على الرغم من أنّ «قوة القدس» التابعة لـ «فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني وقائدها اللواء قاسم سليماني لا يزالان مشاركَين في أحداث العراق، إلّا أنّ النطاق الفعلي لانخراطهما العسكري يبدو متناسباً عكسياً مع التغطية المكثّفة التي تؤمّنها وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإيرانية لعمليات طهران هناك. ويشهد على ذلك مسحٌ حول التقارير باللغة الفارسية المتعلقة بخدمات المآتم التي أقيمت من أجل الإيرانيين الذين قُتلوا أثناء المعارك في العراق. فقد شهد العام الماضي ذروةَ تغطية وسائل التواصل الاجتماعي الإيرانية لعمليات «قوة القدس» في العراق، مع أنّ 26 مواطناً إيرانياً فقط قُتلوا أثناء المعارك خلال تلك الفترة. وفي المقابل، تجاهلت وسائل التواصل الاجتماعي الإيرانية إلى حدّ كبير عمليات «قوة القدس» في سوريا على الرغم من أنّ عدد الوفيات بسبب المعارك هناك أعلى بكثير خلال الفترة نفسها، وقد شمل هذا العدد 76 إيرانياً ومقاتلين شيعة عديدين يشرف عليهم أفراد من «قوة القدس» (ثمانين أفغانياً وعشرين باكستانياً).
وقد يرجع الفرق في التغطية الإعلامية إلى درجات متفاوتة من التأييد الشعبي للعمليات في العراق وسوريا، إذ يبدو أنّ عدداً ضئيلاً من الإيرانيين يدعم تدخّل طهران العسكري نيابةً عن نظام الأسد في سوريا. وقد أدان رئيس "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الإيراني، آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني في آب/أغسطس 2013 استخدام النظام للأسلحة الكيماوية. وفي المقابل، يبدو أنّ الجمهور غير منقسم في دعمه للكفاح ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، الذي تسبّب سلوكه الهمجي والواضح المعادي للشيعة في العراق بسخطٍ كبير في إيران.
وعبر توفير معلومات مفصّلة عن "الأعمال البطولية" التي تجترحها «قوة القدس» وسليماني والإيرانيين الذين لاقوا مصرعهم، من الواضح أنّ آلة الدعاية للجمهورية الإسلامية تحشد الجمهور حول النظام. وتقدّم هذه المعلومات أيضاً لمحات مهمّة عن تدخّل طهران العسكري في العراق.
أولاً، كان جميع القتلى الشيعة المعروفين، الذي سقطوا في معارك العراق منذ تموز/يوليو 2014 ويبلغ عددهم 26 قتيلاً، مواطنين إيرانيين. ولم تُذكر أيّ معلومات عن الأفغان الشيعة، الذين يُقال إنّهم تكبدوا خسائر بشرية فادحة في سوريا.
ثانياً، تُعتبر المقابر في المحافظات الإيرانية الغربية على الحدود مع العراق مُمَثّلةً تمثيلاً زائداً من الناحية الإحصائية في إيواء جثث هؤلاء الذين سقطوا في المعارك. فقد دُفن ستة من المقاتلين في محافظة خوزستان واثنان منهما في كرمنشاه وواحدٌ في كردستان. وفي حالات أخرى، سعت عائلات المقاتلين من هذه المحافظات على الأرجح إلى عدم دفنهم في مسقط رأسهم، بل في مقبرة الحرب "جنة الزهراء" في طهران أو في مواقع الحجّ الشيعية الرئيسية في مدينة مشهد ومحافظتَي خراسان رضوي وقم. وهذا التمثيل الإحصائي الزائد ليس مستغرَباً، فبإمكان معظم الإيرانيين من خوزستان التحدّث باللغة العربية، في حين يتقن أهالي كردستان وكرمنشاه اللهجات الكردية المختلفة، وجميعها مفيدة بشكلٍ خاص في قيادة القوات شبه العسكرية في العراق.
ثالثاً، كان جميع الإيرانيينن الـ 26 الذين قُتلوا يشغلون في ذلك الحين مناصب في «الحرس الثوري الإسلامي». وقد خدم أحدهم في القوات الجوية لـ «الحرس الثوري»، وآخر في فرقة العمليات الخاصة في «الحرس». وقد تمّ التعرّف على ثلاثة آخرين بشكل واضح بوصفهم أعضاءً في «قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري»، بينما خدم أربعة آخرون في "قوات التعبئة الشعبية" ("الباسيج"). ولم يُحدّد إلى أيّ فرعٍ كان ينتمي القتلى الـ 17 المتبقين، مما قد يعكس محاولةً لطمس حقيقة أنّهم شغلوا مناصب في «قوة القدس» النخبوية.
بالإضافة إلى ذلك، كان تسعة من الإيرانيين الذين قتلوا [في المعارك] من الضبّاط، وتمّ التعرّف إلى واحدٍ منهم برتبة عميد واثنين برتبة عقيد وواحدٍ برتبة نقيب و"عضو سابق في مجلس قيادة الباسيج" الإقليمي، فضلاً عن أربعة آخرين تمّ تأبينهم برتبة ساردار (أي قائد). أمّا القتلى الـ 17 المتبقون، فبدا أنّهم متخصّصون وليس مجرّد جنود مشاة، من بينهم رجلا دين ومهندسان ومصوّر.
وعلى الرغم من أنّ هذه الرتب العالية نسبياً تعكس جزئياً تقليد «فيلق الحرس الثوري» في ترقية "شهدائه" بعد الممات، إلّا أنّها تشير أيضاً إلى أنّ الإيرانيين يشغلون مناصب قيادية على رأس الميليشيات الشيعية العراقية. كما أن تقارير عن عمل الضباط الإيرانيين ومعلوماتٌ عن زمان مقتلهم ومكانه تعزّز هذا الانطباع. فقد شغل العميد حميد تقوي، وهو أغلب الظنّ أهمّ الوفيات التي مُنيت بها «قوة القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني، منصب واحدٍ من المنظّمين الأساسيين للمقاومة الشيعية العراقية ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية». أمّا جواد جهاني (المعروف أيضاً باسم هسنافي)، فشغل منصب قائد إحدى وحدات قوات الصدمة، حيث حرّرت الميليشيا العراقية تحت إمرته مدينة بلد في محافظة صلاح الدين، في حين حرّر جاسم نوري مدينة الدجيل - بلدة أخرى في محافظة صلاح الدين، أثناء قيادته كتيبةً من القوات شبه العسكرية المنضوية تحت لواء "وحدات الحشد الشعبي" في العراق.
وأحد الأسباب التي دفعت بآلة الدعاية للجمهورية الاسلامية إلى الإصرار كثيراً على تسليط الضوء على شجاعة "أبطال" «الحرس الثوري» الذين سقطوا في العراق هو بفعل ما جرى خلال معركة تكريت، عاصمة محافظة صلاح الدين، في آذار/مارس - نيسان /أبريل من هذا العام. فقد تمكّن تنظيم «الدولة الإسلامية»، من خلال مقاومة شرسة، من وقف زحف القوات الحكومية العراقية والميليشيات الشيعية بقيادة سليماني. ولم تقع تكريت ثانية تحت السيطرة العراقية إلّا بعد الضربات الجوية المستمرّة التي شنّتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة مستهدفةً مواقع لـ تنظيم «داعش». ورفضت طهران باستمرار أيّ تنسيق مع الولايات المتحدة في تكريت، وقد تكون جهودها الدعائية منذ ذلك الحين محاولةً لصرف النظر عن اعتمادها على الدعم الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة - الأمر الذي يُشكّل فصلاً محرجاً على وجه الخصوص من فصول التدخل العسكري للجمهورية الاسلامية في العراق.
المحصلة
يجب ألا يفسَّر التدخل العسكري المحدود للجمهورية الاسلامية في العراق على أنّه علامةٌ على تواني الاهتمام الإيراني بتلك الحملة، بل إنّه يعكس احتياجات متنوّعة لوكلاء طهران في ساحات مختلفة. وخلافاً لسوريا، لا يعاني العراق نقصاً في عدد المقاتلين الشيعة (والأكراد) المتحمّسين لمقاتلة «داعش». لذا فإن المطلوب هو وجود قادة ميدانيون أكفّاء تبدي طهران استعدادها لتأمينهم من أجل مواصلة الحرب والحفاظ على اعتماد شيعة العراق على إيران.
------------------------
الكاتب : علي آلفونه
زميل اقدم في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات