لعبت الأجواء الإقليمية والدولية والمحلية أواخر الثمانينيات دورا في تشجيع الهند على القيام بخطوات رسمية نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، خصوصا أن انتهاء الحرب الباردة قد غير الصورة النمطية للمشهد العالمي، وفرض معطيات جديدة في العلاقات الدولية.
ظهرت الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة لا منازع لها في إطار العلاقات الدولية. وتشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق تحالفات القوى حسب رغبات الأميركيين الذين ساعدوا إسرائيل بصفتها أقرب حليف لهم، وهو ما فتح المجال أمام إسرائيل لتعزيز وتنويع علاقاتها الدولية.
وفي هذا الإطار بدأت العلاقات الإسرائيلية الهندية تتحسن بشكل جلي منذ العام 1992، ولعل امتناع الهند عن التصويت بمجلس حقوق الإنسان قبل فترة وجيزة على قرار يدين إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة العام الماضي 2014، يمثل انعكاسا واضحا لتطور هذه العلاقات.
بعد عام 1967، انتقلت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى ياسر عرفات، رئيس حركة فتح. وعلى ضوء الظروف المتغيرة، تبنت الهند توجها نشطا، وأصبحت تعبر عن مساندتها لمنظمة التحرير الفلسطينية ومعاداتها لإسرائيل. وفي السنوات التالية لذلك شهد الوضع تغيرا نوعيا. فقد ظهرت عداوة هندية صريحة للأخيرة، وكان مرد ذلك في الغالب لإرضاء وجهة النظر العربية.
انخرطت الهند حينها في الصراع العربي الإسرائيلي كمعاد حقيقي لإسرائيل. ولم يستطع حتى حزب جاناتا -الذي كان مواليا لإسرائيل- تجاهل العرب. ومن أمثلة مواقف الهند الموالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، زيارات وفود المنظمة المتكررة للهند، ودعم الهند القوي للمنظمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في فترة ما بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1975، وقرار الهند منح المنظمة الوضع الدبلوماسي الكامل في مارس/آذار 1982.
في مقابل ذلك شهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي ما يمكن تسميته تلطيفا في الموقف الهندي تجاه إسرائيل. ومع بداية التسعينيات، أصبحت سياسة الهند تجاه إسرائيل أكثر وضوحا. فقد أكملت حكومة ناراسيما راو عملية التطبيع مع إسرائيل. ومع وصول ناريندرا مودي إلى سدة السلطة التنفيذية في الهند العام الماضي 2014، برزت ملامح تغير حقيقي في العلاقة الهندية مع إسرائيل.
اعتبرت وزارة الخارجية الإسرائيلية امتناع الهند عن التصويت بمجلس حقوق الإنسان قبل فترة وجيزة على قرار يدين إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة العام الماضي 2014 انتصارا للدبلوماسية الإسرائيلية، حيث كانت الهند منذ عقود تقود حركة دول عدم الانحياز التي تدعم الحقوق الفلسطينية في الأروقة الأممية.
وقد أجمعت تحليلات سياسية إسرائيلية بأن مرد التغيير في الموقف الهندي يعود إلى ناريندرا مودي الذي أصبح رئيسا للوزراء في الهند في أبريل/نيسان 2014، والذي قرر تغيير النهج الهندي إزاء إسرائيل. ولهذا يعتبر الموقف الهندي انتصارا للموقف الإسرائيلي في وقت ارتفعت فيه وتيرة المقاطعة الرسمية والشعبية في الغرب للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وكذلك لاقتصاد المستوطنات الإسرائيلية الجاثمة على الأراضي الفلسطينية.
وقد أكدت دراسات إستراتيجية أن ثمة أهدافا هندية إستراتيجية وأمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية، أدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ عام 1992، وقد عزز التوجه الهندي لتمتين العلاقة مع إسرائيل، انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فضلا عن رغبة الهند في تطوير وتحديث قدراتها العسكرية ببعديها التقليدي وغير التقليدي، بما يدعم نفوذها ودورها الإقليميين في مواجهة باكستان، خاصة في ظل سباق التسلح القائم بينهما والذي يمتد إلى الخيار النووي.
والثابت أن الهند قد اعتمدت لفترة طويلة على الاتحاد السوفياتي السابق كمصدر رئيسي لتوفير احتياجاتها من الأسلحة بكافة صنوفها، مستفيدة في ذلك من طبيعة العلاقة الإستراتيجية التي كانت تربطها مع موسكو. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ورغبة في تلبية رغبتها في استكمال مشاريعها الخاصة بتطوير الصناعات العسكرية التي من دون مساعدة خارجية ستتطلب استنزاف الكثير من الوقت والتكلفة، قامت الهند بحل هاتين المشكلتين -أي مشكلة الوقت والمستوى التكنولوجي الرفيع- بأن لجأت إلى إسرائيل.
وجاء ذلك خصوصا في ضوء اتفاق الدول الصناعية الثماني الكبرى على تقييد نقل التكنولوجيا العسكرية إلى الدول الأخرى، إثر قرارات الحظر التي فرضتها الولايات المتحدة على كل من الهند وباكستان في أعقاب تجاربهما النووية والصاروخية في عام 1998، هذا بالإضافة إلى أن الصناعة العسكرية الإسرائيلية تتميز باعتمادها الأساسي على التكنولوجيا الأميركية المتطورة.
تمثل اتفاقية أوسلو (1993) أحد أهم العوامل الجوهرية التي دفعت نحو التحولات النوعية في العلاقات بين الهند وإسرائيل، فضلا عن تطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية وإسرائيل بعد تلك الاتفاقية، ناهيك عن وجود علاقات جيدة بين العديد من الدول العربية وباكستان، الجار والعدو التقليدي للهند.
وقد تسارعت وتيرة تعزيز العلاقات خلال السنوات الأخيرة، لأن الهند تعتبر العلاقة مع إسرائيل بمثابة بوابتها العريضة نحو دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهي تسعى من خلالها لتوثيق وتطوير علاقاتها بهذه الأخيرة في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
وترى الهند في تطوير علاقاتها مع إسرائيل ذخرا سياسيا إستراتيجيا في إطار صراعها مع باكستان حول قضية كشمير وامتلاك الخيار النووي من جهة، ومحاولة الإخلال بميزان القوى لصالحها في إطار صراعها مع الصين في الزعامة والسيطرة على قارة آسيا من جهة أخرى.
على المستوى الدبلوماسي تعاونت الهند مع إسرائيل في بعض القضايا التي تعرضت فيها إسرائيل للإدانة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالمساواة بين الصهيونية والعنصرية، مقابل تأييد إسرائيل للهند في مواجهة باكستان.
وقد تغير نمط التصويت الهندي في القضايا العربية حيث لم تعد الهند تتبنى مشروعات قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، كما أصبحت تمتنع عن إدانة التصرفات الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، وكان آخرها امتناع الهند عن التصويت بمجلس حقوق الإنسان قبل أيام على مشروع قرار يدين المجازر الإسرائيلية إبان العدوان على قطاع غزة في صيف العام الماضي 2014، والتي سقط خلالها آلاف الشهداء والجرحى.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن التحولات النوعية الأخيرة في العلاقات الهندية مع إسرائيل، ستوفر للأخيرة فرصة إضافية للإفلات من الإدانات في المحافل الدولية، وتفتح في ذات الوقت السوق الهندية الكبيرة أمام المنتجات الإسرائيلية، بعد ارتفاع وتيرة المقاطعة الاقتصادية الشعبية والرسمية الغربية لإسرائيل خلال السنوات الأخيرة.
ويبقى القول إن التحولات في العلاقات الهندية الإسرائيلية، ما كانت لتحدث لولا تراجع العلاقات العربية الهندية، وعدم قدرة الدبلوماسية العربية على بناء علاقات قوية ومتينة مع الهند التي تعتبر من القوى الصاعدة في المشهد الدولي، اقتصاديا وسياسيا أيضا.