شهاده الفريق اول الركن نزار عبد الكريم الخزرجي " رئيس اركان الجيش العراقي سابقا "
«توكلنا على الله» الرابعة في القاطع الأوسط خاتمة معارك التحرير
22 تموز/يوليو 1988
حدثت أمور طريفة في تلك الأيام، منها أنني كنت قد رشّحت مدير التخطيط في دائرة العمليات لقيادة الفيلق الخامس
((( الفريق الركن يونس محمد الذرب وهو فعلًا من الضباط الجيدين والمتابعين، حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ العسكري ورئس جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا قبل إحالته على دائرة المحاربين. يتميز بكتاباته وبحوثه العسكرية والتاريخية ))) وهو من الضباط الجيدين، واكب الحرب منذ اندلاعها في مختلف المناصب، وأصبحت لديه خبرة ممتازة تؤهله لقيادة الفيلق الخامس الذي سبق وأن عمل في قاطعه فترة مناسبة قائدًا لإحدى القوات. أرسلت الترشيح إلى القائد العام لإصدار الأمر بذلك بعد موافقته. استدعيت مدير التخطيط وطلبت منه إعادة دراسة تقدير موقف عن قاطع الفيلق الخامس، وحجم القوات الموجودة في الفيلق في ضوء التهديد المعادي في هذه المرحلة، وإعطاء توصياته إما بإبقاء حجم القطعات على ما هي عليه وإما بتعزيزها بقطعات إضافية أو سحب بعضها؟
في اليوم التالي أنجز دراسته التي يوصي فيها بسحب عدد من التشكيلات من قاطع الفيلق، لعدم وجود تهديد معادٍ في هذه المرحلة، وكي تكون احتياطًا للقيادة العامة لتتفرغ للتدريب وإعادة التنظيم. وبعد يومين صدر الأمر بتولّيه قيادة الفيلق الخامس، فجاء يسألني إلغاء أمر سحب التشكيلات الذي أوصى به في دراسته. فقلت: «كانت دراستك دقيقة من النواحي كلها، أليس كذلك؟»، ولم يستطع إلا أن يقول «نعم». قلت: «فكيف تريدني أن ألغي توصياتها؟»، فذهب وهو يعلم أنه من عمل المقلب الذي هو فيه
شرعنا فور عودتنا من قاطع الفيلق الرابع في إعداد خطة المعركة الأخيرة، لعرضها على القائد العام لإقرارها. سبق وأقر القائد العام فكرة العملية والاتجاهات الرئيسة فيها عندما عرضتها عليه في فترة سابقة لكسب الوقت وتأمين متطلباتها من تنقّل وحركة قطعات، وحددنا الأسبوع الأخير من الشهر الجاري موعدًا أوّليًا لتنفيذها.
في اجتماع القيادة العامة في 16 تموز/يوليو 1988 الذي حضره القائد العام ونائبه ورئيس الأركان ومعاونه للعمليات ومدير الاستخبارات وحسين كامل المشرف على الحرس الجمهوري ورئيس التصنيع العسكري، عُرضت الخطة فأقرّها القائد العام، وحدد يوم 25 تموز/يوليو موعدًا لتنفيذها
بعد الاجتماع صاحبتُ القائد العام إلى مكتبه لمناقشة بعض القضايا التي تخص رئاسة الأركان. وبعد الانتهاء منه قلت له: «سيدي الرئيس لدي فكرة عمليات لاحتلال عربستان وتحريرها، وتدمير القاعدة المادية للقوات المسلحة الإيرانية التي شيّدها الشاه هناك، لمواجهة العراق. ويُترك لكم قرار البقاء أو الانسحاب أو ما تنسبونه»
دفع الرئيس رأسه إلى الخلف ونظر نحوي وقد ضاقت عيناه، وسأل: «ماذا؟ وكيف؟»،
فأجبته: «سيدي الرئيس، بعد الانتهاء من المعركة المقبلة، فإن ما نحتاج إليه أسبوعان أو ثلاثة لإعادة تحريك وحشد قوات الحرس الجمهوري في اتجاه العمل الجديد. أما بقية القوات فتتحرك من أماكنها الحالية. وتتلخص فكرة العمليات بالعمل بأربعة فيالق، وكما يلي: الفيلق الرابع يتحرك إلى ديزفول، ويغلق عربستان عن إيران في مضيق سد الدز شمال ديزفول. أما الفيلق الثالث فيندفع نحو مدينة الأحواز ويطوّقها، وتعبر إحدى فرقه الآلية أو المدرعة، ليلتقي الفيلق السابع الذي سيعبر شطّ العرب من جنوب عبادان، ويطوق عبادان وتسيطر قواته على المناطق شرق نهر الكارون. ويندفع الحرس الجمهوري إلى المنطقة بين الأحواز وديزفول، ليكون احتياطًا ضاربًا في ساحة عمليات عربستان»
كان الرئيس يصغي إلى ما أقوله من دون مقاطعة أو استفسار أو تعليق. وبقي كذلك بضع دقائق ثم قال: «هل يعرف غيرك ذلك؟».
أجبته: «كلا سيدي».
قال: «اسمعني جيدًا أنا وأنت فحسب نعرف ذلك ولا أريد لأحد أن يعرف بها»، ثم كرّر «أي أحدٍ مهما كان شأنه». وقال أخيرًا: «فريق نزار لا أُريدكَ حتى أن تحلم بها!».
في اجتماع الخميني بالقيادات العسكرية للجيش الإيراني وقيادات حرس الخميني، عرض القادة الحالة التي وصلوا إليها في الحرب، وعدم قدرة بقية قواتهم على الاستمرار في خوضها، فاضطر إلى الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 598 الصادر في تموز/يوليو 1987 وإيقاف الحرب. وقال كلمته المشهورة: «كنت أفضل أن أتجرع السم على أن أوافق على هذا القرار». وفي ضوء ذلك، وافقت إيران على القرار 598 وأعلنت ذلك في 18 تموز/يوليو 1988
كان وقع هذا الإعلان علينا شديدًا ومفاجئًا، حيث كان أمامنا أسبوع واحد فقط لمهاجمة وتدمير ما تبقى من قدرات ومعدات العدو المتركزة في ساحة عمليات القاطع الأوسط
في اجتماع عاجل للقيادة العامة تقرر تقديم يوم تنفيذ عملية القاطع الأوسط إلى 22 تموز/يوليو بدلًا من 25، مع اتّخاذ كل ما يتطلبه ذلك من إجراءات تضمن تنفيذه في الموعد المحدد. كانت المعضلة الرئيسة التي تواجه رئاسة الأركان ودوائرها هي في تنقّل قوات فيلق الحرس الجمهوري والفرقة الخامسة الآلية من العمارة إلى خانقين ومندلي في القاطع الأوسط، لمسافة 400 كلم، والفرقة المدرعة العاشرة من حلبجة وسيد صادق في قاطع الفيلق الأول إلى مندلي، لمسافة 150 كلم في ثلاثة أيام فقط
لذلك تقرر إرسال ناقلات الدبابات المتوافرة كلها في القوات المسلحة، وناقلات الساحبات الزراعية وأنابيب نقل النفط في وزارتي الزراعة والنفط إلى مدينة العمارة (قاطع الفيلق الرابع) لنقل عجلات القتال المدرعة والدبابات والمدافع الذاتية الحركة، لفيلق الحرس الجمهوري والفرقة الخامسة الآلية، على أن تتكامل قبل يوم 21/7 في قاطع الفيلق الثاني، وخلال ثلاثة أيام فقط، وعلى أن يكون القادة والآمرون يوم 20 في القاطع للقيام بالاستطلاع، وعلى أن يُشرف وكلاؤهم على قيادة تنقّل القوات. أما بالنسبة إلى الفرقة العاشرة المدرعة التي كانت منفتحة في حلبجة وسيد صادق في قاطع الفيلق الأول، فتقرر تنقّلها على الطرق سياقة، وعلى سرف الدبابات لعدم تيسر الناقلات
تابع ضباط ركن رئاسة الأركان ودوائرها حركة وتنقّل أرتال التشكيلات من مناطق انطلاقها حتى وصولها لتذليل العقبات التي تظهر هنا وهناك ومعالجتها. وفي 20/7 وصل القادة والآمرون إلى قاطع الفيلق الثاني، وقاموا باستطلاعاتهم لقواطع واجباتهم. وفي 21/7 تكامل ليلًا وصول التشكيلات كافة: الحرس الجمهوري والفرقة الخامسة الآلية والقسم الأكبر من الفرقة العاشرة التي تنقلت على سرف الدبابات من قاطع حلبجة
المعركة الأخيرة
=========
نصّت اتفاقية الجزائر في عام 1975 على إعادة أراضٍ عراقية تجاوز عليها الجانب الإيراني في فترات سابقة، ومنها زين القوس وسيف سعد، ومناطق أخرى في المناطق الحدودية لمحافظتي واسط (الكوت) وديالى. لم تُعَد هذه الأراضي في زمن الشاه بحجة الوضع الداخلي المضطرب، وبقي الحال على ما هو عليه بعد الثورة الإيرانية على الرغم من مطالبات العراق المتكررة. وعندما تصاعد التوتر بعد المناوشات الحدودية في عام 1980 قصف الجانب الإيراني منشآت نفطية ومدنًا حدودية من المناطق التي كان يجب إعادتها إلى العراق، ومن زين القوس على سبيل المثال قُصِفت مدينة خانقين الحدودية ومنشآت النفط العراقية في النفط خانة
بعد سلسلة من الاشتباكات المحدودة ابتداءً من 4/9/1980 تمكَّن العراق من استعادة معظم المخافر الحدودية والأراضي التي كان يطالب بها. وفي 22/9 اجتاحت قوات الفيلق الثاني (3 فرق مشاة 4 و8 و12، والفرقة المدرعة السادسة) الأراضي الإيرانية من مهران جنوبًا حتى قصر شيرين شمالًا، وبأعماق تصل إلى صالح أباد غرب عيلام جنوبًا، وإلى كيلان غرب وسربيل زهاب غرب مضيق باي طاق - كرمنشاه شمالًا. وفي عام 1981 تمكَّنت إيران من استعادة بعض المواقع التي خسرتها في بداية الحرب، وبعد عودة قواتنا إلى الحدود الدولية تمكَّنت إيران من احتلال بعض العوارض، والمرتفعات الحدودية ضمن الأراضي العراقية، كسانوبا وكسكا ومخفر صلاح الدين شرق مندلي ومرتفعات جلات والشهابي ومخافر الصدور والدراجي شرق بدرة. وجرت معارك عديدة على هذه العوارض
طبيعة المنطقة
========
تقع منطقة ساحة العمليات على امتداد حدود محافظتي ديالى وواسط (الكوت)، من شمال عارضة بمو الحدودية شرق ناحية قوراتو من قضاء خانقين إلى جنوب قضاء بدرة، التابع لمحافظة واسط جنوبًا بجبهة أكثر من 200 كلم، ومن قصر شيرين (مدينة حدودية إيرانية تقابل مدينة خانقين الحدودية العراقية) إلى مضيق باي طاق ((( مضيق باي طاق هو المضيق الاستراتيجي الخطر الذي يفتح سلسة جبال كرند المنيعة باتجاه الداخل الإيراني، ويفتح المتقدّم من الداخل الإيراني باتجاه العراق حيث تقع مدينة سربيل زهاب في نهايته الغربية باتجاه العراق، وكان الجغرافيون العرب يعتبرونه باب العراق وهو كذلك فعلًا، إذ تنفتح وتنبسط الأرض بعده باتجاه بغداد ))) في العمق الإيراني (90 إلى100 كلم شمالًا)، ومن مهران إلى غرب مدينة عيلام في العمق الإيراني (70 إلى 80 كلم جنوبًا)، وطبيعة الأرض في الداخل الإيراني جبلية، وتبدأ بالارتفاع كلما توغلنا في عمقه. وهناك بعض المناطق السهلية في سربيل زهاب وإمام حسن وسومار التي تتخللها أودية وأنهار صغيرة، ويوجد عدد من المدن الصغيرة مثل قصر شيرين وسربيل زهاب وسومار وكيلان غرب ومهران وصالح أباد
أما في الجانب العراقي من الحدود فهناك سلسلة المرتفعات والروابي الحدودية، أهمها جبل بمو وآق داغ ومرتفعات زين القوس وسانوبا وكسكا والصدور، نزولًا إلى مرتفعات جلات في أقصى الجنوب. وأهم المدن الحدودية من الجانب العراقي من الشمال نزولًا: قوراتو وخانقين ومندلي وزرباطيّة وبدرة
أهم الطرق التي تربط البلدين في هذا القاطع: طريق خانقين - قصر شيرين - سربيل زهاب - مضيق داوود - مضيق باي طاق - إسلام أباد - كرمنشاه - همدان - طهران. وهي الطريق الدولية الأولى التي تربط بغداد بطهران. وطريق خانقين - كوهينة - إمام حسن، التي تتفرع شمالًا إلى سربيل زهاب حيث ترتبط بالطريق الأولى وتتفرع جنوبًا إلى كيلان غرب. وطريق مندلي - سومار وإلى كيلان غرب. وطريق بدرة - مهران - صالح أباد - عيلام. وهنالك طرق عرضية وطرق تعاون متعددة في المنطقة
الاستحضارات
=======
كانت أهم الاستحضارات إطلاقًا السباق الماراثوني بيننا وبين الوقت المتاح، إذ لم يتبقَّ لنا إلا أقل من 72 ساعة لإكمال تنقّل قوات الحرس الجمهوري لمسافة أكثر من 400 كلم، من مناطق وجودها في قاطع العمارة إلى القاطع الأوسط (فرقتان مدرعتان، وفرقتا مشاة، وفرقة قوات خاصّة، ومجموع ألويتها خمسة ألوية مدرعة، وثلاثة ألوية مشاة آلية، وعشرة ألوية مشاة، وثلاثة ألوية قوات خاصّة، وثلاثة ألوية مغاوير، مجموعها 24 لواء و24 كتيبة مدفعية، وكتيبتا صواريخ، وست كتائب هندسة). وكان عدد أفراد قوات الحرس التي تمت المناورة بها مع معداتها يعادل أكثر من ثماني فرق من الجيش.
كما تمت المناورة بفرقة المشاة الآلية الخامسة بدباباتها وناقلات الأشخاص المدرعة، وأربع كتائب مدفعية، وكتيبة هندسة من القاطع نفسه. وتنقَّلت الفرقة المدرعة العاشرة من القاطع الشمالي (سيد صادق - حلبجة) على الطريق سيرًا على سرف الدبابات، ولمسافة أكثر من 150 كلم في طريق واحدة تمرّ بمناطق جبلية واستدارات حادة، مع ما نتوقعه من أعطالٍ ميكانيكيةٍ وإجهادٍ لطواقمها، علاوة على حتمية زجّهم في المعركة فور وصولهم. كان هذا تحديًا عظيمًا نجحنا في مواجهته والنجاح فيه بإصرار القادة والمقاتلين، ولا نستثني الجندي البسيط المؤمن بقدسية القضية التي يقاتل من أجلها، وهي أمن وسلامة العراق والأمة من ورائه
العدو
===
مقرّ عمليات الغرب، وبإمرته في القاطع المواجه لخانقين ومندلي:
- فرقة المشاة 58 وفرقة المشاة 84 وفرقة المشاة 88 وفرقتان من حرس الخميني
- اللواء المدرع 37 وكتيبة دبابات في مدرسة الدروع في قلعة شاهين.
- اللواء المظلي 55 من خمسة أفواج.
- 12 كتيبة مدفعية وثماني بطاريات هاون ثقيل
في القاطع المواجه لبدرة:
- فرقة مشاة وفرقة من حرس الخميني ولواءان من حرس الخميني ولواء مغاوير.
- كتيبة دبابات وأربع كتائب مدفعية
قواتنا
===
- فيلق الحرس الجمهوري
فرقة بغداد: ثلاثة ألوية مشاة ولواء مغاوير ولواء مدرع ولواء مشاة آلي.
فرقة حمورابي: لواءان مدرعان ولواء مشاة آلي ولواء مغاوير ولواء مشاة.
فرقة المدينة المنورة: لواءان مدرعان ولواء مشاة آلي ولواءا مشاة ولواء مغاوير.
فرقة نبوخذنصر: أربعة ألوية مشاة
فرقة القوات الخاصّة: ثلاثة ألوية قوات خاصّة
24 كتيبة مدفعية وكتيبتا صواريخ أرض - أرض لونا و18 بطارية هاون ثقيل.
ست كتائب هندسة
- الفيلق الثاني
الفرقة المدرعة العاشرة وفرقة المشاة الآلية الخامسة ولواء مدرع من الفرقة المدرعة 17 ولواءان مدرعان وأربعة فرق مشاة ولواءا مغاوير.
20 كتيبة مدفعية و12 بطارية هاون ثقيل ولواء صواريخ أرض - أرض لونا.
خمس كتائب هندسة
- الفيلق الأول الخاص
ثلاث فرق مشاة ولواءان مدرعان و1 لواء مشاة آلي ولواءا مغاوير.
12 كتيبة مدفعية وثلاث بطاريات هاون ثقيل.
ثلاث كتائب هندسة
- القوة الجوية
خمسة أسراب هجوم أرضي
سربا ميراج متعددا المهمات
سرب دفاع جوي ومفارز من طائرات تشويش إلكتروني وطائرات تصوير
طيران الجيش
180 سمتيّة مسلحة وإنزال سمتيّ وإخلاء طبي وقيادة وسيطرة
الخطة
===
كانت خطة العمليات تستهدف التعرض في قاطعي الفيلق الثاني، والفيلق الأول الخاص، وتدمير العدو فيهما، والاستيلاء على معداته، وأسر من يتبقى من عسكره.
فيلق الحرس الجمهوري: في الساعة 7.15 من يوم 22/7/1988 على العدو من هوات شمالًا حتى جاي حمام داخل جنوبًا ويدمره، ويندفع في العمق إلى سربيل زهاب وكيلان غرب لتطويق وأسر أكبر عدد من قوات العدو.
الفيلق الثاني: يقوم بالهجوم في الساعة 7.15 من يوم 22/7/1988 على العدو من جاي حمام خارج شمالًا، حتى جبل ميمك جنوبًا ويدمره، ويندفع في العمق إلى جبل داروان وكيلان غرب لتطويق وأسر أكبر عدد من قوات العدو.
الفيلق الأول الخاص: يقوم بالهجوم في اليوم التالي للتعرض في قاطع الفيلق الثاني، ويدمر العدو الموجود في مخافرنا الحدودية المحتلة، ويندفع في العمق إلى مهران وصالح أباد حتى المرتفعات غرب عيلام لتطويق وأسر أكبر عدد من قوات العدو
المعركة
====
في الساعة 6.45 فتحت مدفعيات الفيلقين نيرانهما لمدة 30 دقيقة، وفي الساعة 7.15 اندفعت قوات الصولة لمهاجمة المواضع الدفاعية الأمامية للعدو، وفي الساعة 11.00 تم تدمير مواضع العدو والاستيلاء عليها في جبهة الفيلقين.
في الساعة 13.00 اندفعت القطعات الآلية والمدرعة والمغاوير لمهاجمة المدن والمرتفعات الوسطى من ساحة العمليات، وتمكَّنت قوات الحرس الجمهوري من احتلال قصر شيرين وجاي حمام ومرتفعات كوهينة وكمكو ومرتفعات جبل كولينا، وتمكَّنت قوات الفيلق الثاني من احتلال سومار وجبل داروان حيث التقت قوات الحرس الجمهوري، وتم تطويق القطعات الإيرانية كلها الموجودة في هذا الجيب، وشرعت في جمع الأسرى
.في اليوم التالي شرعت قوات الفيلق الأول الخاص في شن هجومها تحت غطاء نيران المدفعية، وتمكَّنت من احتلال أهدافها الأولية كلها، وحررت المخافر الحدودية المحتلة كافة، واندفعت إلى مدينة مهران فاحتلتها بعد أن هرب العدو منها، فطاردته إلى صالح أباد ثم إلى المرتفعات الغربية المطلة على مدينة عيلام. فأصدرنا لها الأوامر بالتوقف، وأفردنا بعضًا من وحداتها للتفتيش عن المعدات التي تركها العدو وإلقاء القبض على أفراده
أما في قاطع الفيلق الثاني، فقد اندفعت قوات الحرس الجمهوري إلى قلعة شاهين، وبعد وقت قصير من القتال تمكَّنت من تدمير العدو والاستيلاء على دباباته السالمة، كما تم إنزال سمتيّ بوحدة من الحرس الجمهوري على مقرّ عمليات غرب، وأُسر عدد من ضباط ركن القيادة الذين ادعوا أن قائد عمليات غرب خرج قبل قليل بحجة الاستطلاع فنجا من الأسر. كما اندفعت قوات من الحرس الجمهوري شرقًا إلى مرتفعات مضيق داود، واحتلته، ثم إلى مضيق باي طاق الاستراتيجي المؤدي إلى كرمنشاه وطهران فاحتلته، وأحكمت السيطرة عليه، كما تم في الساعة 18.00 إنزال وحدة أخرى من الحرس الجمهوري على المرتفعات المحيطة بكيلان غرب، وتم تطويقها في صباح يوم التالي، ثم تفتيشها من ألوية مشاة الحرس الجمهوري، وقطعات الفيلق الثاني
صدر توجيه إلى الفيالق الأخرى لمهاجمة القطعات المعادية أينما هي؛ ففي الجنوب وفي قاطع الفيلق الثالث دفع قائد الفيلق فرقة مدرعة إلى معسكر حميد الإيراني، جنوب مدينة الأحواز، فهاجمته واشتبكت بقتال عنيف، وتمكَّنت من تدمير وأسر عددٍ كبيرٍ من جنود العدو قبل أن يعود إلى قواعده
وفي الأيام التالية شُغلت القطعات كافة في جمع المعدات والمدافع والدبابات، وأمر الرئيس الوزارات كافة بإرسال ما لديها من عجلات وناقلات لجمع الغنائم والأعتدة والتجهيزات المتروكة ونقلها، وبلغ عدد الأسرى في قاطع الفيلق الثاني 17.500 من الجنود والضباط، وفي قاطعي الفيلق الأول الخاص والفيلق الثالث أكثر من 3500 من الجنود والضباط
تم في معارك التحرير «رمضان مبارك» و«التوكلات» الأربعة و«محمد رسول الله» تحرير الأراضي المحتلة كلها من العدو، وطاردناه في أعماق أرضه، ودمرنا ما يقارب من 85 إلى 90 في المئة من معداته وتجهيزاته العسكرية، وقضينا على عشرات الآلاف من قواته، وأسرنا ما يقارب الـ 33 ألفًا من أفراده. والأهم من ذلك كله أننا كسبنا إرادة الصراع والصمود، وهزمنا العدو وأجبرناه وقياداته العسكرية والسياسية على تجرع سم الهزيمة (كما قال قائدهم ومرشد ثورتهم)، والقبول بها.
بدأت الحرب في هذا القاطع في أيلول/سبتمبر 1980، وفيه انتهت في تموز/يوليو 1988
بعد بضعة أيام، كانت قطعاتنا ما زالت في قاطع الفيلق الثاني مشغولة هي والدولة في جمع الغنائم وتحميلها ونقلها إلى داخل الحدود العراقية، استدعانا القائد العام في المجلس الوطني، وكان معه مسعود رجوي رئيس مجلس المقاومة الإيرانية «مجاهدي خلق» وقال: «لمسعود رجوي خطة عمل سيعرضها عليكم وأريدكم أن تسمعوه وتقدِّموا له التسهيلات التي يطلبها»
بدأ رجوي يتكلم بالفارسية مع محاولة إدخال بعض الكلمات العربية، وكان المترجم الذي يصاحبه، وهو من المجاهدين أيضًا، يجيد العربية. كانت الخطة التي طرحها تتلخص في أنه سيندفع بقواته (نحو 6 إلى 7 آلاف مقاتل) في تشكيلين أحدهما دروع، والآخر مشاة آلي، ومجموعات خاصّة ومدفعية وهندسة وأسلحة مقاومة الطائرات المحمولة على الكتف (وكان مقاتلو مجاهدي خلق يتحلون بالولاء المطلق لمسعود رجوي ومريم رجوي، وبالكفاءة والانضباط والشجاعة) إلى كرمنشاه من مضيق باي طاق الذي تسيطر عليه قوات الحرس الجمهوري، ويستمر من دون توقف حتى طهران ليسقط النظام، ويستلم السلطة فيها. وكان يتوقع أن الناس والجماهير وما تبقى من قطعات سينضمون إليه حال وصول قواته إليهم، وأن ما يطلبه أن تبقى قواتنا ماسكة مضيق باي طاق حتى إنجاز مهمته، وبعض المعدات التي ستقدّم إلينا من ضباط ركنه، وأن تكون طائراتنا موجودة عند الحاجة إليها
.قلت: «إذا سمحت لي سيدي الرئيس، الطريق إلى كرمنشاه تبعد أكثر من 100 كلم من مضيق باي طاق منطقة شروعهم، ويمر في مناطق بالغة الوعورة، مضايق عديدة في كرند وإسلام أباد ومناطق أخرى، الأمر الذي يوجب مسكها بقوة من جانبه (أو من جانبنا) في حالة يريد الاحتفاظ بقواته كلها للعمل الرئيس، وبخلافه فإن العدو بإمكانه مسكها بسهولة وقطع طريق مواصلاته ومحاصرته، وسيكون وقواته في موقف لا يحمدان عليه، وأقترح إذا لم يكن لديك مانع سيدي الرئيس أن يجعل السيد مسعود المرحلة الأولى من عمليته هي الاستيلاء على كرمنشاه بعد أن يُمسك أو نمسك نحن له مناطق المضايق، كما أننا الآن على مشارف مدينة عيلام في قاطع الفيلق الأول الخاص، ونستطيع إسناد أي قوة يرسلها للاستيلاء عليها، وهكذا سيكون لديه مدينتان كبيرتان، له فيهما أنصار كثيرون، كما يقول السيد مسعود رجوي، ومنهما ينطلق إلى هدفه النهائي، بعد أن يعزز قواته، حيث ستكون طرق مواصلاته مفتوحة وأمينة في هذه الحالة»
كنت أتكلم ومترجمه ينقل له ما أقوله وعلى وجهه تبدو علامات عدم الرضا وعدم الاقتناع. وقال: «السيد رئيس الأركان، الوقت والمفاجأة هما العاملان اللذان أعتمدهما في نجاحنا، ولا أريد أن أفقد أيًا منهما». قال الرئيس: «السيد مسعود سينفّذ العملية بالطريقة التي يراها، وأنتم عليكم تأمين طلباته، وستبقى القطعات في قاطع الفيلق الثاني حتى إكمال مهمته»
طلبت من مسعود رجوي أن يرسل كافة طلباته فوعد بذلك. ولما ترك مسعود رجوي الاجتماع قلت للرئيس: «أعتقد أن مسعود سيودي بقواته إلى التهلكة بخطته هذه، فهي خيالية وغير قابلة للتطبيق». قال الرئيس: «إنني أنظر بعينيه، وأرى فيهما علامات النصر. إنه في الموقف نفسه الذي كنا فيه عندما نفّذنا ثورتنا في 17 تموز فقد كنا قلة، لكن مؤمنة بأنها قادرة على تنفيذها، ولو حسبنا حساباتكم لما نفّذناها أبدًا»
كنت في ما طرحته أريد لما تبقّى من قوات للعدو أن ينشغل بمواجهة تهديد المجاهدين في هذا الاتجاه، الأمر الذي يساعدنا في تنفيذ خطة احتلال عربستان. لكن وجود بعض أعضاء القيادة العامة معنا منعني من طرح ذلك على الرئيس.
شرعت قوات المجاهدين في الاندفاع إلى كرمنشاه في طريقها إلى طهران، لكن المفاجأة لم تتحقق. وأعتقد بأن الخطة تسربت إلى القيادة الإيرانية من وعملائهم العاملين مع المجاهدين، فأرسلوا على عجل الحمايات الشخصية للقيادات السياسية، ومجموعات من التوابين، وهم العراقيون من الموالين والعملاء للنظام الإيراني الطائفي الذين أُطلق عليهم اسم «قوات بدر» في ما بعد، فاحتلوا المضايق، ولم تتمكَّن قوات المجاهدين من الاستمرار في تقدّمها، فحوصرت وقطعت طرق عودتها فتكبَّدت خسائر فادحة، وقُتل أو أُسر معظم قادتها وكوادرها، وانسحبت بقاياها مثخنة بالجراح
اشتد وتزايد الضغط الدولي والعربي على القيادة العراقية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 598 الصادر في عام 1987 الذي سبق للعراق أن وافق عليه، ولم توافق عليه إيران إلا أخيرًا في 18 تموز/يوليو 1988، والقاضي بإيقاف إطلاق النار وسحب قوات الطرفين إلى ما وراء الحدود الدولية لكلا البلدين، والبدء بالمفاوضات بين الجانبين بإشراف الأمم المتحدة، الأمر الذي اضُطر الرئيس (كما أعتقد) إلى إصدار أوامره بسحب قواتنا من العمق الإيراني إلى بُعد بين كيلومتر واحد وكيلومترين شرق الحدود الدولية في الجبهات كلها، إذ سبق ورُفعت أو دُمرت معظم الدعامات الحدودية، فجعلنا هذا الشأن نتحسب لانسحابنا خلفها بطريق الخطأ
أنجزت القوات كافة انسحابها إلى الحدود الدولية فأخبرتُ القائد العام بذلك بعد ظهر يوم 8/8/1988، فأصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة «بيان البيانات» الذي أعلنت فيه نصر العراق المؤزر على العدو الإيراني، ودعت الشعب برجاله ونسائه وشيبه وأطفاله إلى الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة
فخرجت الجماهير ترقص وتغني في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى كلها. كنت في البيت ذلك المساء مع العائلة فدعوتهم إلى الخروج والاحتفال مع أبناء شعبنا، وارتديتُ ملابس مدنية بسيطة وقدتُ سيارتي الخاصّة وتجولت في شوارع بغداد. كانت الجماهير تنشد وتغني وتهلل وترقص، لا فرق بين صغير وكبير أو غنيّ وفقير، الجميع منتشٍ بالنصر، يتقاذفون بالمياه ضاحكين ويرشّونها على المارة والسيارات التي تخترق حشودهم
كنت وأنا أقود سيارتي بحذر شديد بين جموع الجماهير أستذكر موقفًا من هنا، وآخر من هناك مما مرّ بنا خلال الأعوام الثمانية من الحرب. وفي كل مرة يبرق في ذهني قول الرئيس القائد العام للقوات المسلحة في أحد تلك الأيام الصعبة من عام 1987: «نحن العراقيين لنا القدرة والإرادة والشجاعة أن ننهض ونقف على أقدامنا بعد كل ضربة نتلقاها أو نكسة تواجهنا، لكن أقول لكم إن العدو بكل ما ترونه عليه من مظاهر القوة والغطرسة والاعتداد فإنه مثل الرجل الطويل العريض الخاوي فإذا ضربته صفعة قوية فسيتهاوى إلى الأرض، ويتدحرج من دون توقف حتى الهاوية». ونحن قد ضربناه صفعة قوية في «رمضان مبارك» في الفاو، ودحرجناه إلى قعر الهاوية بـ «التوكلات الأربعة» و«محمد رسول الله»
بعد بضعة أيام من إيقاف إطلاق النار هاتفني قائد الفيلق الرابع، وأخبرني بأن قوة إيرانية بحجم لواء تحركت إلى ما بعد خطّ إيقاف النار في قاطع فرقة المشاة الآلية الأولى، فقلت له: «سأتصل بقائد الفرقة لأعرف منه الموقف مباشرة، وسأعلمك بالإجراءات». اتصلت بقائد الفرقة المعنية وقلت له: «ما الذي حدث؟»، فقال إن لواءً إيرانيًا تقدّم إلى مواضعه القديمة بعد خطّ إيقاف النار، وأنه استدعاه وطلب منه العودة من حيث أتى، لكنه ادعى بأنه ينفّذ أوامر قائده ولا يمكنه مخالفتها. أخبرته أن يستدعيه مرة أخرى وينذره بأنه سيأسرهم جميعًا إن لم ينسحبوا خلال ساعة واحدة من الآن
بعد ساعة اتصل بي، وقال إن آمر اللواء الإيراني أخذ يبكي ويستجديه عندما بلّغه ذلك، وادّعى أن قائده سيعدمه إن انسحب من موضعه الحالي. فزجرته قائلًا: «إلى متى تبقون هكذا؟ إن الذي يستجديك الآن ويبكي سيذبحك بسكين مثلوم عندما يستقوي عليك. سأسحبك، وأكلف أحد مرؤوسيك بذلك إن لم تنفذ ما أمرتك به حرفيًا». فحرك على الفور أحد ألويته الآلية وطوقهم وأسرهم جميعًا، وعندما أخبرني قائد الفيلق بذلك أمرته أن يرسلهم فورًا بقافلةٍ مع حراسة كافية إلى بغداد لإيداعهم معسكرات اعتقال الأسرى
بعدها بأيام حضرت دعوة أقيمت في نادي الصيد ببغداد، فجاءني أحد السادة من كبار الموظفين في وزارة الخارجية ومعه شخص أجنبي عرفني إليه بصفته من موظفي الأمم المتحدة المكلف بمتابعة تطبيق إيقاف إطلاق النار بين العراق وإيران وفق القرار الأممي 598 فرحبت به، اسمه يان إلياسون، وكان يساعد أولف بالمه الذي كُلِّف بموجب قرار مجلس الأمن بالتوسط بين العراق وإيران، ومن مواطني إحدى الدول الاسكندنافية
قال: «أنتم أسرتم لواءً إيرانيًا قبل أيام في قاطع الفيلق الرابع، وهذا مخالف لقرار إيقاف إطلاق النار»، وطلب إعادتهم ومعالجة الأمور بطريقةٍ أخرى إن كان هناك خطأ من الجانب الآخر. فأجبته: «هل تريد أن تشتعل الحرب مرة أخرى؟»، فجفل وقال: «بالطبع لا، فنحن هنا للمحافظة على استمرار إيقاف إطلاق النار». قلت له: «إنك لا تعرف الإيرانيين كما نعرفهم نحن، فلو لم نتخذ هذا الإجراء لزحف الجيش الإيراني بأكمله في اليوم التالي إلى ما وراء خطّ إيقاف النار الذي أُرسلتَ أنت وفريقك للمحافظة عليه، وعلى أي حال إن رجال هذا اللواء في معسكرات الأسرى الآن وهم خارج صلاحيتي، ويمكنك مفاتحة الجهات المسؤولة في الدولة بهذا الشأن»