عام واحد قضاه نابليون بونابرت في مصر خلال حملته العسكرية على الشرق (1798-1801) خلف وراءه كمّا من الوثائق والمراسلات التي تجيب عن كثير من أسئلة باتت تداعب خيال الكتاب والمؤرخين الفرنسيين والأوربيين والمصريين.
وكانت فرنسا قد حشدت جهود علماء وخبراء لتجميع كل مراسلات نابليون في مجلدات وصلت إلى 12 مجلدا، تنشر لأول مرة، يتعلق كل منها بمرحلة من مراحل حياته. ويخص مصر من هذه الأوراق المجلد الثاني تحديدا ويحتوي على نحو 1600 وثيقة تضم كل ما صدر عنه من تعليمات وأوامر عسكرية وإرشادات وكتابات يومية للعامة والخاصة ورجال الدين وشيوخ الأزهر.
وكان معهد الآداب والمخطوطات التابع لوزارة الثقافة الفرنسية قد أفرج عن تلك الوثائق قبل سنوات، بعد أن ظلت مسجلة ومحتفظا بها في أرشيف وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في فرنسا. وعُهد إلى المجمع العلمي المصري ترجمة ونشر الجزء الثاني المعني بالحملة الفرنسية على مصر، أو حملة "جيش الشرق".
"الصدام الأول"
وتصدر ترجمة الوثائق في مجلدين بعنوان "الأوامر العسكرية اليومية لنابليون بونابرت (1798-1799) لأول مرة باللغة العربية بعد 217 عاما على حملة نابليون في مصر.
ويقول مترجم الكتاب، أحمد يوسف، الأستاذ بجامعة السوربون وعضو المجمع العلمي المصري، لبي بي سي إن العمل "يكشف عن أسرار الصدام المسلح الأول بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية".
ويؤكد يوسف أن هناك وثيقة مثيرة عن "حلم نابليون بإنشاء قاعدة بحرية كبيرة في مدينة سفاجا للسيطرة على البحر الأحمر، وأن تكون مصر قاعدة لإمبراطورية هائلة تمتد من شرق السويس حتى إيران وأفغانستان والهند، وأيضا طموحه في أن تبدأ الحدود الشرقية لمصر من العريش وحتى مضيق باب المندب".
وتضم الوثائق عشرات الرسائل وأوامر بإعدام مجرمين وقطاع طرق في القاهرة، وأيضا تكشف للمرة الأولى عن حالات إعدام جنود فرنسيين ثبت جرمهم في حق الأهالي.
وأضاف يوسف أن المراسلات "تبرز كيفية إدارة شؤون الجيش الفرنسي في مصر، فضلا عن وثائق تتعلق بمخطط بين قائد كتيبة الأقباط -المسيحيين المصريين- في ذلك الوقت، ويدعى المعلم يعقوب، وأحد أعيان مسيحيي مصر، جرجس الجوهري، ، للفصل بين المسيحيين والمسلمين في مصر ،وهي وثيقة مؤرخة في السابع من ديسمبر/كانون الأول 1798".
ومن المعروف أن المعلم يعقوب حنا، المولود في ملوي بمحافظة المنيا عام 1745 وهو مسيحي مصري، شكّل ميليشيا من مسيحيين مصريين يتراوح عدد أفرادها بين ألف وألفى جندي لتقاتل إلى جوار الحملة الفرنسية ضد المصريين وهو ما دفع الكنيسة القبطية إلى التبرؤ منه.
"تصحيح مسار التاريخ"
ويقول العالم والمؤرخ الفرنسي هنري لورانس في مقدمة الكتاب إن مشروع نابليون لإنشاء إمبراطورية في "دار الإسلام" كان مقدمة الصدام الراهن بين الإسلام والغرب، وفيه وضع الغرب أسس قرنين من الاستعمار المادي على الطريقة البريطانية، وآخر فكري على الطريقة الفرنسية.
من جانبه قال محمد الشرنوبي، أمين عام المجمع العلمي المصري، لبي بي سي إن المجمع "حصل على منحة من معهد الآداب والمخطوطات الفرنسي، وهي جائزة تمنح لأحد المراكز العلمية التي تخدم التواصل بين الحضارات وأنشطة العلوم والثقافة، وخصصها لإتمام مشروع ترجمة المراسلات باللغة العربية".
وأضاف الشرنوبي "هذا الكم الهائل من الوثائق الخاصة بمصر وحدها يصحح مسار التاريخ والكثير من الأخطاء والتفسيرات المغلوطة التي لصقت بالحملة الفرنسية على مصر طوال سنوات".
ومن أغرب الوثائق التي تنشر لأول مرة وصية من نابليون لخليفته في قيادة الحملة، الجنرال كليبر، قبل رحيل بونابرت عن مصر عائدا إلى فرنسا يقول فيها : "إن أردت أن تحكم مصر فترة طويلة فعليك باحترام مشاعر الناس الدينية واحترام حرمات منازلهم".
وأيضا رسالة تهنئة بتاريخ 26 فبراير / شباط 1799 للجنرال مينو علي قيامه بإلقاء خطبة الجمعة كمسلم في مسجد غزة أثناء الحملة علي الشام وجاء فيها إن "أفضل الطرق للحفاظ علي السلم في مصر هو تبني عقيدة الإسلام أو علي الأقل عدم معاداتها واجتذاب ود شيوخ الإسلام ليس فقط في مصر بل في سائر العالم الإسلامي".
ويظل نابليون في وجدان الخيال الجمعي للفرنسيين، فهو ابن الثورة الفرنسية الذي خرج يحمل مبادئها الإنسانية من حرية ومساواة وإخاء، ليفرضها تارة بالعلم والعلماء، وتارة بالمدافع لينهي حياته في جزيرة نائية ويظل مثيرا لأحلام الفلاسفة والعلماء والأدباء وزعماء أوروبا حتى وقتنا الحالي.