لم يستغرق الأمر سوى ساعات قليلة وصل خلالها الرئيس السوداني، عمر البشير، إلى جنوب أفريقيا؛ للمشاركة بالقمة الأفريقية، فسارعت إحدى المحاكم بإصدار حكمٍ باحتجازه ومنعه من السفر لحين النظر في أمر تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية؛ لتورطه في جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، فخرجت فورًا على الطاولة خطة شديدة الإحكام حملت البشير على كفيها وأودعته إلى أرض بلاده سالمًا، تاركة ورائها علامات التعجب والاستفهام حول تفاصيل ما حدث.
حسب صحيفة «ميل آند جارديان» الجنوب أفريقية فإن جاكوب زوما، رئيس جنوب أفريقيا، وعدد من الوزراء هم مَن وضعوا خطة هروب البشير إلى السودان، ووفروا له ممرًا آمنًا إليها متجاهلين قرار المحكمة بمنعه من السفر والاتفاقات الدولية التي وقَّعت دولتهم عليها، وهو ما وصفه حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، بتفضيل الوحدة الأفريقية على القانون.
تظاهر مسئولو جنوب أفريقيا بعدم معرفة مكان تواجد البشير بعد إصدار محكمة محلية حكمًا بمنعه من السفر، في ذات الوقت الذي كانت تُوضَع فيه خطة رحيله من البلاد بأمان بالاتفاق بين زوما وأربعة من وزرائه كانوا على علم بكل ما يحدث، لم تتمكن الصحيفة من كشف هوياتهم تطبيقًا لرغبة مصدرها الحكومي الذي كشف لها تلك التفاصيل، وألمحت إلى استضافة «زوما» لنظيره السوداني في منزله حتى إقلاع طائرته.
أقلعت طائرة البشير _حسب الصحيفة_ من مطار "أور تامبو" الدولي المدني الموجود قرب العاصمة جوهانسبرج، وهبطت في مطار وتركلوف العسكري بجنوب أفريقيا، والذي يتحكم به قوات الدفاع الوطني هناك تحت رئاسة زوما باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي ذات الوقت اصطحبت وحدة حماية الشخصيات المهمة، الرئيس السوداني، إلى وتركلوف وأقلعت طائرته قبل منتصف النهار.
لم يغفل واضعو خطة هروب البشير عن إخفاء اسمه من قائمة المسافرين على متن الطائرة السودانية التي أقلعت من وتركلوف حتى لا ينفضح أمرهم، وحتى لا يسارع مسئولو الهجرة بتوقيفه، وكان السر يكمن في كود الرحلة "سودان 01" والذي يعني _حسب تفسيرات الصحيفة_ أن الرئيس السوداني كان على متن الطائرة والتي غادرت البلاد في تمام الساعة الثانية عشر وسبعة دقائق بتوقيت جنوب أفريقيا.
وتسبب هروب البشير في أزمة دبلوماسية وقانونية حادة داخل جنوب أفريقيا، مما دفع الحزب الحاكم لمطالبة الحكومة بالانسحاب من عضوية الجنائية الدولية، موضحين أن دولتهم انحازت للسياسة بدلاً من القانون عندما ساعدت الرئيس السوداني في عودته لبلاده سالمًا في خطوة كادت أن تُعرِّض وحدة القارة الأفريقية جميعها للخطر.
تقارير وسائل الإعلام في جنوب أفريقيا كشفت جانبًا جديدًا من صفقة تهريب البشير، حيث حاصرت قوات سودانية مسلحة في دارفور ما يقرب من 800 جندي من جنوب أفريقيا موجودين هناك ضمن قوات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لحين التأكد من سلامة رئيسهم وعودته لأرض الوطن.
ووفقًا للتقرير المنشور بصحيفة التليجراف البريطانية فإن نحو 500 جندي سوداني مسلح أحاطوا جنود جنوب أفريقيا في ثلاث قواعد عسكرية في مقر تواجدهم بدارفور بعد إصدار المحكمة الأفريقية الحكم باحتجاز البشير بدقائق، بمعدات عسكرية متنوعة؛ تحسبًا لتنفيذ حكم منع البشير من السفر والقبض عليه.
وتحدث الجنود لشبكة "نيتورك 24" الجنوب أفريقية الإخبارية، موضحين أن قوات جنوب السودان رفعت حالة تأهبها لأقصى درجة وكانت ستنشب حرب بين الطرفين إذا لم يعد البشير لموطنه سالمًا، موضحين أنهم استمروا في محاصرتهم حتى جاءتهم أنباء مؤكدة عن هبوط طائرة الرئيس السوداني، أرض الخرطوم.
وعلى النقيض أصرت حكومة جنوب أفريقيا إخفاء تفاصيل الأمر، ونفت وزارة الدفاع هناك التقرير المنشور بالشبكة الإخبارية سالفة الذكر مؤكدين أن قواتهم بالمنطقة لم تتعرض لأي تهديدات في تلك الفترة، على الرغم من كون "اريكا جيبسون" معدة التقرير واحدة من أكثر المراسلين مصداقية في البلاد.
وردًا على ذلك سارع أقارب وأصدقاء الجنود الجنوب أفريقيين الذي وقعوا رهن الاحتجاز للتحدث لمحطات الإذاعة في جنوب أفريقيا؛ لإثبات كذب الجهات الرسمية، حيث أكدت فتاة تُدعَى "سام" أن شقيقها كان من بين الجنود المحتجزين تحت تهديد السلاح من الجنود السودانيين، موضحة أن بعضهم ظل تحت الحصار في قاعدته العسكرية، وبعضهم تم أخذه بعيدًا عنها كرهينة لحين انتهاء الأمر.
واعترف "جون ستابارت" رئيس تحرير مجلة الدفاع الأفريقي، بصحة التقرير سالف الذكر ولكنه اعتبره مبالغًا في وصفه لحصار الجنود السودانيين لنظرائهم من جنوب أفريقيا، موضحًا أنهم تعرضوا من قبل لهجمات من قِبَل ميليشيات مسلحة سلبوا أسلحتهم وهو ما قد يكون سببًا في خوفهم المبالغ فيه، فيما اعتبر "يوهان بوتجيتير" الباحث بمعهد جنوب أفريقيا للدراسات الأمنية، أن حدوث مواجهة كتلك التي أُشير إليها في التقرير كانت ستسفر عن نتائج كارثية، الجميع في غنى عنها.
الهيئة القضائية بجنوب أفريقيا، طالبت الحكومة بتقديم تفسير منطقي خلال 7 أيام لتفاصيل دخول البشير للبلاد وخروجه منها دون تطبيق حكم المحكمة بمنعه من السفر لتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يُعتَبر خرقًا للدستور يتيح للمعارضة رفع دعوى قضائية ضد الحكومة ومحاسبتها، وربما يصل الأمر إلى تفجير أزمة سياسية حادة داخل جنوب أفريقيا يقود لانهيار دستوري كاملٍ، حسب صحيفة "الراكوب السودانية".