نودي في دمشق: الغزاة في سبيل الله إلى عكا. وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدَوا على مَن عندهم من تُجّار المسلمين، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأُبرزت المجانيق إلى ناحية الجَسورة، وخرجت العامة والمطوعة يجُرُّون في العجَل، حتى الفقهاء والمدرسون والصُّلحاء
ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية»
موجز من الصراع القديم
كان النشاط الصليبي ضد المسلمين قد بدأ مع بواكير الصدام الأول في الشام في عصر الخليفة الراشد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-، وفي الفتوحات التي تمكن المسلمون فيها من بسط سيطرتهم على البلدان التي كان الرومان يسيطرون عليها في الشام وجنوب الأناضول ومصر وشمال أفريقيا وحتى الأندلس وجنوب فرنسا، وهي منطقة نصف دائرية تحيط بالعالم الصليبي من الجنوب، بل هي دائرة نفوذه الإستراتيجية التي استمرت لقرون متطاولة لا يُنازعه فيها منازع.
لكن بسط الإسلام سيطرته على هذه المناطق، حوّل المعركة مع العالم الغربي وكنيستيه الشرقية في القسطنطينية، والغربية في روما إلى حرب «مقدّسة» باصطلاح الغرب المسيحي، وإلى حرب «جهادية » لنشر الإسلام باصطلاح العالم الإسلامي، ومنذ ذلك العقد الثاني من التاريخ الهجري والمواجهة لا تنفك بين العالمين على مستويات عدة، أعلاها العسكري والجغرافي، وأدناها الثقافي والإعلامي.
كان دخول الإسلام بقوة في مناطق العالم الغربي ذاته في كل من صقلية وكريت ومالطا وجنوب إيطاليا وميورقة والأندلس وجنوب فرنسا، تحديًا خطيرًا لسلطة ومكانة المسيحية، ومنذ انجلاء الرومان في عصر الفتوحات الأولى، ومواجهاتهم أمام الأمويين والعباسيين والدول المستقلة فيما بعد، ثم دحرهم على يد السلاجقة في معركة ملاذكرد الشهيرة سنة 463هـ/1071م، حيث تم الاستيلاء على عمق الأراضي البيزنطية، ولأول مرة تقع هضبة الأناضول داخل النفوذ الإسلامي، مما هدّد بصورة مباشرة قلعة المسيحية الأرثوذكسية في القسطنطينية. فقد كان النداء مدويًا في العالم الغربي لمواجهة هذه التهديدات الإسلامية المتعاقبة في الشرق والغرب، فشرعت حروب الاسترداد في الأندلس في وتيرة متصاعدة حتى سقطت طُليطلة في سنة 478هـ/1085م، ثم بدأت الحملات الصليبية المنظمة على المشرق منذ العام 489هـ/1096م، وبلغت ذروتها سنة 492هـ/1099م مع احتلال بعض مناطق شمال الشام مثل الرُّها، والساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى عكا ويافا جنوبًا، وفي فلسطين حتى بيت المقدس عمقًا، ولم تسلم مصر من محاولات من الهجوم عليها فضلاً عن عمق الأراضي الشامية في دمشق وغيرها.
لقد سُفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، ووقع المسلمون تحت نير الاحتلال الصليبي مدة قرنين متواليين، أحيت فيها المقاومة الإسلامية التي بدأت مع السلاجقة وأتابكتهم من بني بوري والزنكيين بقيادة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، ثم الأيوبيين بقيادة صلاح الدين، وتوقف حالة الجهاد والاسترداد بعد وفاته بل النكوص على العقب، ثم إعادة إحياء الجهاد الإسلامي لاسترداد بقايا الإمارات الصليبية التي لم يتمكن صلاح الدين من استردادها في الساحل الشامي مثل أنطاكية وطرابلس الشام وبيروت وعكا وصيدا ويافا وغيرها، على يد المماليك منذ الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وأخيرًا مع الأشرف خليل بن قلاوون، آخر من تمكن من تطهير بلاد الشام من آخر جيب صليبي خطير وهو مملكة عكا.
بسبب رعونة الصليبيين في عكا، وهجومهم على المناطق الإسلامية القريبة منهم، ونقضهم للعهد الذي أبرموه مع المماليك من قبل، قرّر المنصور قلاوون أن يهاجم آخر وأهم الممالك الصليبية في الساحل الشامي، وهو القرار الذي طالبه فيه كبار المماليك بالتأني والتريث، نتيجة للتحصينات القوية، والإمدادات البحرية الأوربية التي كانت تنعم بها المدينة، لكن قلاوون أصرّ على قراره ذاك، وجمع عساكره بالفعل، لكن وافته المنية في معسكره خارج القاهرة في بداية ذي القعدة سنة 689هـ.
«قومون» عكا
كانت عكا قبل استردادها على يد الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ/1294م)، تحوي مزيجًا من العناصر الصليبية المختلفة الأجناس، وكانت عكا آخر معاقل اللجوء إليها، هذه العناصر كانت قد هربت من أنطاكية وطرابلس وغيرهما من المدن والحصون التي استولى عليها المسلمون، وشكل هذا المزيج «قومون عكا»، أي المدينة التي تتمتع بالحكم الذاتي والاستقلالية الذاتية، هذا القومون مثّل جميع الطوائف الدينية العسكرية في المدينة.
كانت مملكة نابولي الإيطالية قد سيطرت على هذه المدينة أثناء انتقالها من ملك صليبي إلى آخر حتى سنة 685هـ، وكان ملوكها وأصحابها من عائلة أنجو (Ango)، وبسبب وفاة صاحب عكا الصليبي، وموت خليفته، وبُعد مدينة نابولي عن المشرق الإسلامي، وبعد مفاوضات سياسية بين مملكة صقلية والطوائف العسكرية من الداوية والإسبتارية والتيوتون في عكا، أمست هذه المدينة الحصينة تابعة سياسيًا لملك صقلية آنذاك «هنري الثاني لوزجنان»، وكان دخوله هذه المدينة في شهر جمادى الأولى سنة 685هـ/1286م، وقد استُقبل ذلك الملك الثري بالترحاب والسرور، لكن سرعان ما بدأت الخلافات السياسية بين الطوائف العسكرية الصليبية تدب بينهم، بسبب من الضعف والتردد الذي اتسم به هنري الثاني.
الاستعداد الإستراتيجي للمماليك
كانت هناك محاولات سابقة من المماليك لإعادة فتح عكّا، منذ الظاهر بيبرس (ت 676هـ) ومرورًا بالمنصور قلاوون (ت 689هـ)، لكنه توفي خارج القاهرة في معسكره الذي كان يعده لاسترداد عكا، وعزم ولده وخليفته من بعده الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693ه) على استكمال ما بدأه والده، وبعدما قضى على المناوئين له، وبدأ في تثبيت أركان دولته من خلال تعيين الثقات والأكفاء في المناصب القيادية في الدولة، شرع في التجهيز لفتح واسترداد عكا، وقد اعتمد في فتح هذه المدينة على ما يلي:
– أعلن الأشرف عن مجلس الحرب وكان لا يعقد إلا في النوازل الكبرى «فجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بالقبة المنصورية، بين القصر ين من القاهرة عند قبر أبيه، في ليلة الجمعة الثامن عشر من شهر صفر، فباتوا هناك في عمل مهمّ عظيم».
– أعلن الأشرف خليل النفير العام في مصر والشام، وأمر بتجهيز الجيش والعساكر وجمعهم من المناطق المختلفة، فأسهمت كل نيابة وكل مملكة وكل ولاية بنصيبها من الجنود والأسلحة المختلفة كل بحسب ما يختصّ فيه، وقد اشترك المؤرخ والأمير الأيوبي الملك المؤيّد في هذه الحملة، وكانت رتبته العسكرية آنذاك أمير عشرة، وقد وصف في تاريخه بعض ما اشتركت به مملكة حماة الخاضعة للسيادة المملوكية ووالده الملك المظفّر بن المنصور الأيوبي (ت698هـ)، فقد أمدت هذه الإمارة الأيوبية الجيشَ المملوكي بمنجنيق كبير كان يُسمى المنصوري كان يجري على مائة عجَلَة، اضطر الجيش الحموي لتفكيكها إلى مائة قطعها لكبرها، وكان من نصيب الأمير والمؤرخ أبي الفداء مع أجناده العشرة عجلة واحدة فقط، استغرق جرّها شهرًا كاملاً، وفي هذا ما يدلل على كبر وعظم الآلات العسكرية في ذلك التاريخ، فضلاً عن كبر الحملة المملوكية ذاتها، وقد اشترك الأمير والمؤرخ المملوكي بيبرس المنصوري في نفس الحملة، وكان أميرًا على ولاية الكرك ذات الأهمية الإستراتيجية في جنوب الشام، وقد قال: »كنتُ حينذاك بالكرك، فلما بلغني أمر هذه الغزاة، ووردت عليّ مراسم السلطان بتجهيز الزردخانات والآلات، تاقت نفسي إلى الجهاد … فطالعتُ السلطان بذلك، وسألته أن أصير إلى هنالك لأساهم في ثواب الغزو وأشارك فأذن لي في الحضور … فجهّزتُ من الزردخانات المانعة، والآلات النافعة والرجال المجتهدين والرماة والحجّارين والغزاة والنجّارين، وتوجّهت مُلاقيًا للسلطان وقد وصل إلى غزة … وسرتُ في ركابه إلى عكا».
– أحكم سيطرته على الحملة والأمراء، وراقبَ كل صغيرة وكبيرة، وقام باعتقال عدد من الأمراء الذين أثاروا الشك عنده، خوفًا من غدرهم وخيانتهم. كما اعتمد على الأمراء الكبار ذوي الخبرة والكفاءة، مثل الأمير عز الدين الأفرم الذي قاد حمالات مملوكية ناجحة على مملكة النوبة، والأمير بَلَبان الطباخي، والأمير عز الدين أيبك الحموي، والأمير بدر الدين بكتاش، وغيرهم ممن خاضوا غمار الحروب الطويلة سابقًا، وهم من كبار الأمراء الصالحية الذين حنّكتهم المعارك منذ التحاقهم بخدمة الأيوبيين.
– أمدَّ الأشرف خليل حملته بكافة التجهيزات والعتاد، فقد احتوى جيشه على أسلحة امتازت بقوتها وخفّتها، وأجمع المؤرخون على أن مجانيق الحملة كانت متنوعة من الإفرنجي واللاعب والشيطاني والقرابغا، وقد اعترف عدد من المؤرخين أن عدد المنجنيقات في هذه الحملة كان الأكبر في تاريخ المواجهة الإسلامية الصليبية، فقد وصلت إلى 72 منجنيقًا، وذكر آخرون أنها كانت 92 منجنيقًا، مما يعني أن الحصار كان شديدًا، وقويًا.
وفي مقالنا القادم سنستكمل الحديث عن وسائل الاستعداد المملوكي، وسنرى الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية البارعة التي اعتمدها المماليك أمام الصليبيين لاسترداد هذه المدينة شديدة التحصين والقوة.