في ذلك اليوم المشؤوم من شهر تشرين الثاني عام 1987، وعند الساعة السابعة مساءً حطت الطائرة الكورية الجنوبية في مطار بغداد ، وعلى متنها ركاب الرحلة 858 والقادمة من بلغراد، واستقلها ركاب مسافرون الى سيئول. اثناء مكوثها في المطار صعدت شابة حسناء في العشرين من عمرها بصحبة رجل مسن يبدو في السبعين من عمره يعتقد من يراهما انهما اب وابنته وكانا يحملان جوازي سفر يابانيين جاءا للعراق للسياحة!
في الطائرة
لقد مرا في لحظات عادية قبل صعودهما للطائرة، عندما فتش ضابط المخابرات حقيبة اليد التي كانت تحملها الشابة واخرج منها مذياعاً صغيرا وفحصه ثم أعاده الى الحقيبة مبتسما لها وللرجل المسن الذي يصاحبها. جلست الفتاة على مقعدها في الطائرة ووضعت الحقيبة في الرف العلوي للمقعد وبدأت تحدق بركاب الطائرة بصورة طبيعية. كان في الحقيبة - راديو باناسونيك- وفي داخله قنبلة بوزن 350 غراماً وزجاجة تحتوي سائلا يشبه شراب الويسكي، لكنه كان في الواقع سائلا من المتفجرات سريع الاشتعال.
طوال وقت الرحلة ما بين بغداد وابو ظبي المحطة الاولى للطائرة كان معظم ركاب الطائرة الكورية نائمين.. سوى راكبين فقط لم يستطيعا النوم بالرغم من تظاهرهما بذلك : الحسناء الكورية الشمالية (كيم هيو) وشريكها الرجل المسن (كيم سونغ) الذي جلس بجانبها. كانت الحسناء الكورية قد تدربت من اجل هذه اللحظات منذ سبع سنوات. حاولت ان تتجنب حديث رجلين كوريين جنوبيين جلسا وراءها ، كما تملصت من الحديث مع امرأة فرنسية جالسة في مقعد بجوارها حاولت أن تبدأ حديثاً معها.
لم يلاحظ وجود أطفال على متن الطائرة .. لكن الأمر لم يكن ليختلف حتى لو كان على متنها فريق مدرسي بالكامل ، فجميع من كانوا حجزوا أماكن على هذه الرحلة الى سيئول سيكونون في عداد الموتى!
لم يكن في قلب هذه المرأة مكان للشفقة والرحمة. كانت تعلم ان حياتها سوف تضيع فقد اخبرها ضابط مخابراتها انها ستبقى على الطائرة. إذا كان ضرورياً او إذا شعرت بأنها مراقبة او يلقى القبض عليها ويجري استجوابها فإن قرصاً من مادة -السيانيد- مخبأ في فلتر سيجارة - مارلبورو- موضوعة في حقيبتها كافية لإنهاء حياتها.
لم يحدث أي شيء خطأ ..هبطت الطائرة بعد مطار بغداد في مطار ابو ظبي، وأخذت الشابة الكورية ووالدها حقيبتها الجلدية وغادرا الطائرة بهدوء.. ولم يلاحظ احد انهما تركا حقيبتهما البلاستيكية وراءهما في الطائرة!
مكثت الطائرة على مهبط المطار مدة لا تقل عن الساعة للتزود بالوقود وغادرت لتكمل رحلتها الى بانكوك ثم العاصمة الكورية سيئول، وكان عليها ان تهبط في الوقت المحدد. ولكن بعد خمس ساعات أي في الساعة الثامنة وخمس دقائق بتوقيت كوريا انفجرت الطائرة فوق مياه بحر (اندامان) ولم ينج من ركابها احد.
ما الذي حدث حقا؟ كانت الحسناء (كيم هيو) والرجل المسن (كيم سونغ) عميلين من عملاء المخابرات الكورية الشمالية. عندما وصلا البحرين بعد ان استقلا طائرة من ابو ظبي كانا يأملان ان يتمكنا من الطيران الى روما فور وصولهما الى البحرين، لكنهما وجدا كل المقاعد محجوزة فبحثا عن فندق يقيمان فيه لتمضية هذه الليلة، فوجدا فندق (ريجلسي انتركونتال) ملاذاً آمناً لهما.
جهود دبلوماسية ومخابراتية للقبض على الإرهابيين
عندما اختفت طائرة الرحلة 858 بعد آخر اتصال لها مع برج المراقبة في رانفون اشتبهت الحكومة الكورية بوجود عمل تخريبي وربما كان من عملاء لكوريا الشمالية.. وبدأت شركة الطيران الكورية تتفحص قائمة اسماء الركاب خصوصا الذين غادروها من مطار ابو ظبي وبعد التدقيق تيقن مدير فرع الشركة في الامارات ان الشبهة تدور حول شخصين يابانيين هما مايوم هاتيشا وهي فتاة في السابعة والعشرين ووالدها تيشنتي وهو في التاسعة والستين.
بعد فحص سجل المغادرين في المطار تبين بأنهما غادرا ابو ظبي باتجاه البحرين، عندئذ طلب من مدير فرع الشركة في المنامة ان يحاول تحديد مكان هذين الشخصين الغامضين، وبدأ احد رجال شرطة الاقامة في البحرين بالاتصال في الفنادق واكتشف ان المشبوهين قد حجزا في فندق (ريجنسي انتركونتال) وحصل على رقمي جواز سفرهما من ادارة الاقامة والهجرة البحرينية وارسلهما الى السفارة اليابانية، وقد جاء رد السفارة اليابانية بمعلومات مثيرة تفيد بأن جواز سفر الفتاة مزوّر. وعلى الفور امرت السلطات البحرينية بأن ترحل الفتاة الى طوكيو لتتخذ السلطات اليابانية ما تراه مناسباً بشأن جواز سفرها المزور.
وعندما اتخذ هذا القرار اصر والدها الرجل المسن الذي يحمل جواز سفر يابانيا أن يسافر معها الى اليابان برغم انه لم يكن قد اشتبه في جوازه، وطلب من المسؤولين ان يسمحا لهما ببعض الراحة وتدخين السجائر حتى تهدأ اعصابهما. وسمح لهما بذلك في استراحة المطار، كان دخان السجائر يخفي في الواقع حلقات اخرى من حلقات الاحداث المثيرة فعندما اشعل الرجل المسن سجائره التي تحوي مادة (السيانيد) وابتلع فلترها سرعان ما سقط الرجل ميتاً على ارض المطار وقد تيبس جسده . اما الفتاة فقد رأى الشرطي السجارة في فمها فاختطفها قبل ان تبلع الفلتر، رغم ذلك فقد انغرزت اسنانها في الفلتر وفقدت الوعي، لكنها لم تتنشق السيانيد ما يكفي لموتها، فاستعادت وعيها بعد ذلك ووضعت تحت حراسة مشددة ثم تم ترحيلها الى العاصمة الكورية الجنوبية سيئول لتبدأ السلطات الكورية بالتحقيق معها.
أيد خفية ساعدت على تنفيذ العملية
كان حادث تفجير الطائرة التابعة لكوريا الجنوبية له اهمية اخرى، ففضلا عن دلالاته كحادث من سلسلة الصراع بين الدولتين، مثّل منعطفاً خطيرا للتقدم العلمي الذي سخره الارهاب لتحقيق اغراضه الدنيئة! لقد استطاعت الارهابية الكورية وشريكها تخطي احد أدق نظم المطارات في العالم آنذاك وهو مطار بغداد .. فكيف اجري الفحص على الأمتعة والحقيبة اليدوية؟ وهل علمت المخابرات العراقية بالعملية برمتها؟ وكيف نفذت هذه العملية الارهابية وبهذه السهولة ؟
قالت الارهابية الحسناء ودموعها تنحدر على وجهها الشاحب : انني استحق الموت مئة مرة جزاء ما قمت به .. كانت هذه هي كلمات الندم التي قالتها الإرهابية الحسناء كيم هيو في المؤتمر الصحفي في مدينة سيئول .. وهي تعترف كيف استطاعت هي وشريكها ان يفجرا طائرة الركاب التابعة لكوريا الجنوبية في رحلتها رقم 858 ليلقى ركابها وعددهم 115 راكباً حتفهم الى جانب طاقم الطائرة.
في أعقاب هذا الحادث الإرهابي اشترك خبراء اميركان في مكافحة الارهاب في أعمال البحث والتحقيق والمعاينة للتعرف على الأسلوب الإرهابي الذي اتبع في تفجير هذه الطائرة . واتضح لهم ان المتفجرات تمثل أرقى درجات التقدم العلمي اذ تتكون من الكترونيات صغيرة عديمة اللون والرائحة ومن البلاستيك لايمكن كشفها بأجهزة الكشف التقليدية المستخدمة في المطارات ، كما ان جهاز التفجير صغير جداً يمكن وضعه في علبة سجائر او حلية للشعر. ومن الواضح ان الارهابية استطاعت الصعود بهذه المتفجرات على الطائرة وبمساعدة عنصر من المخابرات الموجود في المطار ، إذ قامت بتركيب القنبلتين وهي في طريقها من بغداد الى ابو ظبي ، واثناء مكوثها اربع ساعات في بغداد! وقد وجدت بالملابس الداخلية للإرهابية كيم هيو جيوب صغيرة خفية وسجائر فارغة من الفلتر أخفت بداخلها المتفجرات.
التحقيق مع كيم
لكن من هي هذه الارهابية الحسناء التي تبلغ من العمر 27 عاماً؟ إنها ابنة دبلوماسي عاشت في اوربا ودربت على اعمال التجسس والاعمال السرية الخاصة منذ أن كان عمرها 18 سنة لحساب الاجهزة السرية في كوريا الشمالية. اما شريكها الذي مات بالسم في مطار المنامة فقد كان خبيراً في الالكترونيات . كانت كيم تشبه الانسان الالي، والصفة التي بدأت بها حياتها هي الطموح .. فقد كانت طفلة طموحةً .. وتصرفت بمرح لانها كانت عميلاً صغيراً نسبياً عندما اختاروها لهذه المهمة ، بينما كان الكثيرون من زملائها الاكبر سناً لا يزالون ينتظرون الدخول في دور الموت والارهاب ! لقد بررت فعلتها بأنها اجريت لها عملية غسيل دماغ .
بعد ان شد وثاقها وسلمت الى كوريا الجنوبية بدا واضحا انه البلد الذي تخشاه اقصى ما تخشى حيث كان اقارب واباء ضحاياها يصرخون مطالبين بدمها . وقد ذهل فريق الاستجواب الذي رافقها من البحرين الى سيئول ، أن - كيم – كانت ترتجف وتبكي لقناعتها بأنها ستعذب بشكل مخيف قبل ان تواجه مصيرها المحتوم . كان لوكالة المخابرات الكورية الجنوبية خطط مختلفة ، كانوا يريدون اعترافاً كاملاً، ويريدونها حية ومتماسكة كي تكون دليلاً للعالم اجمع على أعمال كوريا الشمالية الارهابية. لزم الامر ثمانية ايام كي تنهار - كيم – بعد أن تمسكت بالكثير من الحجج ورفضت ان تأكل او تشرب !
كانت تدعي بأنها فتاة يابانية تبناها شخص مسن واخذها معه في سفرة سياحية ، ومرة تدعي أنها فتاة صينية تحفظ الشعر الصيني .. ولكن في 23 كانون الاول 1987 وفي حوالي الساعة الخامسة عصراً وضعت - كيم - فجأة يدها على ذراع إحدى النساء المحققات وهمست لها باللغة الكورية (سامحيني .. انني اسفة ) .
القتل من أجل إفشال الألعاب الأولمبية
ولدت - كيم - في بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية عام 1962، وهي الابنة الكبرى لدبلوماسي ، وعندما كانت في السادسة انتخبت بسبب جمالها وخلفيتها العائلية للظهور بأفلام الدعاية والإعلانات ،وأخذت من والديها لمدة سنة . وفي سن الثامنة عشرة عندما كانت طالبة في الجامعة تدرس اللغة اليابانية ، اختيرت هذه المرة كي تصبح جاسوسة ، وبعد سبع سنوات من التدريب طلب الى - كيم - ان تفجر الطائرة الكورية الجنوبية .
ما الهدف من هذه العملية الاجرامية؟ كان الهدف هو تخويف الدول المشاركة في الالعاب الاولمبية من ارسال رياضييها الى سيئول للمشاركة في تلك الالعاب التي كانت ستعقد في السنة التالية. ولمثل هذا الهدف لم تعترض كيم.
في عام 1988 قدمت - كيم - للمحاكمة ، لكن الألعاب الاولمبية أقيمت واستمرت وراقبتها بنفسها على شاشة التلفاز الموجودة في غرفتها في احد الاماكن الحكومية الامنية ، وبكت لفعلتها ولعدم جدوى ما فعلت من قتل الابرياء على متن الطائرة. وفي عام 1989 حكم عليها بالموت ، لكن بعد سنة منحتها الحكومة عفواً خاصاً لكونها قد تعرضت لغسيل دماغ ولم تكن مسؤولة عن أعمالها ، اصبحت - كيم - حرة بالمعنى القانوني في البلد الذي كان فيه اقارب الضحايا يطالبون بموتها ، لكن الحرية لم تؤثر كثيراً على ظروفها ! لقد ظهرت مرات عديدة على شاشة التلفاز تبكي ورأسها مطأطأ بينما كانت تدلي باعترافاتها .. ومن جملة ما اعترفت فيه في اروقة التحقيق أنها تدربت على ايدي المخابرات الكورية كي تصبح جاسوسة لغرض التسلل الى المجتمع الياباني وجمع المعلومات من هناك عن التسليح والتطور التكنولوجي.
وارسلت في مهمتها الاولى في عام 1984 يرافقها عميل كوري شمالي آخر في رحلة الى اوربا كي يدربا نفسيهما على التأقلم مع المجتمع الرأسمالي ، وقد اجاد هذان الاثنان دورهما كسائحين يابانيين ، الفتاة ذات الاثنين والعشرين عاماً تمثل دور ابنة الرجل ذي السبعة والستين عاماً ، وعندما خططت مؤامرة منع الالعاب الاولمبية التي ستعقد في سيئول عام 1988 قدم قسم البحث في الحزب اسم الانسة - كيم - ووالدها كمرشحين بارزين لهذه المهمة . سارت امورها مع المستر - كيم . لقد كانت الصبية تحترم الرجل المسن بسبب خبرته الواسعة كما انهما اشتركا في غرفة نوم واحدة . في اوربا وطوال السنوات الثلاث من عملها في المخابرات الكورية ارسلت الى مدينة كانتون في الصين لتكسب لهجة صينية اصلية . كان كل تدريبها يجري بصورة توحي لها بانها سوف ترسل الى طوكيو للعمل كجاسوسة . ولم تكن تعلم ان مهمتها القادمة سوف تجعلها قاتلة بالجملة .. وستغير مجرى حياتها الى الابد .
في يوم 7 تشرين الثاني استدعيت - كيم - الى قسم البحوث في بيونغ يانغ حيث كان المستر - كيم - بانتظارها وكان من المقرر ان يرسلا من جديد كأب وابنته ، كما اخبرها في مهمة خاصة جداً. أصيبت بالصدمة من مظهر السيد - كيم - فهو في السبعين الآن وكان في اسوأ حالات المرض . في قسم البحوث تم تبليغها بالمهمة الجديدة التي جاءت من افكار ابن القائد العظيم والمعروف باسم - القائد العزيز - كيم جونغ ايل - بان تنسف الطائرة الكورية في الجو وحتى لا تستطيع كوريا الجنوبية اقامة هذا الحدث الرياضي العالمي ! ولقد المح مدير البحوث الى العميلين بان هذه المهمة وهذا الواجب الحزبي يجب ان ينجحا .
وقالت كيم في خاتمة اعترافاتها : "لم يكن بإمكاني عصيان الاوامر .. حتى لو كنت ارغب بالعصيان لانني لو فعلت لكنت وضعت فوراً أمام فرقة الاعدام ، وربما وضعوا افراد عائلتي امام هذا المصير .. من يصبح عميلاً عليه الاستمرار حتى الرمق الاخير . واذا كلف احد بمهمة ليس هناك من مجال للرفض الشخصي ولا حتى التفكير في ذلك ..لان الحزب لا يخطئ وذلك من المستحيل التفكير به".
بعد العفو عنها حدث تغيير كبير في حياة - كيم - إذ اصابتها الحيرة وانتابها الغضب تجاه الحزب عندما عرض تلفاز كوريا الشمالية لها يوم كانت في سن العاشرة وهي تقدم الزهور الى دبلوماسي من كوريا الجنوبية.. وعلى اثر ذلك اصدر الكوريون الشماليون بياناً يقولون فيه ان - كيم - كان اسماً مختلقاً من قبل كوريا الجنوبية وانها لم تكن ابداً من سكان بلادهم .. بل ادعت امرأة كوريا الشمالية ان الصورة لها !