التالي هي شهادة الجنرال المتقاعد تشاك هورنر قائد الوحدات الجويه للقياده المركزيه الامريكيه " CENTCOM " اثناء حرب الخليج الثانيه
الشهاده صدرت في كتاب " كل رجل نمر " للكاتب الروائي الشهير توم كلانسي :
نبدأ :
جاءت محاولة صدام الأهم لاستعادة المبادرة وانجاح استراتيجيته في أواخر كانون الثاني يناير 1991 عندما هاجم المملكة العربية السعودية. تفكيره كان كالآتي: الضربات الجوية المنهالة عليه كانت قاتلة، فيما فوجيء بأن القوات البرية للتحالف تحاشت التورط بالهجوم على دفاعاته. وفكر صدام: "لهذا سأتقدم نحوهم بالمعركة. فاذا غزوت المملكة العربية السعودية، سيضطر التحالف الى القيام بهجوم مضاد. واذا ادى هذا الى تفجير الحرب البرية، وسارع الأميركيون الى الهجوم على دفاعاتي، فسأنتصر"... أي تكليف الأميركيين خسائر بشرية فادحة... اعتبر عدد من المراقبين ان الهزيمة الساحقة لحلم صدام بغزو المملكة تبين ان الهجوم لم يكن غزواً فعلياً بل مجرد حملة استطلاعية. لكن العراقيين استخدموا في هذا "الاستطلاع" ثلاث فرق، واحدة مدرعة وفرقتي مشاة مؤللتين، احداهما الفرقة المؤللة الخامسة، وهي من بين افضل فرقهم المدرعة اعتبر خبراء ان مستواها لا يقل الا قليلاً عن الحرس الجمهوري. وعلى رغم عدم توافر الاحصاءات الدقيقة فالارجح ان الفرق الثلاث ضمت نحو 20 الف جندي بل ربما وصل الرقم الى 40 الفاً، وهي قوة كبيرة. خلال ذلك اعتبر صدام نفسه ان الاستطلاع، او الغزو، كان على قدر من الأهمية. فبعدما عرف ان جنوده دخلوا البلدة الخفجي، اعلن ان الهجوم شكل بداية وبشارة بعاصفة تتفجر في الصحراء العربية.
قرار اخلاء الخفجي
تقع بلدة الخفجي على ساحل الخليج في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي على الطريق الرئيسي بين الظهران ومدينة الكويت، وعلى بعد عشرة كيلومترات تقريباً من الحدود مع الكويت. عدد سكانها كان ما بين 10آلاف الى 15 الف نسمة، اي انها لم تكن كبيرة...
على رغم ان معركة الخفجي بدأت بعد عصر التاسع والعشرين من كانون الثاني يناير 1991 وانتهت ظهر الواحد والثلاثين، فان مقدمات المعركة كانت بدأت قبل ذلك بشهور.
ففي ساعة متقدمة من ليلة في اواخر آب اغسطس عقد اجتماع رسمي ضم الأمير الفريق اول ركن خالد بن سلطان والجنرال الأميركي جون يوسوك وأنا. كان يوماً تعيساً مليئاً بالاشاعات والمخاوف. فقد كانت هناك 27 فرقة عراقية متأهبة عبر الحدود ولم نملك وسيلة لوقفها. وبحثنا في استراتيجية تشمل استعمال الفرقة 82 المحمولة جواً والحرس الوطني السعودي وسلاح الجو لوقف الهجوم العراقي في حال حدوثه. وكرر الأمير خالد خلال الاجتماع ان لديه أوامر مشددة من الملك فهد بعدم السماح بسقوط شبر من أراضي المملكة في أيدي الغزاة. وكان هذا ينطبق على الخفجي.
لكن البلدة، لسوء الحظ، لم تكن تحت مرمى المدفعية العراقية فحسب، بل اننا لم نملك وسيلة لمنع استيلاء العراقيين عليها. وأدرك الأمير خالد ان البلدة كانت عبئاً دفاعياً علينا، واتفقنا على ضرورة اخلائها. بهذه الطريقة تمكنا من تحويلها الى منطقة نيران حرة، مما سمح لنا بالهجوم على العراقيين الغزاة جواً وبالمدفعية من دون التنسيق المعقد المطلوب لحماية المدنيين والعسكريين لو كانوا بقوا فيها. كان قراراً صعباً للأمير خالد، اذ كان يخالف، ولو جزئياً، الأوامر الصادرة اليه...
تقع الخفجي ضمن مسؤولية قيادة المنطقة الشرقية، وقائدها اللواء الركن سلطان عادي المطيري. بعد اخلاء المدينة نشر اللواء سلطان شبكة دفاعية من قواته قرب المدينة، اضافة الى قوة صغيرة في المدينة نفسها للمحافظة على الممتلكات الى ان تنتهي الأزمة. كما تولفرت له قوة عسكرية مهمة على بعد نحو 50 كلم من الخفجي.
غالبية قوات اللواء الركن سلطان كانت من وحدات المشاة المؤللة من الجيش والحرس الوطني السعودي. كما شملت قيادته قوات مؤللة من قطر، ومشاة من عمان والامارات العربية المتحدة والكويت والمغرب والسنغال. وحظيت هذه القوات بدعم من مجموعة كبيرة من مشاة البحرية السعوديين.
مخازن المارينز
المنطقة غرب منطقة اللواء سلطان كانت مسؤولية قوات المارينز الأميركية بقيادة وولت بومر، وكان قوامها فرقتين، تدعمهما فرقة دبابات بريطانية حل محلها لاحقاً جحفل "تايغر" النمر من الجيش الأميركي. المهم في موقف بومر انه كان استنتج في تشرين الثاني نوفمبر استحالة دعم عمليات هجومية في الكويت بالمرافق اللوجستية التي كانت مصممة للدفاع عن المملكة العربية السعودية، ومن هنا فقد بادر بنقل مخازنه اللوجستية الى مواقع مباشرة تحت الحدود مع الكويت، أي شمال خطه الدفاعي بومر عبقري لكنه في الوقت نفسه مجنون الى حد ما، اذ قامر على اننا سنبدأ الهجوم على الكويت مباشرة بعد بداية السنة الجديدة، وان العراقيين الذين كانوا وقتها استكملوا تحصيناتهم، لن يتقدموا جنوباً الى داخل المملكة العربية السعودية. وكان نصف مصيب في مقامرته.
أربع معارك
يتطلب الفهم الكامل لمعركة الخفجي أن ندرك انها لم تكن معركة واحدة بل اربع معارك:
المعركة الأولى كانت معركة المدينة نفسها، كما شهدها العالم على تلفزيون "سي. ان. ان.".
المعركة الثانية كانت القتال الضاري والذكي من قبل المارينز الأميركيين لحماية مخازنهم المكشوفة في عرض الصحراء. الواقع ان العراقيين لم يعرفوا بوجود تلك المخازن. ولو عرفوا لكان الأرجح انهم قووا هجومهم في هذا الاتجاه وسددوا ضربة قوية الى التحالف.
المعركة الثالثة كانت هجماتنا الجوية على الفرق العراقية التي كانت تتجمع للهجوم على الخفجي. فوق تلك الهجمات كانت هناك طائرات الاستطلاع الراداري التي راقبت تحركات العراقيين على الطريق الساحلي ووجهت إليها مئات الطلعات من طائرات "أي 10" قاتلة الدبابات بصواريخ "مافريك"، والمنصات النارية الجوية "أي سي 130". وكانت هذه الطلعات تدمر دروع العراقيين بمعدل دبابة او مصفحة كل 10 الى 30 ثانية. من الجهة الأخرى ساهمت في العملية قاذفات "بي 52" الاستراتيجية التي قصفت "الغابة الوطنية الكويتية" هكذا سماها طيارونا، فقد كانت منطقة صحرواية حاول فيها الكويتيون زرع غابة من اشجار صالحة للسقاية بالمياه المالحة المتوافرة تحت الرمال، حيث كان العراقيون يحاولون اخفاء تجمعاتهم استعداداً للهجوم. وايضاً طائرات "أف 16" و "أف أي 18" التي كانت تلقي القنابل العنقودية على طلائع القوافل العراقية ومؤخراتها لكي تحصر بينها الدبابات والشاحنات والمدافع، و"أي في 8" و"أي ايتش 1" التي كانت تحصد العراقيين اثناء محاولتهم الهرب عبر الحدود.
المعركة الرابعة هي المعركة التي لم تقع. أي تحرك العراقيين للهجوم في منطقة اخرى، مثل وادي الباطن ضد المصريين والسوريين هناك. فلو نجح العراقيون في الاشتباك مع المصريين او السوريين، لكان ذلك سبب لنا، على اقل تقدير، مشاكل كبيرة. ذلك ان العراقيين والمصريين والسوريين كانوا في معظم الحالات يستخدمون معدات متشابهة، اي انها كانت ستكون معركة دبابات روسية ضد دبابات روسية، وكان سيصعب علينا تمييز الدبابات التي نستهدف للضرب، خصوصاً ان قليلين من القادة الميدانيين الحلفاء كانوا يتكلمون الانكليزية. النتيجة المحتملة كانت الكثير من الخسائر ووصول العراقيين الى خط التابلاين، الطريق الوحيد الموصل بين الساحل والغرب، وهو ما كان يسمح للعدو بمنع اي تحرك للفيليقين الأميركيين السابع والثامن عشر غرباً نحو موقعيهما الهجوميين.
وما زاد في تعقيد الأمور اننا لم نكن نعرف وقتها مستوى أداء القوات العربية في امتحان قتالي فعلي. واذا كان اداء القوات السعودية ممتازاً في الخفجي فقد كانت تقاتل على أرضها وتحت أنظار مليكها. ولكن لم يعرف احد اذا كان المصريون والسوريون سيبدون الحماسة نفسه.
يمكننا من موقع الحاضر القول إن المعركة التي كان ينبغي على صدام التركيز عليها هي الرابعة. لكن ذلك لم يكن ليغير شيئاً في النتيجة، نظراً إلى المعلومات عن سير المعركة التي وفرتها لنا طائرات الرصد. واذا كان من الصعب القضاء على جيش متحصن فان من السهل تدمير جيش في حال التحرك.
الخلاصة: المعركة 3 كانت مفتاح الانتصار في المعركتين 1 و2، وايضاً لنفي الحاجة الى خوض المعركة 4.
هجوم عراقي مفاجىء
بدأنا نرى مؤشرات الى أن شيئا ما سيحدث قريبا منذ 25 كانون الثاني يناير: المؤشر الأول كان ان الجنرال جاك ليد من قيادة "سنتكوم" حذر من تحركات لقائد الفيلق الثالث العراقي، الفريق صلاح عبود. تعرفنا إليه أكثر لاحقاً عندما جاء الى صفوان في آذار مارس ليقدم استسلام الجيش العراقي...
ثم اخبرني كريس كرستون في 29 كانون الثاني ان العراق نشر بطاريات صواريخ أرض - أرض في الكويت، واعتبر ذلك نذيراً بهجوم رئيسي خلال أسبوعين. كان الوحيد، حسب علمي، الذي تنبأ بالهجوم، على رغم انه لم يستطع تحديد موعده. وفي تلك الليلة دخلت طلائع القوات العراقية الخفجي.
على رغم هذين المؤشرين وغيرهما فقد فوجئنا بالتحرك العراقي، عندما بدأ الوف الجنود العراقيين تلك الليلة بالخروج من خنادقهم والتجمع للهجوم، معتقدين ان الليل سيخفيهم عن استطلاعنا الجوي. ان جيشاً في وضع التقدم هو في أي حال جيش في وضع قلق. ذلك ان الوحدات قد تأخذ الطريق الخطأ وتصل الى المكان الخطأ، ويمكن الدبابات والشاحنات ان تتعطل ولا تصل في الوقت المناسب لدعم الهجوم، كما ان تقلبات الجو قد تحول تحركاً منظماً الى فوضى شاملة.
ولكن لم يسبق أبداً لجيش في حال الهجوم ان يواجه ما كان سيواجهه هذا الجيش. لأن حركته جعلته قابلاً للرصد من قبل راداراتنا الجوية. ولما كان بالامكان رؤيته كان بالامكان استهدافه ومهاجمته. ولما كان ذلك الجيش في العراء،
يتقدم عبر طرق ضيقة من دون سواتر او تمويه فانه كان في طريقه الى الموت.
نار جهنمية
لقد اعتبر القادة العراقيون ان الظلام سيخفي تحركاتهم لكن الواقع أن التكنولوجيا الحديثة تركتهم فريسة لموجات الموت والدمار والرعب من الجو، في وضع مثّل اسوأ كابوس يمكن ان يصيب قائداً برياً.
فما ان بدأت القوافل في التحرك جنوبا نحو الحدود السعودية حتى التقطتها رادارتنا الجوية. وفي لحظات تم تحويل طائرات "أي 10" و"أف 16" و"بي 52" وغيرها عن اهدافها الاخرى وتركيزها على القوات العراقية المتقدمة. وتصاعدت المعركة متوازية مع تحرك المزيد من الدبابات والناقلات المصفحة والشاحنات العراقية على الطريق المؤدي الى الخفجي.
بعد لحظات تحولت الحركة الواسعة المنظمة التي كانت تقوم بها القوات العراقية الى داخل المملكة العربية السعودية الى فوضى. وتمكنت طائرات "أي 10" من شل ارتال طويلة من الدبابات عن طريق تدمير طليعتها ومؤخرتها، ثم المباشرة في شكل منظم باشعال النار في كل واحدة منها بين الطليعة والمؤخرة. هكذا اضطرمت النيران في مقاطع كثيرة من الطريق طول كل منها بين ميلين وخمسة أميال، محولة ليل الصحراء الى نهار، فيما تراكض الجنود العراقيون الى الصحراء للنجاة بعدما جعلت صواريخ مافريك الدبابات والشاحنات قطعاً من جهنم الحمراء.
كان الجيش العراقي يهدف الى الافادة من عنصر المفاجأة، ونجح في ذلك فعلاً. لكن المفاجأة لم تنفعهم. فقد اطلق القائد البري هجومه ضد العربية السعودية وكان على وشك دعم الهجوم عندما دهمه خطر لم يكن في حسبانه: مئات الطائرات وهي تلقي الوف القنابل على قواته.
اندلاع المعارك 1 و2 و3
أما على الأرض فتفجرت المعركتان 1 و2 في شكل متزامن تقريباً. فالى الغرب من طريق الخفجي، قرب المخازن الهائلة التي وضعها المارينز مباشرة جنوب الحدود مع الكويت، اشتبكت طليعة الفرقة العراقية المؤللة التي كانت تغطي الجانب الأيمن لهجومهم الرئيسي بعناصر من قوات المارينز يبلغ حجمها نحو فصيل.
واذ اعتقد المارينز بأن الهجوم يستهدف الوف الأطنان من الغذاء والوقود والذخائر والبترول المخزونة في الصحراء المفتوحة، فقد قذفوا فوراً الى قلب المعركة بناقلات الجنود المصفحة تساندها الطائرات، ونجحوا في صد الوحدات العراقية صداً حاسماً. وعلى رغم حدة القتال، الذي سقط فيه عدد من جنود المارينز، فانه لم يكن متواصلاً، لأن العراقيين لم يريدوا ان يجعلوا هذه المعركة 2 المعركة الفاصلة.
الى الشرق، اشتعلت المعركة 1 عندما دخلت طليعة القوة العراقية الرئيسية بلدة الخفجي فرقة مدرعة اضافة الى فرقة مؤللة. وكانت المشكلة امام اللواء الركن سلطان المطيري قائد المنطقة الشرقية طريقة التصدي لهذه القوة الثانية المجهولة الحجم ودحرها لنتذكر ان المراقبين اعتبروا الجيش العراقي غنيا بالخبرة القتالية، فيما كانت قوات المطيري قليلة العدد ومفتقرة الى تلك الخبرة.
خلال ذلك كانت المعركة 3 بدأت فعلاً عندما بادر جيم كريغر، من دون اذن سابق، الى تحويل الطائرات الى الكويت. ولما كان العراقيون لا يتحركون الا في الليل فقد اضطر الى خوض المعركة ليلاً. كما ان الجو الغائم بدءاً من ليل التاسع والعشرين أجبر طائراتنا على شن غاراتها على ارتفاع مخفوض تحت الغيوم وليس على الارتفاع المتوسط، وهو المفضل...
في الصباح المبكر من 30 كانون الثاني أخذ اللواء الركن المطيري قوة من الدروع السعودية والقطرية الى الجانب الغربي من الخفجي، وعندما وجد قوة من الدروع العراقية هناك اشتبك معها ودمر عدداً من الدبابات والمصفحات، وأسر ضابطاً عراقياً وعشرات الجنود. وكشف استنطاق الاسرى ان هناك فوجين عراقيين في البلدة. وقرر المطيري في ضوء هذه المعلومات إضافة الى تقارير مبكرة عن توجه اكثر من 50 مدرعة عراقية اضافية الى البلدة، الانسحاب الى حين ضمان دعم جوي مباشر ووضع خطة أشمل للهجوم.
مع خيوط الفجر تراجعت حدة المعارك الثلاث. فقد توقف العراقيون وانسحب السعوديون، فيما بدأت قيادتنا بارسال قوات الى الصحراء غرب الخفجي. وتراجعت وتيرة غاراتنا الجوية على الكويت لكن نسبيا فقط.
الأمير خالد في الخفجي
في ساعة متأخرة من عصر ذلك اليوم كنا، الفريق الركن أحمد البحيري قائد القوات الجوية الملكية السعودي وأنا، في مركز قيادة القوات الجوية في الرياض نراقب تطور المعركة. وتسلم البحيري مكالمة على الهاتف وتكلم قليلاً بالعربية، ثم ناولني الآلة قائلاً: "تشاك، انه خالد". تناولت الهاتف وكلمته: "أهلاً يا خالد، اين انت؟" الجواب: "تشاك، أنا خالد" وأضاف مشدداً: "أنا في الخفجي وأريد مساندة الجو". قلت مستغرباً: "كيف وصلت الى الخفجي؟" لم يجب عن السؤال بل قال: "اننا في معركة، وأريد اسناداً جوياً... نحتاج الى اكثر ما يمكن من الاسناد. ارسلوا قاذفات بي 52".
عندما يطلب قائد بري مساندة من "بي 52" عليك ان تفهم انه في مأزق، وانه يريد حلاً فورياً. اثناء كلامه القيت نظرة على شاشة المعلومات من طائرات الرصد "أواكس" التي اظهرت موجة بعد موجة من طائراتنا في طريقها الى جنوب الكويت. قلت له بلهجة تحمل اكثر ما يمكن من التطمين: "ستأتيك مساندة جوية وفيرة يا خالد". لكنه أجاب باقصى ما يمكن من الحاح: "كلا! لم تفهمني يا تشاك! أريد سنداً جوياً". وهنا استعنت بالوصفة التي يستعملها الطيارون منذ عقود: "تأكد يا خالد انك ستلقى مساندة تفوق كل ما تتصور". لكن ذلك لم يقنعه كما يبدو، اذ كرر: "أحتاج إلى سند جوي".
أدركت لاحقاً ان دافعه إلى القلق كان أقوى مما تصورت، وانه كان فعلاً بحاجة الى مساندة مباشرة. اذ لم اعرف وقتها اننا، على رغم ارسال كل ما توافر من طائرات الى مسرح العمليات لسحق الهجوم العراقي، لم نملك وسيلة لتوجيه أي منها للمشاركة المباشرة في الخفجي نفسها. فقد كان في البلدة فريقا رصد من المارينز لتوجيه الطيران والمدفعية، لكن الهجوم العراقي ادى الى عزلهما واضطرهما الى الاختفاء في سطوح المنازل حتى انتهاء العمليات. والنتيجة ان مئات الطلعات لم تجد من يوجهها للمشاركة الأرضية عندما كانت تصل الى البلدة، ولهذا كانت تواصل التقدم بضعة أميال شمالاً للاغارة على القوات العراقية الزاحفة لتعزيز وحداتها الأمامية داخل الأراضي السعودية...
بعدما كررت طمأنة الأمير خالد إلى قرب وصول المساندة الجوية عرفت كيف وصل الى الخفجي اصلاً. فقد سمع بالهجوم العراقي عندما كان في طريقه جواً الى الظهران لكي يقدم وساماً الى الطيار السعودي الذي اسقط طائرتي "ميراج" عراقيتين، وحوّل اتجاه طائرته فوراً ليكون مع اللواء الركن المطيري.
دم سعودي ملكي؟
لكن افكاراً اخرى جالت في ذهني اثناء حديثنا الهاتفي. فقد كان يؤكد دوماً منذ اوائل آب أغسطس على العزم أن يكون الدم السعودي أول دم يسيل دفاعاً عن أراضي المملكة، كما ان مقتضيات الشرف كانت ان تقوم القوات السعودية بأكثر من المطلوب دفاعاً عن تربتها.
نعم، كان يعرف القوة الساحقة التي نشرتها الولايات المتحدة. ولكن كان من الضروري أيضاً ان يدرك الجميع بعد انتهاء الحرب أن أداء السعوديين فيها كان مشرفاً ومدعاة لفخر الملك والبلاد. لكن الحرب قبل الغزو العراقي لأرض المملكة في نهاية كانون الثاني يناير، اقتصرت على الجو، وكانت الدماء التي سالت حتى وقتها أميركية وايطالية وبريطانية اداء سلاح الجو السعودي كان ممتازاً تماماً في تلك المرحلة، إلا انه لم يكن قد خسر أياً من طائراته بعد. ولكن بدا الآن ان ما صمم عليه الأمير خالد كان على وشك التحقق، وانه اذا لم يحاذر فان الدم الذي سيسيل لن يكون سعودياً فحسب بل ملكياً ايضا.
اردت اثناء حديثي الهاتفي معه القول ان بقاءه قائداً حياً أهم من كونه بطلاً ميتاً، لكنني لم استطع مقاومة شعور طفولي انتابني فجأة، وجعلني أضيف الى تطميناتي له إلى قرب وصول العون الجوي: "تأمّل يا خالد: انا اطلب منك ان تثق بي، فيما انا جالس في مخبأ محصن في الرياض وانت في ساحة المعركة في الخفجي"!
بحلول ظهر الواحد والثلاثين من الشهر كانت معارك الخفجي قد انتهت، ولم يبق من العراقيين سوى فلول معزولة في الصحراء والبلدة. خلال المعركة من اجل البلدة نفسها قامت القوات السعودية والقطرية بدورها في شكل تام، وقاتلت بضراوة وتصميم، فيما برهن الأمير خالد على قدرته القيادية تحت النار لا اعتقد انها كانت موضع شك لديه أصلاً.
النتيجة كانت بالتأكيد رائعة للمغرمين بالحسبة، فقد دمر المئات من الدبابات والمصفحات والشاحنات في الكويت وأراضي المملكة وسقط نحو 500 عراقي في الأسر... لكن هذا الانتصار لم يكن بالمجان، فقد خسرت قوات شمال المملكة خمسين جندياً مسلماً ما بين قتيل وجريح.
[url=http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat INT/1999/6/30/%D8%AF%D9%81%D8%B9-%D8%B5%D8%AF%D8%A7%D9%85-%D8%A8-3-%D9%81%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%95%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%81%D8%AC%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AC%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D9%88%D8%A9-%D9%88%D9%83%D8%A7%D8%AF-%D8%AF%D9%85-%D9%85%D9%84%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%94%D9%86-%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D9%84-.html]مصدر[/url]