مكبر الصوت هو مصدر معيشة أبي حسام منذ أكثر من أربعة عقود. في البداية اقتصر استعماله على الأفراح، كان يثبته مع بطاريتين وسماعتين على دراجة هوائية ذات ثلاث عجلات، يمضي أمام صف السحجة الذي يطوف القرية مرافقا للحاديين. الحادي يبدأ مسيرته بتحية صاحب (الميكروفون) أولا، ثم يطلب منه ضبط الصوت والانتباه لسلامة الجهاز من وعكات صوتية متوقعة صعودا وهبوطا أو سرسكة وحتى سكوتا، ثم يتحرك الصف بالطواف في أحياء القرية، بينما العريس في آخر الصف على صهوة فرس ذلول تحيط بها النسوة ويهزجن لجمال العريس وكماله وهيبته وعلومه وشجاعته، بينما الرجال يتقافزون ويسحجون ويردّون على الحادي بحماس.
كان الفرح يستمر أسبوعا من التعاليل والسّحجات والدبكات، ولكن مع تطور علاقات الإنتاج، اختُصر إلى سهرة وزفة في ساحة البيت أو الحي، أو في ساحة المدرسة مقابل تبرع مالي للمدرسة، أو في قاعة أفراح، أو في الشارع العام بعد إغلاقه من الجهتين، وعلى السيارات أن تبحث لها عن طريق بديل.
استبدل أبو حسام الدراجة بسيارة تجارية، وصار مكبّر الصوت أكثر حداثة، ثم أضاف كراسي وطاولات وثلاجة كبيرة ومسرحا متنقلا، يؤجرها لأصحاب الفرح، ويُذكر له تبرّعه بالكراسي في المناسبات الحزينة بلا مقابل.
كثير من الناس يفضلون دعوة الناس بمكبر الصوت لتكون الدعوة شاملة، فلا يعتب عليهم أحد، فيكلفون أبا حسام بالمهمة لينادي: «يا أهالي قريتنا الكرام، باسم فلان الفلاني أبو فلان، ندعوكم إلى الزفة وزيانة العريس، وذلك مساء يوم غد الخميس، كما وندعوكم إلى المولد النبوي الشريف، عصر يوم الجمعة، ولتناول طعام الغداء على مائدة والد العريس، دامت الأفراح في دياركم عامرة»! واتسعت أعمال أبي حسام فصار أهم وسيلة محلية للدعاية والإعلان للمصالح التجارية من خلال المناداة بمكبر الصوت.
تعلن محلات الزهرة البيضاء للألبسة الجاهزة عن حملة تنزيلات غير مسبوقة، إدفع ثمن بنطلون جينس واحد وخذ الثاني ببلاش…يا بلاش..»حملة تنزيلات هائلة على بدلات العرسان من كل الألوان وآخر موضة، وعلى (أبواط سبورط) من أحسن الماركات العالمية الأصلية، وأين هذا! طبعا في محلات أبو شاهر».
« بسم الله الرحمن الرحيم…يا أهالي قريتنا الكرام، ندعوكم لافتتاح المخبز الجديد في الحارة الشرقية تحت دار أبو كارم لصاحبه محمود العبد، أرغفة عادية، خبز صاج، مناقيش بزعتر وبجبنة، تشكيلة من المسخن والمعجنات والقرشلة، خبز أسمر أيام الاثنين والخميس.. يا عيني على القرشلة باليانسون».
«اسمعوا مليح…في ملحمة الأمانة عند أبو السعيد..كيلو لحم العجل بخمسة وثلاثين وبس..طري مثل الخس..إلحق حالك يا أبو العيال….». ليس هذا فقط، فالنشاطات والندوات والأمسيات السياسية والثقافية والفنية والتسجيل لروضات الأطفال ولدورات مهنية وغيرها يعلن عنها بواسطة أبي حسام وحتى المؤسسات الرسمية «إلى جميع أهالي قريتنا الكرام، قسم الجباية في المجلس المحلي يدعوكم لتسديد ضريبة الأملاك وأثمان المياه حتى نهاية الشهر الجاري، وذلك قبل اتخاذ الإجراءات القانونية، والحاضر يعلم الغايب، وقد أعذر من أنذر»..ثم يضيف (يا جماعة أنا لا أنذر أحدا..هذا رئيس المجلس هيك بدو)..
وفي موسم الانتخابات، يصبح القرار الأول لدى الخلايا الحزبية في القرية «قولوا لأبو حسام ينادي على الاجتماع الشعبي»! وسوف تسمعه ينادي- يا أهالي قريتنا الكرام باسم الحزب ال…ندعوكم لحضور الاجتماع الانتخابي الشعبي الكبير في ساحة السوق، يتحدث في الاجتماع (النائب..الشيخ…الرفيق..الأستاذ، الشاعر..المرشح)..هلمّوا بجماهيركم!».
أذكر في إحدى مسيرات الغضب في قريتنا، كان مكبر صوت أبي حسام البدائي في حينه ما زال على الدراجه الهوائية يتوسط المسيرة، وأحد الشبان يهتف من خلال المكبر والآخرون يردون وراءه…
يا أهالينا انضموا انضموا
شعب فلسطين ضحى بدموا..
يا أهالينا ردوا علينا
دمّ الأسرى غالي علينا…
حتى وصلت المسيرة إلى شارع عكا صفد في محاولة لإغلاقه.
في اليوم التالي دُعي عدد من الشبان إلى التحقيق في مركز الشرطة وبينهم أبو حسام.
- لماذا سمحت لهؤلاء الزعران أن يستخدموا مكبر الصوت خاصتك؟
- إنها مهنتي، وهم يدفعون أجرته!
- لكنهم حرضوا على التمرد والعصيان ضد الدولة بمكبر صوتك أنت!
- إنهم يدفعون أجرته، ولا شأن لي بماذا يستعملونه!
ولكنهم هتفوا وحرضوا ضد الدولة…
يا سيدي أين المشكلة! إدفع أنت أجرة مكبر الصوت وخذه واهتف ضد جامعة الدول العربية!
رغم تجاوزه الخامسة والسبعين فهو يبدو في الخمسينات، ما زال صوته وطريقته بتقديم بضاعته تجذب انتباه المستمعين.
قبل أيام كنت واقفا أمام بيتي عندما مر بسيارته، رآني فألقى التحية عبر مكبر الصوت (مساء الخير)، فرفعت يدي ردا على تحيته، نفخ منبّها..ثم بدأ ينادي بصوت رزين..»بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، صدق الله العظيم»، يا أهالي قريتنا الكرام، ندعوكم للسفر إلى القدس الشريف للصلاة، ولحماية أولى القبلتين وثالث الحرمين من هجمات المتطرفين اليهود، السفر مجاني على نفقة فاعلي خير، تنطلق الحافلات من ساحة العين في تمام الساعة السادسة من صباح يوم غد الخميس». وحسب طريقته المعتادة في جذب الزبائن أضاف «لا تنسوا أنكم الرابحون، فالركعة في الأقصى بخمسمئة ركعة، وتقبل الله سلفا.
سهيل كيوان
http://www.alquds.co.uk/?p=386626