منذ القرن السابع عشر نادى العديد من المفكرين والفلاسفة الألمان ضرورة اتحاد يجمع الجنس الآري وهو الجنس الذي ينتمي إليه الألمان تحت لواء دولة قوية يمكنها السيطرة على أكبر رقعة من الأراضي الأوربية وتحقيق الاستقرار لأبناء ألمانيا بعد أن تعرض الألمان لحروب كثيرة وإضطهاد من قبل المستعمرين، من هنا بدأ الخطر الألماني المفتون بالنزعة العسكرية والطموحات الألمانية والمناداة بالسيادة للجنس الآري، وتوصل الألمان في القرن التاسع عشر إلى توحيد ألمانيا وأصبحت أقوى دولة وزاد الخطر الإلماني على أوربا وحاول الأوربيين بشتى الطرق إعاقة هذا التحالف بشن مؤامرات وفتن لكن صمد الألمان في وجه كل المحاولات وبدأوا في التصنيع الحربي وتوفير الآلية العسكرية. فأندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى وتحالفت معظم الدول الأوربية ضد ألمانيا حتى انهزمت ووقعت الدول في أخطار كثيرة بعد الحرب حيث أُلزمت ألمانيا بدفع كل التعويضات، ووقعت معها معاهدة فرساي الشهيرة .
وظلت ألمانيا مقيدة حتى اعتلى حكم ألمانيا الزعيم النازي هتلر والذي جدد أحلام الألمان وسيطرة الجنس الآري ، وكان لا بد من تحقيق هذه الرغبة التي أصبحت حلم جميع الألمان، لا بد من بناء جيش قوي وجهاز مخابرات وجهاز تجسس .
الألمان يتميزون بالدقة والانضباط الشديد والحرص على النظام في أعمالهم وأنشطتهم ، وانعكس هذا على عمل الجاسوسية والتفوق على بقية الدول الأوربية، وتمكنت أجهة الجاسوسية في الحرب العالمية الأولى من إلقاء القبض على 411 جاسوساً تابع لأوربا يتجسسون على الجيوش الألمانية ومصالحها وبرع الألمان في عالم الجاسوسية وإنشاء مدرسة الجاسوسية ويتم انتقائهم بعناية تامة منذ الصغر، وتخرج فيها أمهر الجواسيس الذين برعوا وتفننوا في عمل الجاسوسية التي اعتمدت عليها المخابرات الألمانية.
وقبل بداية الحرب العالمية الثانية أبدى الألمان اهتماماً تاماً بدراسة شؤون الدول التي تقع إلى جوارهم ، وجمع كافة المعلومات العسكرية واستعداداتها ، ونوع الأسلحة وموقفها الاقتصادي.
وجمع هتلر حوله رجال كثيرون ومفكرين حصلوا على أهم المناصب في الدولة والحزب، منهم ردولف هيس نائب الرئيس وهيرمان جورنج مسؤول الأمن والنظام وعمد النظام إلى إنشاء جهاز يحمي أفراد الحكومة والحزب والزعيم هتلر وكونوا جهازاً أطلقوا عليه (الجستابو ) البوليس السري..
وقبل بداية الحرب زرع الألمان كثير من الجواسيس في كل أنحاء أوربا ، إلى جانب إنشاء شبكات عديدة من الجواسيس المحترفين، وقدموا تقاريراً ومعلومات عن كافة حالات الدول الأوربية، وعن نوعية أسلحته واستعدادها وموقعها الاقتصادي الأمر الذي جعل بإمكان الألمان وضع خطة لمهاجمة تلك الدول وبرع الجواسيس في أدق التفاصيل وتحليلها وتسليمها للألمان ، ثم زودوا الألمان بكشف كامل لكل الجواسيس المعادية لألمانيا ، والتي تم القبض عليهم جميعاً ، وتم إعدامهم ، ولعل أخطر عمل قام به الجواسيس عندما فكرت ألمانيا في غزو بولندا كانوا قد وضعوا خطة بقتل الملحق الألماني في العاصمة وارسو ليتخذوه ذريعة لغزو بولندا، ولكن غيروا الخطة بعد أن قدم لهم الجواسيس عملية أدق وأهم ، فقام الجواسيس باحتلال الإذاعة البولندية وإذاعة بيان ثوري يعلن استيلاء قوات المقاومة الشعبية البولندية على السلطة في البلاد الأمر الذي أدى إلى مواجهة وبث الفوضى بين الجيش والشعب فوجدت القوات الألمانية المتأهبة لغزو بولندا الفرصة لاقتحام بولندا، وكانت الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية وأطلقوا على هذه العملية (الخبرة الميتة.) هذه واحدة من آلاف العمليات التي قامت بها المخابرات الألمانية عبر تاريخها الطويل والحافل بالمغامرات والوقائع التي لا تصدق وهي أغرب من الخيال.
وتفوقت الجاسوسية الألمانية في حجم عملياتها وامكانياتها والاستفادة من التقنية الألمانية على كثير من الدول التي لم تستطيع مجاراتها، وأرتبط عمل الجاسوسية الألمانية ارتباطاً وثيقاً بحروب ألمانيا العالمية الأولى والثانية، التي شهدت أكبر قصص للجاسوسية إثارة وغموضاً.
والجاسوسية مرتبطة أعمالها بالصراعات العسكرية والسياسية فهي تمثل العمود الفقري في جمع المعلومات وتحليلها ، ومنذ بداية القرن العشرين أصبحت هناك مدارس للجاسوسية في كل من انجلترا وروسيا وفرنسا وأهمهم المدرسة الألمانية العريقة صاحبة الفكرة وتميزت بمزايا خاصة وحقق خريجوها نجاحات عالية وسجلوا أسماءهم على صفحات تاريخ الجاسوسية واستطاعوا إختراق الحواجز المنيعة، وسرقة أدق الأسرار وتقديمها لألمانيا، ومن أشهر النجاحات التي حققتها اختراق شفرة الأسطول البريطاني عام 1940م، ومعرفة كل تحركاته، والتعليمات التي تصدرها القيادة البريطانية إلى جانب المعرفة التامة بتحرك الأسطول التجاري، الأمر الذي جعل الألمان في مأمن، وإغراق كل السفن البريطانية .
وأكبر خدعة قام بها الألمان تلك الخدعة التي استمرت حوالى سنتين ونصف دون أن تكشفها إنجلترا والتي كشف تفاصيلها بعد هزيمة ألمانيا. ولازالت انجلترا حائرة في خدعة الألمان حتى الآن بعد أن تكشف حقائق ومعلومات مثيرة قامت بها المخابرات الألمانية، والتلاعب بالحلفاء، ووقعت أحداث هذه الخدعة في هولندا التي احتلتها ألمانيا ،وفي خلال هذه الخدعة تمكن الألمان من إلقاء القبض على مئات الجواسيس البريطانيين ودول الحلفاء وتلاعبت بأجهزة المخابرات المعادية طيلة سنتين ونصف دون أن يكشف أحد سرها، وهو أكبر النجاحات التي حققها جهاز المخابرات الألمانية من خلال شبكة الجواسيس المدعومة بأحدث أجهزة الاتصالات والتقاط الشفرات وفكها وأثناء الاحتلال الألماني لهولندا نزح كثير من الجواسيس الإنجليز ودول الحلفاء إلى هولندا، وشكلوا منظومة من عدة شبكات لمعرفة تفاصيل الجيش الألماني وتحركاته وإنشاء جبهة شعبية لمحاربة الألمان والقيام بأعمال التخريب وشل حركة الألمان وإيقاع أكبر الخسائر فكانت بريطانيا تمدهم بالمال والسلاح لكن الألمان يعرفون جيداً مثل هذه الحالات في كل الدول التي احتلوها وقاموا بإنشاء جهاز خاص مضاد للجواسيس والإيقاع بهم، فهم متمرسون في اصطياد الجواسيس وتعقبهم واكتشاف مقراتهم وقطع علاقتهم مع انجلترا وفي عام 1941م نجح أحد الجواسيس الألمان من اختراق أحدى منظمات السرية للمقاومة ومعرفة أسرارها وتحركاتها وحصل على أخطر سر رهيب التي كانت مفتاحاً للخدعة الألمانية الجهنمية فقد اكتشفت إذاعة سرية تعمل في ساعات معينة كل ليلة فتابع ضابط اللاسلكي هذه الإذاعة، وتحقق من صحة ما قال العميل فقررت المخابرات الألمانية الإستيلاء على المحطة وتم القبض على مدير الإذاعة الإنجليزي وجميع الطاقم العامل مع دون أن يشعر أو يشعر بهم أحد بالرغم من أن هذه المحطة يشوبها الغموض والسرية التامة، ولم يضع الإنجليز يوماً في الحسبان أن المخابرات الألمانية بمقدورها معرفة المحطة أو فك شفرتها، وتمكن الجواسيس الألمان من معرفة فك شفرة المحطة وأمر الألمان مدير المحطة وطاقمه الاستمرار في العمل تحت ضغط الألمان أو إعدامهم فوافقوا على العمل تحت إشراف الألمان وبدأت الإذاعة السرية تواصل عملها وترسل معلومات يومياً يعدها الألمان ويستقبلون يومياً إشارات من إنجلترا، وفي أول رسالة من لندن للمحطة أن هناك كمية من الأسلحة والعتاد سوف تصل في منطقة معينة فيقوم الألمان بالاستيلاء عليها وتصويرها وإرسال إشارة لهم أنها وصلت بسلام مع جميع طاقمها وتوجهت إلى ميادين القتال والشيء الغريب أن مدير المحطة الإنجليزي المستر بويوز حاول أن يخبر الإنجليز أنه يعمل تحت التهديد، فكانت هناك شفرة متفق عليها بينهم بأن يتوقف لحظةً بعد ستة عشر كلمةً ومعنى ذلك أن هناك شيء حدث لكن الإنجليز لم يفطنوا أبداً إلى هذه الشفرة السرية لأن الرسائل التي تصلهم كلها تدل على سلامة المحطة، وإنجازات المقاومة، ولعبت المخابرات الألمانية دوراً سجله التاريخ في براعة التجسس، وقاموا بإيهام الإنجليز وتوصل خبراء اللاسلكي الألمان إلى اكتشاف محطة غريبة للإنجليز في المحطة الأولى التي استولوا عليها ، وتقع في اوترخت، وكانت المفاجأة أيضاً قيام الألمان بمطاردة بعض الفدائيين وقتلهم ، ووجود جثة أحد الفدائيين البريطانيين كشف وجود خمسة محطات أخرى سرية !! بالإضافة إلى شفرة جديدة يتم استخدامها في الإذاعة، ولكن الألمان تركوا الجثة وحملوا كل المعلومات ونصبوا كميناً محكم حول الجثة، وتركوا بقية الجثث كما كانت، وبعد قليل حضر بعضاً من رجال المقاومة الهولندية السرية لإخفاء الجثة، والحصول على كل الأوراق السرية حتى لا يقع في أيدي الإلمان، فكانت المفاجأة أن وقعواجميعهم في يد الألمان وبحوزتهم بعض الأوراق السرية، وشفرة جديدة للمقاومة،
وكان من الصعب أن يقوم الألمان بتشغيل محطة الراديو الجديدة فخدعوا المخابرات الإنجليزية، وأرسلوا لهم رسالة بواسطة الشفرة التي عرفوا سرها بأن الفدائي الذي كان موكلاً بتشغيل المحطة قد قُتل بواسطة الألمان، لكن كل شيء تمام !! ولم يكشف الألمان سره، وأن المقاومة تقوم الآن بإعداد ضابط جديداً ليقوم بتشغيل المحطة، وصدق الإنجليز كل ما جاء بالرسالة!! وهم لا يدرون أنها خدعة ألمانية!! وقام الألمان بتشغيل المحطة بواسطة أحد رجال اللاسلكي، لم يكن سوى أحد الجواسيس الألمان، وكانت تلك خدعة بارعة وبدء في الإرسال عن سير العمليات وما تقوم به المقاومة من أعمال فدائية فيقوم الألمان بوضع الكمائن لهم لدى وصولهم والقبض عليهم .
وبرع الألمان في تشغيل كافة المحطات السرية الإنجليزية، وأصبح كل العاملين عليها ألمان أو من عملائهم ، وكانوا يوهمون الإنجليز في نشرات سرية أنهم يستبدلون القائمين على أمر تشغيل المحطات، لأن شكوك الألمان تحوم حولهم، الأمر الذي يؤدي إلى اكتشافهم ونجح الألمان نجاحاً باهراً في خدعة انجلترا في استبدال القائمين على الإرسال بينما فشلت المخابرات البريطانية طيلة سنتين ونصف في الشكوك أو التمييز بين الأصوات واللهجات وظل الألمان يوهمون الإنجليز فيقوموا بإشعال الحرائق في مخازن قديمة، وكذلك محطات السكة حديد، ومعسكرات وهمية للجيش الألماني، ويقوموا بإرسال صورها بأسم المقاومة، ثم يتم تسجيل صوتي لأحد الفدائيين الإنجليز يحكي كيف دمروا هذه الأماكن، وأنهم يعملون بدقة، وعجزت أنجلترا في اكتشافهم وهم يعملون في أمان وتكررت مثل هذه الرسائل الخادعة بصوت الفدائيين الإنجليز، كذلك كان يقوم الألمان بإعدام الجواسيس والفدائيين الإنجليز بعد ارتدائهم لبس الجيش الأنجليزي وحرق بعض الآليات العسكرية القديمة ثم يأتوا ببعض الفدائيين الإنجليز ويتم تصويرهم في هذه الأماكن وسط الجيش والآليات العسكرية ويرسلوا هذه الصور لإنجلترا مع شريط صوتي لبعض الفدائيين ليكشفوا ما قام به هؤلاء الفدائيين من بطولات. كل هذه الخدع الألمانية لم تفطن لها المخابرات الإنجليزية ، فكانت إنجلترا مكشوفة أمام الألمان، خربت كل أساطيلها الحربية والتجارية، وأغرق الألمان أكثر من ثلاثة ألف باخرة إنجليزية، إلى جانب الأساطيل، والشيء الغريب أن بريطانيا كانت ترسل رسائل تطالب عودة بعض الأشخاص لأسباب هامة وتزويدهم ببعض المعلومات، ولكن كانت المخابرات الألمانية تتعامل مع هذه الرسائل بكل ذكاء، فكانوا يسجلون شريطاً صوتياً وسط طلقات المدافع والسلاح لبعض الأشخاص المطلوب حضورهم إلى لندن، ويتحدث هؤلاء من خلال الشريط أنهم يخوضون معارك ضارية مع الألمان ولا يستطيعون ترك أماكنهم، لأن العيون الألمانية تراقبهم في كل مكان، وهم يشكلون يومياً خطراً على الألمان، وأن جميع محطات العودة مراقبة فعرفت المخابرات الإنجليزية ما يقوموا به !!! ووجدوا لهم العذر الكافي من عدم العودة.
كل هذه الأعمال كانت من خطط المخابرات الألمانية التي نجحت خلال سنتين ونصف حتى نهاية الحرب في خدعة المخابرات الإنجليزية التي لا زالت تعاني من أثر هذه الخدعة الرهيبة التي لم تستطيع كشفها ومات آلاف الجنود الإنجليز وتعرضت سفنهم وأساطيلهم للدمار وخسرت مليارات الجنيهات بسبب الخدعة الألمانية التي كبدتهم خسائر لا حصر لها وأصبحت هذه الخدعة عقدة للمخابرات البريطانية التي فاتت عليها هذه اللعبة...