سلسله المقالات التاليه مقتبسه من مذكرات السيد فاروق الشرع " نائب الرئيس السوري ووزير الخارجيه السابق " والتي نشرت في يناير 2015 بعنوان " الروايه المفقوده "
نعلن بفخر " وحصريا " لاعضاء وزائري المنتدى العسكري العربي الكرام باننا سنورد اجزاء من هذا الكتاب الهام بشكلل متتابع
هذا الجزء يتحدث عن ازمه الكويت وحرب الخليج الثانيه " 1990-1991 " :
الانهيار الكبير
خلال هذه الأيام المرتبكة كان القادة العرب يبحثون عن الالتئام في قمة عربية. كان الشيخ صباح الأحمد الصباح وزير خارجية دولة الكويت التي دعمت نظام صدام حسين بجزء كبير من حاجته للتمويل خلال الحرب
العراقية - الإيرانية هو من طرح خلال اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في آذار/ مارس 1990 أن تكون دمشق مقرًا لاجتماع القمة العربية. أدهشني الاقتراح ورحّبت به فورًا من دون العودة إلى الرئيس، فقد كنت في مثل هذه الأمور التي تبدو فيها مصلحة سورية واضحة أتصرف من دون مراجعته.
كان وزير الخارجية العراقي طارق عزيز حاضرًا، ولم يعترض، لكن الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية في تونس طرح عليّ مسألة أن ألتقي مع عرفات حتى نضمن نجاح القمة في دمشق؛ إذ لا يعقل أن تعقد القمة في دمشقوالخلافات بين عرفات وسورية قائمة.
قدرت للقليبي هذا الاقتراح ولم أمانع في ذلك لأني أعلم أن موافقة فاروق القدومي في مجلس الجامعة القريب من سورية لا تكفي لكي نقول إن المنظمة وافقت على عقد القمة في دمشق.
طلبت من القليبي أن يحضر الاجتماع بيني وبين عرفات، وكان طلبي يعكس فجوات التوتر من جهة، ورغبتي في ربط موافقة عرفات إن حصلت بحضور أمين عام الجامعة من جهة ثانية. رحب القليبي وأجاب بشكل دبلوماسي أنه سيذهب معي للقاء مع عرفات.
توجهت والشاذلي القليبي إلى مقر عرفات، وكان هناك في القيادة السورية من يعتبر ذلك كفرًا. لكن الرئيس الأسد كان يتفهم موقفي من اتخاذ مثل هذه المبادرات في هذه الظروف الصعبة.
في اللقاء الثلاثي اتفقنا مع عرفات على عقد القمة العربية في دمشق، على أن يتم الاتصال ما بين الدول العربية على أساس ذلك. كان الوضع هو أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد وافقت على عقد القمة في دمشق ولم
يعترض العراق عليها ممثلً بطارق عزيز.
لم تكن السعودية متحمسة للقمة بقدر حماس بقية دول مجلس التعاون لكنها لم تعارض انعقادها. وأضيف إلى ذلك عدم وجود مشكلة لدى دول المغرب العربي فهم كانوا دائمًا يفضلون أن يروا حصول التفاهم العربي في المشرق لأنهم على الرغم من بعدهم لا يشيحون النظر عن هموم فلسطين والمشرق العربي ودمشق في القلب منه.
كان الرئيس الأسد مرتاحًا جدًا للاتفاق على عقد القمة العربية في دمشق، لكن بعد حوالى أسبوعين من اتفاقي مع عرفات، فوجئنا بعرفات يعلن من بغداد في مؤتمر صحافي بعد أن التقى مع الرئيس العراقي صدام حسين أن
القمة العربية ستعقد في بغداد، أم الشهداء، وأن الرئيس صدام حسين رحّب باستضافتها.
على الرغم مما خلّفته الحرب مع إيران من ضحايا، لم تستطع الدول العربية التي دعمت انعقاد القمة في دمشق مقاومة رأي عرفات - صدام. رجح عرفات بوصفه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الموقف العربي ودعا العراق
بنتيجة ذلك إلى عقد قمة عربية طارئة تلتئم في 28 أيار/ مايو 1990 في بغداد، وحدد جدول أعمالها الأساسي من دون استشارة سورية، وكان من أبرزه موضوع هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل؛ وهو موضوعنا بالتأكيد.
بين 2 و 5 أيار/ مايو 1990 زارنا كل من الرئيس المصري حسني مبارك والأمير عبد الله بن عبد العزيز بهدف جس نبضنا بحضور مؤتمر القمة العربية في بغداد فوافقنا على ذلك من حيث المبدأ.
تعهد عصمت عبد المجيد وأسامة الباز بتوجيه من مبارك أن يتفرغا للعمل معنا للإعداد الجيد للقمة في بغداد.
كان الرئيس الأسد وأنا نرغب في المشاركة فعليًا في القمة لدرجة أنني قضيت ساعات طويلة مع الرئيس في قصر الشعب في محاولة لإيجاد مخرج للمشاركة والسفر إلى بغداد لأن العلاقات مع العراق كانت مقطوعة بالكامل. كان الرئيسالأسد يرغب في أن يتصل معه صدام حسين شخصيًا ويدعوه لحضورها كمبادرة ودية لمحاولة الخروج بموقف عربي موحّد تجاه الأخطار التي تهدّدالأمن القومي المشترك في مرحلة التغير الكبرى، ووقوع الاتحاد السوفياتي
على شفا التفكك والانهيار.
وكان هناك أساس لهذا الموقف فلقد اعتبرنا أن نهاية المغامرة «اللبنانية » لصدام حسين، وقبوله على مضض بمؤتمر الطائف أمران إيجابيان. لكن الأسد كان يخشى إذا لم تكن الدعوة لائقة أن يكون صدام حسين يخبئ في
جيبه «مفاجأة » جديدةً. وكان هذا التقدير المبكّر من الرئيس مبنيًا على تقديرات تصريف فائض القوة والهيمنة عند صدام، وليس عملية «تخويف » أو «تحريض » فقط.وكنت أعتقد والرئيس الأسد يشاركني هذا الاعتقاد بأن حضور هذه القمةأمر في غاية الأهمية، وحسن النية أساسي للحضور. وأن المهم هو مبادرة من نوع خاص. واقترحت سرًا على عصمت عبد المجيد وأسامة الباز اللذين أكن لهما احترامًا خاصًا وأنا أقود السيارة بهما إلى المطار بأن الأمر يمكن حله لو بادر الرئيس العراقي وتحدث هاتفيًا مع الرئيس الأسد، ونقل إليه حرصه على مشاركته في القمة. واقتنع الرئيس الأسد بعد جهد وشرح أن من شأن هذه المكالمة أن تعوض العلاقات الدبلوماسية المقطوعة والثقة المفقودة. قلتلأسامة الباز أن يذهب إلى بغداد بعد أن يستأذن مبارك ويشرح للرئيس صدام بمهاراته الدبلوماسية أهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى الأسد، لكن الباز سافر وعاود الاتصال ولم ينجح. واستنتج الرئيس الأسد أن صدام لا يرغب في
حضوره القمة، وأنه فيما إذا قرر المشاركة قد يفاجأ بطريقة تعامل لا يرغب فيها،لأنها ستزيد التوتر، وستصب مزيدًا من الزيت على نار الخلافات السورية -العراقية.
لم نكن مرتاحين أبدًا لنتائج الاتصالات التي تبعدنا عن حضور القمة، أو تلك التي لم تنجح في إقناع صدام بخطوة يبادر إليها لتسهيل المشاركة السورية والسفر إلى بغداد التي لا يوجد فيها بعثة سورية أو رعاية مصالح لسورية.
ذكّرت الرئيس الأسد بسفري إلى بغداد في مطلع الثمانينيات في الظروف نفسها والأجواء فاستغرق الرئيس بالتفكير. أخذ يقلّب الأمور ويزنها من جميع الجوانب وطلب مني أن أرافقه بالسيارة لنتابع الحديث. وقال للسائق والمرافق
أن يدورا حول القصر ثم إلى دمر والهامة وطريق بيروت ثم نادي الرماية ثم العودة إلى دمشق حتى ما بعد منتصف الليل.
كان الرئيس يشعر مثلي بضرورة وجوده في القمة العربية التي اعتبرها مفصلية لأنها ستعقد بعد شعور صدام بانتصاره في الحرب مع إيران بعد ثماني سنوات وفي ذروة ضعف الاتحاد السوفياتي وبداية انهياره. لم يفهم لمَ انحاز
عرفات لعقد القمة في بغداد فشعر بأن شيئًا ما بالغ الخطورة سيتمخض عن القمة أو في أعقابها.
عُقدت القمة في موعدها في بغداد ولم تشارك سورية فيها. لم يتصل صدام حسين بحافظ الأسد ولم يسافر الأسد إلى بغداد.
بعد إنهاء القمة مباشرةً وصل مبارك إلى دمشق قادمًا من بغداد. كان شديد القلق من نيات صدام في إدارته ومداخلاته، ونقل إلى الرئيس الأسد أجواء القمة، وأن صدام حسين قد قال له وهو يودعه في المطار متوجهًا إلى دمشق
بألا يسافر إلى سورية، لكن الرئيس مبارك لم يقبل بذلك. كانت لفتة مبارك ودية، وقدرها الرئيس. ورسخت لديه ما كان يتوجس منه، وهو أن المنطقة أيضًا مقبلة على تطورات لا تحمد عقباها.
رسالة من الأسد لفهد حول الاجتياح
لم يتأخر وضوح هذا الهدف، وكان وضوحه بداية الفصل الأول من كارثة العراق وكارثة الكويت، وانهيار الأمن العربي المشترك. في حزيران/ يونيو 1990 بعد القمة العربية مباشرة وتّر الرئيس العراقي الوضع مع دول الخليج،
ودعا إلى عقد اجتماع لدول منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك » للاتفاق على حصص الإنتاج، والحيلولة دون استمرار تدهور سعر برميل النفط الذي نزل إلى 10 دولارات في السوق العالمية. كان ما طرحه صدام حسين حقًا يراد به باطل، إذ ظل مقتنعًا أن ما يريده من أموال ومواقف من الكويت لا يمكن أن يحصل عليه إلا بالقوة، غير مدرك أن إغراق السوق بالنفط قد نتج من سياساته التي أجبرت دول الخليج على تمويل الحرب الطويلة مع إيران عن طريق زيادةإنتاجها من النفط. لكن المشكلة لم تكن هنا فحسب، بل تمثلت في أن الرئيس العراقي قد أعطى طموحاته الشخصية أيضًا مبررات إقليمية ودولية لاجتياح الكويت وما وراءها بعد أن وضعت الحرب مع إيران أوزارها.
حملني الرئيس الأسد رسالةً إلى الملك فهد ليفهم روايته للأحداث الجارية. التقيت مع الملك ونقلت له الرسالة. قال لي الملك إنه التقى مع صدام في منطقة حفر الباطن قبل عدة أسابيع قليلة إبان إثارة قضية الحصص، واجتمع معه على مدى يومين، وقام بتطييب خاطره. وكان راضيًا، وأن صدام قال له في الاجتماع إن السعودية مملكة مهمة فلماذا تترك هذه المشيخات الهزيلة في الخليج ولا نتقاسمها معًا؟ أجابه الملك فهد: يا أبا عدي، لقد أنعم الله عليّ بأرضٍ واسعةٍ، ولا أحتاج إلى مزيدٍ منها. كانت مفاجأتي أن الملك فهد في حديثه معي لم يكن يستنتج أن صدام سيقوم بالفعل باحتلال الكويت. وبكلامٍ آخر لم يكن هذا الاحتمال ضمن تقديراته، وظلّ يعتقد بأن روابط الأخوّة ستنتصر على الخلاف مهما كانت دوافعه. فالملك فهد لم يكن ساذجًا، ولكنه كان لا يحب المشاكل، ويفضل الحلول السياسية والدبلوماسية إلى درجة أنه لم يفتح أية حملة إعلامية على صدام قبل غزوه لدولة الكويت، وظل عدة أيام على هذه الحال بعد الغزو.
توتر الخلاف العراقي - الكويتي، ووصل إلى مستويات خطيرة.
في 14 تموز/ يوليو 1990 قام الأسد بزيارة مبارك في القاهرة، ورافقته في هذه الزيارة التي استمرت يومين. في الطائرة كان تقييمنا بأن الأزمة الآن قد دخلت في مرحلة العقدة، وأن صدام سيجعل منها أزمة ثقيلة ثقل الجبال. وكان هدف الأسد من زيارة مبارك ليس مجرد توجيه رسائل بأن سورية ليست معزولة، وأنها قادرة على الحركة، بل أيضًا كي يسمع من مبارك نفسه عن الخطوات التي يفكر في القيام بها، ولا سيما أن مصر كانت قد وثقت علاقاتها مع العراق وانضمت إليه العام الماضي في مجلس أطلق عليه «مجلس التعاون العربي » الذي ضم إلى جانب مصر كلً من الأردن واليمن.
أخذ التوتر يتسارع بين يومي 17 و 18 تموز/ يوليو 1990 إذ هاجم صدام حسين إعلاميًا الدول العربية الخليجية وخصوصًا الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة، واتهمهما بالغدر وبطعن ظهر العراق، كما وجه وزير الخارجية العراقي طارق عزيز شكوى رسمية ضد الكويت والإمارات إلى جامعة الدول العربية في تونس قبل أسابيع بدعوى تآمرهما على الاقتصاد العراقي، وسرقة نفطه. حين قرأت نص الشكوى وكانت تركز على الكويت أكثر من الإمارات شعرت بأن الأمر خطير جدًا لأن مطالب العراق بالكويت لها سجل حافل منذ مطلع الستينيات.
في 23 تموز/ يوليو 1990 زارنا الوزير عبد الرحمن عوضي موفد أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد في إطار جولة عربية له. كان تقييمه أن العراق «يبتز » الكويت لإسقاط ديونها المترتبة عليه، والحصول على مزيد من
المساعدات وأن الكويت قد تلقت نصائح من أصدقائها بعدم الرضوخ للابتزاز معتمدًا بذلك على تصريح وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر يومئذ بأن الولايات المتحدة ملتزمة حماية أصدقائها في منطقة الخليج «فرديًا وجماعيًا .»
لم يأخذ الكويتيون على محمل الجد ما تمثل بالشق الثاني من الموقف الأميركي، وهذا ما توضح في ما بعد في نتائج اللقاء في 25 تموز/ يوليو بين الرئيس العراقي وإبريل غلاسبي السفيرة الأميركية ببغداد، حين نقلت غلاسبي
للرئيس العراقي بأن حكومتها تفضل حلّ الخلاف بين الدول العربية في إطار ثنائي لأن العرب يحبون أن تحل مشاكلهم بين بعضهم بعضًا.
كان الأميركيون في الوقت نفسه، وهذا ما عرفناه من مبارك، قد لعبوا ظاهريًا دور تشجيع «الحل السياسي »، مراهنين على الاتصال القائم بين الملك حسين والرئيس الأميركي جورج بوش الأب الذي أمضى قبل الرئاسة سنوات
في المخابرات المركزية الأميركية، ويعرف أكثر مما يعرفه الآخرون. بدأت الدبلوماسية والحلول السياسية تأخذ مجراها بتشجيع أميركي فعُقد اجتماع عراقي - كويتي برعاية سعودية في جدّة يهدئ الوضع بين البلدين إلى حين
الاجتماع بين الرئيس العراقي وأمير الكويت المقرر عقده في 31 تموز/ يوليو. وكان كل من مبارك والملك فهد سيحضران هذا الاجتماع، ويحاولان نزع فتيل الأزمة، على طريقة تفريج الأزمات الشديدة. لكن اجتماع جدة لم ينجح، ولا يمكن الجزم تمامًا بمجريات ما حدث.
في هذه اللحظات وفي هذا السياق بدأت موجات من الاتصالات العربية والدولية مع كل من العراق والكويت، وأعتقد جازمًا في ضوء فهمي لمضمون هذه الاتصالات وليس في ضوء وثائق لا أملكها أن الذين حرضوا صدام على
الغزو كثر، وأن الذين شجعوا على تسوية الأمور ثنائيًا أكثر، لكن القليل جدًا فكروا بخطورة ما سيحصل.
كانت اللقاءات بتشجيع من الرئيس بوش بين الرئيس مبارك والملك فهد وصدام حسين والملك الحسين في عمان لا تهدأ والاتصالات لا تنقطع خلال تلك الأيام والأسابيع العصيبة، والدخول في التفاصيل لن يساعد في فهم أعمق لما حدث، وإنما قد يخلق جوًا من السأم والتشاؤم. كانت النتيجة أن الرئيس العراقي قفز إلى الأمام، وقرر غزو الكويت،
وكأن هذا الجيش - المنفلت من عقاله - يذهب في إجازة كان قد افتقدها طوال سنوات حربه الطويلة مع إيران.
وقعت الواقعة وسبق السيف العذل
في الثاني من آب/ أغسطس 1990 وقعت الواقعة. كنت يومئذ في القاهرة أشارك في اجتماع وزاري لمنظمة المؤتمر الإسلامي. اقترحت عقد مجلس وزاري عربي من وزراء الخارجية العرب المشاركين في الاجتماع.
علّقت جلسات المجلس الوزاري الإسلامي، وتقلصت إلى اجتماع وزاري عربي مصغر دبت فيه الفوضى والأصوات الصاخبة والانفعالات غير المفهومة.
كان ممثلو دول الخليج في تلك اللحظات مضطربين أشد الاضطراب تجاه هول ما حدث، ولم يكن الشيخ صباح وزير الخارجية الكويتي المتميز بهدوئه يومئذ في هذا الاجتماع بسبب انشغاله في الكويت بتطورات الأزمة،
فكان أن أوفد إلى اجتماعات المجلس الوزاري الإسلامي نيابة عنه وزير دولة هو الدكتور عبد الرحمن العوضي. وكان العوضي متوترًا وقلقًا إلى درجة أنه وسّطني لأطرح مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إرسال سيارات
وطائرات عمودية لنقل العائلة المالكة والحاشية ومن يلوذ بهم عند الحدود إلى داخل السعودية. قال لي الفيصل: لقد قمنا بتأمين الأمير والحاشية، ولكن طلباتهم كثيرة. وكان الفيصل لا يبخل بالدعم لكنه كان يمتعض فقط من كثرة
المطالب، وعدم استعداد الكويتيين لاستعمال السيارات في متابعة طريقهم إلى داخل المملكة وصولً إلى الطائف وغيرها من المدن السعودية.
كنا من نزلاء فندق سميراميس في القاهرة القريب من مبنى جامعة الدول العربية أثناء الاجتياح. رغب سعود الفيصل في ألا أتركه، فصعدنا بعد الظهر معًا نتابع الاتصالات وأنباء الاجتياح. لفت انتباهنا أن الرئيس جورج بوش اتصل
هاتفيًا مع الملك حسين، وقال له: هذا صاحبك صدام دخل الكويت لماذا لا تسأله ماذا يريد؟ كان سعود الفيصل يفضل أن يتصل بوش بالرئيس مبارك. قلت له لو أن بوش يريد مبارك لقال له ذلك لأن الاتصال الهاتفي مع الملك حسين
جرى في الإسكندرية بحضور مبارك، ثم إن الأميركيين يثقون بالعاهل الأردني أكثر من ثقتهم بالرئيس المصري. غضب الأمير سعود وفقد أعصابه من دون مبرر.
سافر الملك حسين إلى بغداد، ومن هناك صدر بيان من بغداد ألا تغيير في الموقف العراقي، وأن الجيش العراقي دخل ليبقى.
عندما نزلنا إلى قاعة الاجتماعات حيث بقية الوزراء العرب وصلنا الخبر أن الاجتماع الذي كان مقررًا يوم الأحد في السعودية بين الشيخ سعد الصباح رئيس الوزراء الكويتي وعزة إبراهيم نائب الرئيس العراقي قد ألغي، في وقت
كان فيه بعض وزراء خارجية دول مجلس التعاون يحاولون الانفراد بالمندوب العراقي على مرأى من الجميع، وحديثهم معه كان حينها أقرب إلى الهمس.
وصلنا أيضًا أن سعدون حمادي سيصل بعد دقائق ليرأس الوفد العراقي بدلً من المندوب العراقي لدى الجامعة.
لقد رأى البعض في الساحة الفلسطينية أن احتلال العراق للكويت جاء في محله وأعطى الانتفاضة دماءً وروحًا جديدة. لقد أسر لي المندوب الفلسطيني على هامش اجتماعات القاهرة أنهم يؤيدون احتلال منابع النفط التي لا يصلهم
منها إلا برميل واحد وأن هناك آلاف الفلسطينيين الذين لن يتوانوا عن حمل السلاح داخل الكويت تأييدًا لصدام في اجتياحه للكويت كما أخبرني القدومي حينها في القاهرة.
خرج حمّادي في الاجتماع الوزاري عن طبيعة المفكّر في شخصيته. شتم آل الصباح بتعابير جارحةٍ وغير لائقةٍ لا في الأدب الدبلوماسي ولا في الأدب السياسي. لقد كان واقعًا بدوره تحت ضغط ما حدث، وخارجًا عن طوره
الهادئ والمتزن. أبلغنا بطريقة جازمةٍ حازمةٍ أن العراق لن يخرج من الكويت أبدًا، وأنها غدت جزءًا لا يتجزأ من العراق وأن العائلة الحاكمة لن تعود إلى قصورها.
كان ما سمعته لاحقًا من ضباط عراقيين كبار ظهروا على شاشات التلفزيون من أن صدّام قد قال لهم لا تنفذوا أمر الانسحاب حتى لو أمرتكم به، يتطابق مع ما نقله حمّادي في ذلك الاجتماع.
قال حمادي وهو يخاطب الوزراء العرب وينظر بطرف عينه تارة إلى الوزير المصري وتارة إليّ كوزير سوري: الكويتيون خنقوا سورية ومصر ولا يجودان عليهما بشيء إلا بالقطارة وهما دولتا مواجهة وفقيرتان. كان يحاول كسبي إلى جانب العراق وكسب مصر أيضًا.
قلت لحمادي في الاجتماع العربي: نحن أكثر دولة عربية تتميز بموضوعيتها في مناقشة المشكلة، ونتحدث بوضوح وجرأة، فدعنا نناقش الأمر، فنحن ضد ما حدث مع الكويت وضد الغزو لأننا من حيث المبدأ ضد الاحتلال وخصوصًا احتلال بلد عربي لبلد عربي آخر. على الرغم من أن سياسة الكويت ليست ودية مع سورية كما أننا لسنا أعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية ولا مجلس التعاون العربي ولا الاتحاد المغاربي وسألته: هل نحن في حالة ثورية؟ لا نرى أن هناك غاريبالدي أو بسمارك، فدعنا نتفاهم. رد حمادي بصلف غير معهود بشخصيته بأن القرار العراقي نهائي، وقال: إن بترول العرب يجب أن يكون للعرب، وهذا شعار كنا نحن البعثيين نستخدمه في الخمسينيات والستينيات، قالها حمادي ليذكرني بأننا ننتمي إلى حزب واحد.
في دمشق وبعد أن وضعت الرئيس بصورة ما جرى في اجتماعات القاهرة، ترأس الرئيس الأسد اجتماع القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، وطرح آثار التطور الخطير في النزاع العراقي - الكويتي على الوضع العربي العام. وكان الرئيس الأسد يحرص على أن تكون جميع القرارات الكبرى من حرب تشرين إلى غيرها مغطاةً بقرار من القيادة المركزية للجبهة، وكان يعتبر الجبهة أهم إطار سياسي مؤسسي في الدولة، ولذلك كان يحرص على دعوة قيادتها للاجتماع والتشاور واتخاذ القرار أكثر من حرصه على الاجتماع مع القيادة القطرية للحزب. وفي هذا الاجتماع اتخذت الجبهة قرارها بتحرك سورية، والدعوة إلى قمة عربية طارئة. أجرى الرئيس بعدها اتصالات هاتفية مع الرئيس مبارك والملك فهد بن عبد العزيز للتشاور حول إمكانية عقد القمة. كان الموقف السعودي مرتبكًا في تلك اللحظات، وظلّ مرتبكًا عدة أيام سياسيًا وبلا موقف إعلاميًا.
كان صدام قد صرح لحظة الغزو بأنه ملتزم اتفاقية عدم الاعتداء الموقعة مع المملكة، ويبدو أن السعوديين كانوا يترقبون ما سيفضي إليه التطور المثير للوضع من مفاجآت قبل أن يحددوا موقفًا.
كانت السعودية تحضر لقمة مصغرة في جدة يوم الأحد، لكن أبلغني الدكتور عبد الرحمن العوضي قبل عودتي إلى دمشق أن الشيخ جابر الذي وصل لتوه إلى الطائف لن يشارك في اجتماع يحضره الرئيس العراقي صدام.
كان لحكام الكويت في الخارج أموال وعقارات كثيرة سهلت عليهم الخروج من جهة ولم تمكن صدام من أسرهم والمساومة على حياتهم وأموالهم من جهة ثانية.
خرجت السعودية من ارتباكها بعد أن صرّح الرئيس الأميركي جورج بوش الأب بإرسال طلائع القوات لحماية السعودية من الخطر العراقي، وأوفد في 6 آب/ أغسطس 1990 وزير دفاعه ديك تشيني إلى المملكة. ردّ صدام حسين
بخطوةٍ إضافيةٍ عقّدت الوضع، وسهّلت السيناريو الأميركي. هكذا في 8 آب/ أغسطس وبعد يوم ونيف من وصول تشيني إلى المنطقة أوقع صدام حسين نفسه في الفخ، وأعلن ضم الكويت إلى العراق، وعودة «الفرع إلى الأصل .»
وقد كانت هذه الذريعة بالنسبة للإدارة الأميركية لا تقدر بثمن، لأنها تلغي أيضًا مفاعيل ما كانت قد قالته السفيرة الأميركية غلاسبي في بغداد لصدام أن الخلاف بينكم وبين الكويت يحل ثنائيًا.
يتبع .....