أو حامل لحية تتجاوز الصدر إلى البطن أو ما دون ذلك.
وأنا أعرف أن هناك شخصيات عربية تزعج سفراء المملكة بطلب تأشيرات إضافية، وهنا تتحمل سلطات الدول العربية والإسلامية مهمة منع ما يُسمّى تأشيرات المجاملة، وذلك بقرارات رسمية معلنة.
وهنا يأتي دور منظمة التعاون الإسلامي لكي تقوم بعمل لعله يكون، تاريخيا،تنمية لرصيدها الهزيل، وذلك بحشد علماء الأمة لدعم القرار المتعلق بتحديد عدد الحجاج، وإفهام المسلمين أن الحج هو أولا على من استطاع إليه سبيلا، صحيا وماليا، وهو ثانيا مرة واحدة في العمر، يمكن لظروف محددة أن يتكرر مرة واحدة أخرى، لكن الذين يحجون أكثر من مرة، وأعرف منهم من قام بذلك أكثر من عشر مرات، فإنهم يرتكبون “إثم” التضييق على مسلملن تتاح له إمكانية القيام بخامس أركان الإسلام، ولو كان من يكررون القيام بالفريضة من كبار العلماء، الذين يتوجب عليهم أن يعطوا المثل والقدوة، وإلا أصبح حجهم أكثر من مرة عن كذلك الذي يصور أنه يتقرب إلى الله إذا صلي الصبح خمس ركعات والظهر والعصر عشرة، في حين أن عدد الركعات محدد منذ فرضت الصلاة.
ولقد استعملت كلمة “إثم”، لأن حرمان المسلم منحقه في حج بيت الله الحرام نتيجة لتكاثر العدد الناتج عن تكرار الحج، أو وضعه في ظروف من الزحام لا تمكنه من أداء الفريضة في أحسن الظروف هو في نظري إثم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، ولعلي أضيف، ومن ماله.
وأنا أظن أنه لا ثواب لمن يزاحم المسلمين لأنه يملكمن المال ما يمكنه من تكرار الفريضة، في حين أنه قادر على الاكتفاء بالعمرة، التيلا تختلف عن الحج إلا في أنها لا تشمل الوقوف بعرفة ورمي الجمرات، وعدد مرات أدائها وأوقاتها متروكة لاختيار المسلم ولإمكانياته.
وهنا، لا بد من فرض عقوبات على البلدان التي يُحدِثُ مواطنوها أكثر من مرة مايسيء إلى قدسية المشاعر وحرمة المناسك، تماما كما يُمنع المشجعون المشاغبون من حضورالمباريات الرياضية.
باختصار شديد، يجب أن يتحلى المسلمون بالشجاعة التي تمكنهم من القيام بعمل جاد لتنظيم الحج ليكون فعلا مؤتمرا للأمة يذكر بحجة الوداع وبممارسات الرعيل الأول، لا حشودا هائجة تسيئ إلى خاتم الرسالات، وصفة تستعمل للمتاجرة والمزايدات.
والمبادرة هنا يجب أن تكون للمملكة العربية السعودية، وتنطلق بمؤتمر علني يجمع كل علماء المسلمين من كل المذاهب، تطرح فيه هذه القضية وهذه القضية وحدها، ولا يسمح للإعلام المرتزق بتشويه الأهداف السامية للمؤتمر بسموم التسييس والتشخيص، ويوقع جميع المشاركين بدون استثناء على التوصيات المتخذة، وبدون هذا فإن احتمالات الانزلاقات تظل قائمة، لأن جنون الحشود أمر لا يمكن التحكم فيه وحماقة الجهل باب لكل الأخطار.
ورحم الله من فقد حياته لأن هناك من لم يقوموا بواجبهم في حماية حياته، وهم كثيرون، كثيرون جدا……..ألا هل بلّغت ؟