التالي هي رواية ايرانيه لماحدث في معركة " توكلنا على الله الثانيه "
المقاله هي جزء من كتاب كتبه عسكري ايراني اسمه " ناصر حسيني بور" جرح واسر من قبل الجيش العراقي في هذه المعركه
الكتاب بعنوان " القدم التي بقت هناك " ويحكي عن تجربه العسكري الايراني في الحرب و الاسر في العراق والتي امتدت لثلاث سنوات
الجمعة 24 حزيران 1988م - جزيرة مجنون - جادة الخندق
كان الوقت فترة بعد الظهر، ورطوبة الهواء تثقل الصدور كالرّصاص. انتهت مناوبتي وجاء البديل. نزلت من غرفة الرّصد الصّغيرة فوق البرج ليحلّ "ولي ياري" مكاني.
من أعلى البرج كنت قد سجّلت تحرّكات العدوّ حتّى عمق تموضعه على الخط الأول، والثاني، في الاستمارات الخاصّة بالاستطلاع. كانت تحرّكات العدو، وعبور آلياته نحو "الكسارة"، و"البيضة"، و"الصخرة"، و"الهدامة"، و"الكرام"، والمرور المتواصل على طريق العمارة- البصرة، وخلف قناة "صويب" المستحدثة، والطرق التّرابيّة المؤدّية إلى جزر مجنون، تنبئ عن هجومٍ واسعٍ سيحدث عمّا قريب..
كنّا نرسل تقارير الرّصد يوميًّا إلى مسؤول استطلاع المقرّ السادس للحرس. أشيع منذ عدة أيّامٍ بأنّ العدوّ ينوي القيام بهجوم مضادٍّ في جزيرة "مجنون".
بعد عمليات خيبر وبدر , أجرى العراقيّون مجموعة تدابيرٍ احترازيةٍ لمنع تقدم القوّات الإيرانية، ضخّوا الماءَ من نهر دجلة إلى منطقة "هور العظيم"، ووضعوا أسلاكًا شائكةً أمام خطوطهم المتقدّمة، أسلاكاً حلقيةً ونفقيّة وعنكبوتيّة، وأضافوا موانعَ وأفخاخًا انفجاريّةً وألغامًا مضادةً للأفراد.
أثناء عودتي من الرّصد، التقيت بـ "علي يوسفي سوره"، من شباب كتيبة قائم شهر، تعطّل قاربه في الطريق المائيّ قبل وصوله إلى مقر الكتيبة، كنت في السابق قد تعرّفت عليه حين خضعنا معًا لدورةٍ تخصّصيّةٍ في المتفجّرات في ثكنة القدس في همدان، لم يكن يخطر ببالي أن أرى عليًّا في جرز مجنون. قال لي "عبد العلي حق كو"، قبل أيام، إنّ أحد شباب كتيبة قائم شهر يسأل عنك، ويحاول الوصول إليك، كان "علي يوسفي" متخصّصًا ماهرًا في التّخريب، وكان يقلّد "كويتي بور"، و"حسين فخري" في اللطم والأناشيد بشكل مذهل
أوصلت "علي يوسفي" إلى مركز كتيبته، وذهبت إلى خندق الاستطلاع، كان بيته قد دمّر في خرّمشهر وكان والداه يعيشان في مجمع متضرّري الحرب "أميديّه". قال لي: عندما تحرَّرت "خرّمشهر" ذهبت إلى المنزل قبل الذّهاب إلى المسجد الجامع، وجدت أنَّ المحتلّين قد دفنوا في حديقة منزلنا اثنين من أبناء المدينة!
كان "عليّ" رقيقاً حسّاسًا، وكانت أمنيته بأن تخترق رصاصات العدوّ أضلاعه، وأن لا يضمّه قبر ! كل كلماته كانت دروسًا: "إن كان لا بدَّ لي من قبرٍ، فاكتبوا على شاهده، (لا نعرف من يرقد هنا!)
كان التحاقي بجمع شباب الاستطلاع نوعاً خاصاً من اللطف. فقد كانوا رفاق أخي الشهيد, فبعد شهادته تآخيت مع "عزت الله ولي بور"، قائد وحدة الاستطلاع في مقرّ "كردوي كردستان"، وأصرّ على انتقالي إلى وحدته، رغم معارضة جماعة "التخريب" في البداية، ولكنّه لم يتراجع عن طلبه حتى تحقّق.
كان غروب هذا اليوم حزيناً، تماماً مثل غروب أيام الجمعة!
قبل نصف ساعة من الغروب، بدأت قوات المدفعيّة الثّقيلة بصبّ حِمم نيرانها على مواقع العدوّ، للمرة الثانية بعد قصف يوم الأمس بعد الظهر.
إنّها الساعة التاسعة ليلاً، الجزيرة هادئة يلفّها السكون. جلسنا نتسامر أنا و"ولي زرجام"، و"حسن وكيلي"، و"أصغر دلروز"، خارج الخندق فوق الجسر العائم. كالعادة انتهى بنا المطاف بالمزاح. لا أعلم كيف انتقل بنا الحديث إلى الشباب الأيتام في الجبهة من الذين فقدوا أمهاتهم! من بين الأربعة كنا أنا و"أصغر" و"ولي" بلا أمّهات. توفيت والدتي وأنا في سن التّاسعة. قال "ولي":
- سيّد! هل تعرف بأنّ مصيبتنا، - أنا وأنت وأصغر-، أسهل بكثير، وبدون "وجع رأس"؟!
- كيف تكون بلا "وجع رأس"؟!
- ليس معروفاً ما سيحصل لنا في الحرب، عدم وجود الأمّ في هذه الحالات نعمة! إذا استشهدنا يكون بالنا مرتاحًا، ولا نقلق على حزن الأمّ، وحرقتها. ليت كلّ الشهداء بلا أمّهات، فلا شيء في الدنيا أصعب من مصيبة الأمّ بولدها!
كنا نتابع الحديث حين نادانا "عبد العلي حق كو" قائلاً:
تجمّعوا! "ولي بور" يطلبكم إلى موقع (دشمة) القيادة!
كان "عزت الله ولي بور" قد عاد من اجتماع المسؤولين في مقرّ "خاتم3". تحدّث عن وضع العدوّ، والحشود، الجديدة في المنطقة، وقال: وفق المعلومات الواردة إلينا، فإنَّ العدوّ يستعدّ لشنّ هجومٍ على الجزيرة.
نقل لنا بعض المعلومات عن لسان العقيد العراقي "محمد الفاتح"، قائد لواء المشاة 429 الذي أُسِر قبل أيام في "شلمجة". فهمنا من كلامه، أنّ يومَ الغد سيشهد معركة غير متكافئة بيننا وبين العدوّ.
أعلمنا "ولي بور" عن القوات العراقيّة التي نقلت إلى خطّ التّماس منذ أيام: "اللواء 601 مشاة" من الفيلق الثالث، "الفرقة 25" من الفيلق الثالث، كتيبتان من "الفرقة 16"، قوات لواء كوماندوس القادسية، وكتيبتان من القوّات الخاصّة في الحرس الجمهوريّ.. وكلّهم جاؤوا إلى جزيرة "مجنون".
قال "ولي بور": في هذه اللحظات، وأنا أتكلّم معكم, تقوم هذه الوحدات بتفريغ حمولتها، والتّموضع في مواقع "البيضة"، و"الصخرة"، و"الهدامة"، والطرق المؤدّيّة إلى الجزر، و"قناة صويب".
اليوم، شاهدتُ بنفسي، ومن فوق برج المراقبة، تحرّكات العدوّ، وعبور قواته. كان الخطّ مزدحمًا جدًّ, فالتقرير الذي رفعته، وما قد أخبرنا عنه، كان يشير إلى احتمال هجوم كبير.
بعد فتح "الفاو" و"شلمجة"، قال "محسن رضائي" لـ"حيدر بور" قائد لوائنا: الخطوة التّالية للعراقيّين ستكون نحو الجزيرة، انتبهوا جيّداً، هنا آخر الخطّ! سمعت كلام السّيّد محسن من "ولي بور". كانت دراسة المعطيات العسكريّة توصلنا إلى استنتاج أنه: بما أنَّ درجة الحرارة فوق الـ 50 فإنّ العدو لن يقوم بأيّ هجوم، لأنّ الحرارة المرتفعة تؤثّر على تجهيزاته، المدافع البعيدة المدى لا تتحمّل هكذا حرارة، فالقصف المدفعيّ الزائد يؤدّي إلى إعطاب "سبطاناته".
كان طقس اليوم بعد الظهر أفضلَ، مقارنةً بالأيّام الماضية، انخفضت الحرارة بضعَ درجات. لم تكن عند العدو مشكلة في العمل من الغروب إلى مطلع الفجر، كانت مشكلته في النّهار والحرارة المرتفعة. كان العدوّ قد نظّم أهدافه، وثبّت مواقع رماياته من خلال إطلاق القذائف الفوسفورّية، والدّخانية، على طرقات "الخندق"، وخطوط الدّعم والإسناد الخلفيّة, كطرقات "سيّد الشهداء"، و"بدر"، و"قمر بني هاشم"، و"صاحب الزمان"، و"الشهيد همّت"، والطريق المفتوحة حديثًا المعروفة باسم "شفيع زاده"..
وفق معلومات شباب الاستطلاع، فإنَّ الجيش العراقي قد جهّز في الخط الثاني، مقابل جزيرة مجنون فقط، 130 راجمة كاتيوشا!
بعد التوجيه والاستشارة ومناقشة الوضع، عيّن "ولي بور" شباب الاستطلاع كأدلّاء للكتائب.
"ولي زرجام"، و"نعمت الله بايدار"، و"ولي ياري خواه"، و"الله خواست بركاني"، و"علي برز درست"، و"آيت الله برور"، و"ترابعلي توكل بور" لكتائب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام علي عليه السلام.
وعيّن "بيران" لقوات القاسم بن الحسن عليهما السلام.
"حسن وكيلي" رابط الاستطلاع، وعامل الإشارة، بالمحور. بقي "عبد العلي حق كو" فقط من شباب الاستطلاع كمنسّق الأعمال في الخندق.
هذه الليلة طلب شباب الاستطلاع المسامحة من بعضهم بعضًا، وتفرّقوا كلٌّ إلى القوّة التي ينبغي عليه العمل معها كدليل. أردف "حسن وكيلي" "بيران" خلفه على الدراجة النّاريّة إلى موقع "الخندق". كان بيران يردّد دائمًا: "حسن" رجلُ جميع المهمات الصّعبة في وحدة الاستطلاع.
أعطاني "بيران"، قبل أن يرحل، كلّ وثائقه وكتاباته كي أحفظها له.
كانت ليلة قاسيةً ومرّةً. حين ودّعني، عانقني بشدّة، وقال:حين أعود هذه المرّة سنذهب معًا إلى "تنك سبو"، وعدني السّيّد "هدايت" بزيارتنا، ولكنّه لم يفعل!
التحق كلٌّ منّا بكتيبته. و.... تفرّق جمع شباب الاستطلاع إلى الأبد!
صَدَقَ "علي يوسف بور" حين قال: إنّ عمرَ صداقات الجبهة قصيرٌ. كنت أحسب أنّني سأبقى لسنواتٍ طوالٍ بالقرب من شباب الاستطلاع في هذا الخندق. تعوّدت على: حنان "بيران مستوفي زاده"، وخجل "الله خواست بركاني"، وقلّة كلام "عبد العلي حقّ كو"، وكثرة حركة "حسن وكيلي"، ومزاح "ولي زرجام"، وجدّية "علي برزدرست"، وحلم "آيت الله برور"، والبسمة الدّائمة على محيّا "عزت الله ولي بور".
تحوّل مسير المعركة ومصيرها في هذا الشهر بشكل مُذهل. حين ذهب الشباب، انقبض قلبي، وشعرتُ بأنّي لن أرى أغلبهم بعد اليوم. طلب منّي "الله خواست" أن أسامحه على ما فعله أمس الأول, حين كنا نسبّح معًا، أمسك برأسي ممازحًا، ودفع به تحت الماء حتى كدت أختنق. قال لي: إنّ عنصر الاستطلاع ينبغي أن يتمكّن من البقاء تحت الماء لمدة دقيقة وثلاثين ثانية، وقد أخفقت أنا في الثواني الأخيرة! في ذلك اليوم، انزعجت منه قليلاً، ولكنّ محبّتي له لم تنقص أبدًا. حين ذهب الشباب، لم يبق إلّا أنا، و"عبد العلي حقّ كو".
كان "ولي بور" مطّلعًا على هوايتي، وتعلّقي بالرّصد، والمنظار، والبرج. كنت "عاشقًا" للبرج والرصد ومنظار الـ"20×120".
كنت أمازح "ولي بور" قائلاً: إن "طبخوني" على البرج، فإني لن أشبع منه!
تشعرُ فوق البرج بأنّك أطول من الجميع، وأكثر ارتفاعًا وعلوًّا، وبخاصّة لدينا نحن ذوي الطموحات الكبرى، كنّا نحلّق بعيدًا، وكنا نحاول دومًا أن نثبت أنفسنا في الحرب.
كنتُ منجذبًا إلى التحليق عالياً، فوق البرج تَرى ولا تُرى، تُعطي "الإحداثيات" للإسناد الناري, كي يصحّحوا إحداثيات الرّمي على مواقع الدبابات، ومنصّات المدافع التي تقصفنا. العدو يحاول التركيز عليك، ورميك بقذائفه، منظر الخنادق والطّرقات والسّيّارات و...
إنّها الساعة العاشرة والنصف مساءً.
امتثالاً لأمر "ولي بور" يجب أن اذهب إلى برج المراقبة. أوصلني "الله خواست" إلى البرج على الدّرّاجة النّاريّة. منذ عدّة أيام كنّا
قد ذهبنا معًا لرصد نقاط استقرار الدبابات، خلف قناة "الصويب"، مقابل جزر مجنون الشمالية،وإعداد تقرير عنها.
"الله خواست" كتلةٌ من النّشاط والمثابرة.
كان يقول لي، ونحن فوق البرج: سيّد نحن لسنا هنا لرَصَد واستطلاع الجزيرة، أو لقسمٍ من خوزستان فقط، نحن نرصد دفاعاً عن 35 مليون إيراني. عندما كان يرى خطوط العدو عبر المنظار قال لي: "هل أمعنت النّظر، حتى الآن، في شكل نهرَي دجلة والفرات؟!" ويتابع: "هناك يتقاطع دجلة مع الفرات ليشكلا مجرى (اروند)، ثمّ يصّبان في الخليج الفارسيّ، إنّ هذا الفرات هو دموع تلتقي بدجلة! إنّها دموع الخجل والحياء من الإمام الحسين عليه السلام، دمع الفرات يتضاعف في دجلة أضعافًا!" كان إنسانًامن ذوي القلوب الصّافية.
ودعت "الله خواست" قرب البرج، وحين افترقنا مازحته قائلاً:
"الله خواست"! لن أنسى بأنّنا استطلاع لـ 35 مليون إيراني.
كان عليّ أن أدوّن مشاهداتي عبر المنظار الليلي في تقارير إلى "ولي بور". المسافة بين البرج وخطّ التماس مع العدو 4كلم، وتشاهد من البرج مناطق "البيضة والصخرة والحالة وهمايون والكرام".
كنت أصعد السلّم المعدنيّ للبرج، حين هتف "خسرو مرتب"، مسؤول مدفعية اللواء من فوق البرج, بقيتْ بضعُ درجات لأصل إلى غرفة الرّصد الصغيرة، أطلّ برأسه وقال:
- من أنت؟
- أنا "حسيني بور"، أرسلني "ولي بور" إلى هنا!
كنت أعرفه، فلطالما رأيته في "كردستان".. هو من "بهبهان"، من القادة الشجعان في الحرب. لم يكن يعرفني. كان صديقاً لأخي الشهيد. بعد نصف ساعة من لقائنا كان جليد الغربة قد ذاب بيننا.
كان إنسانًا بسيطًا بلا تكلّف. تناولنا العشاء معًا، خبز، وجبنٌ وبندورة. الليل هادئ وساكن، لا يقطع صمته سوى أصواتِ الضّفادع والزيزان، بين حقول قصب الجزيرة. كانت عيوني مركّزة على المنظار ترصد أوضاع خط التماس، حين سألته عن الهجوم العراقي المرتقب، قال: "بعد ساعات ينكسر هذا السّكون".
كان لديه معلومات لا أعرفها، مع علمي بأنّ العدوّ يستعدّ للهجوم إلا أنّ كلمته، و"الآه الباردة" التي أطلقها من صميم قلبه، أفهمتاني أشياء وأشياء.
صلّينا في غرفة الرصد فوق البرج. تمنيت في قلبي لو يطول البرج ويرتفع أضعافً, كي أرى بشكل دقيق ما يجري بعيدًا على الجادة الاستراتيجيَّة "للعمارة - البصرة" و"هور الشيطان".
أُعطيَ الأمر بالتأهّب لجميع الوحدات، والكتائب، المستقرّة (المتموضعة) في جادة الخندق23. حقول القصب التي كانت تتماوج تحت ضوء القمر ـ كانت الشاهدة على أصوات مناجاة وأدعية لشبابٍ سيلتحقون بعد ساعات قليلة بالفيض الإلهي. كل ما كنت أراقبه في المنظار، من آليات، ومدرّعات، وحاملات دبابات، وزوارق، وتجهيزات ثقيلة في المنطقة الممتدّة من "الهدامة" إلى موقع "الروطة" و"الحالة" -، كان يدلّ على اقتراب معركة طاحنة وغير متكافئة
السبت 25حزيران 1988م - جزيرة "مجنون" - جادة "الخندق"
مضى أكثر من نصف الليل، كنتُ منهكًا أكثر من العادة، وقد هدّني السّهر، وأحنّ إلى نومةٍ طويلة مريحة. خلف المنظار، كنت أجاهد جفوني ورموشي. كنت أرسل تفاصيل الوضع لحظةً بلحظة عبر جهاز اللاسلكي. فجأة، وفي الساعة الثالثة والربع فجراً، أضاءت نارٌ وانفجارات سماء الجزيرة، وغدا الليل نهارًا، بدأ الهجوم المدفعيّ، أنواع المدافع، وراجمات الكاتيوشا، والـ 107، والمدفعيّة البعيدة المدى كانت تسقط كالمطر الرّبيعيّ على الجزيرتين الشمالية والجنوبية وعلى مواقع "الخندق".
كان "خسرو" يعطي، وبشكل متواصل، إحداثيّات العدوّ لشبابه في المدفعيّة، فيرمون مصادر النيران، يصحّح لهم إحداثيات الأهداف، فيعيدون الرّمي بدقّة أكبر. توزّع الرَّدّ المدفعيّ على الخطّ الأول والثاني للعدو، وكان دقيقًا حيث عطل لساعات حركة العدوّ، وأصاب حاملات قوارب، وكذلك خزّانات محروقات في "الصخرة"، و"سيل بند"، وعلى الرغم من قلة عدد الصواريخ وقذائف المدفعية، - حيث كان لها نظام توزيع يومي محدود-، فإنّ شباب المدفعية قاموا بعملٍ مهمّ وكبير.
لم يكن هناك مجالاً للمقارنة بين إمكاناتنا وإمكانات العدو من حيث السلاح والذخيرة والتجهيزات، فنحن معرّضون للعقوبات والحصار، وأظنّ أنّ العدوّ كان يرمي في الدقيقة الواحدة حوالى1000 قذيفة فوق رؤوس شبابنا في نقاط الجزر المختلفة.
عند الساعة الرابعة والنصف فجراً، تقدّمت القوارب العراقيّة نحو جادة "الخندق". كانت أعنف حملات القصف تصّب حممها على موقع "الخندق" وحصنه, أي: مكان وجود سريَّة "القاسم بن الحسن"، وهي إحدى سرايا كتيبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث. أكثر عناصرها كانوا من متفرّغي الحرس الثّوري.
حوالي الساعة الخامسة، كان علينا مغادرة البرج والتوجّه نحو مثلث المحور، حاول العراقيّون رمي برج المراقبة.
كان حجم النيران والقصف الذي تعرّض له البرج كبيرًا جدًّا، لدرجة أن الأسلاك التي كانت تُثبّت البرج قد انقطعت بسبب الانفجارات المتتالية، كما تهاوت إحدى دعائمه، فبقي مرتكزًا على ثلاث دعائم فحسب.
في الدقائق التي خمدت فيها النيران، استطعنا النزول أسفل البرج، وكنت ما أزال أفكر بالمنظار العسكري (20×120)، فإذا تهاوى البرج فسوف يسقط في المياه، وكنت على استعداد لأن أسقط أنا من أعلى البرج إلى مياه الجزيرة، ولا يصيب المنظار أيّ مكروه. ما إن وصلتُ أسفل السُّلّم الحديديّ حتى قلتُ: "ماذا عن المنظار يا سيد مرتب"!؟ "إذا سقط هنا فسوف يقع بأيدي العراقيين!"
- سنرسل اثنين أو ثلاثة من الأخوة لإنزالها.
- ماذا لو لم يأت الأخوة؟
- لا حاجة للتفكير في ذلك وسط هذه المعمعة، لدينا أعمال أهم بكثير من التفكير به. هيا اذهب إلى "ولي بور" فلربما احتاجك في أمر، فقد انتهت مهمتك معي.
أصبحت سيَّارة "خسرو مرتب" الـ "تويوتا لاند كروز"، كالمصفاة بسبب الانفجارات المتتالية، ولم يبق منها أيّ جزءٍ سالم، فقد تحطّم
زجاجها، وثُقب إطارها. قمنا بتبديل الإطار وسرنا، وفي الطريق حملنا معنا عدداً آخر من الإخوة.
شاهدنا شهداء وجرحى على جانب الطريق، قال "خسرو": الآن لا شأن لكم بالشهداء، أحضروا الجرحى بسرعة.
كانت الدماء تسيل غزيرة على أرضية السيارة، والقذائف تنهمر كالمطر، لم أشهد قصفاً عنيفاً كهذا طول المدة التي خدمتها في الجبهة، لمحت "نعمت الله بايدار" في الطريق ينقل عددًا من الشهداء والجرحى إلى الخلف.
إنها السادسة صباحًا، بدأ العدو هجومه من عدّة محاور، من الشمال والوسط والجنوب، ركز العدوّ قصفه على تحصينات "موقع الخندق".
تحرّكت قوات الحرس الجمهوري العراقي من المحور الجنوبي نحو "نشوه" وقناة "صويب" لقطع جادة "سيّد الشهداء"، والقوات الأخرى في الشمال لاحتلال جادة "حنظلة" ومستديرة "الإمام الرضا عليه السلام"، ليصلوا إلى منطقة عمليات "ترابه" و"أبو ذكر" و"أبو ليله" في مكان تموضع لواء "الحجّة 51".
كذلك فإنّ "الفيلق 25" العراقي حاول التقدّم من جهة "شط عليّ"، والفيلق السادس للمدرّعات، والخامس للهندسة، ولواء الحرس الجمهوري نحو "الطلائية" و"ثكنة زيد".
فارقتُ "خسرو مرتب" هنا. كان مثلث المحور مزدحماً.
كان "جواد عظيمي فر" و"عوض شهابي فر" يقومان بتوجيه وتنظيم القادة والقوات. كان عمل "عظيمي فر" أصعب من باقي القادة، كان قائدًا فعّالاً وذكيًّا. فقد القدرة على الكلام في عمليات بيت المقدس، فكان يتابع قيادته عبر القلم والورقة! يكتب ما يريد، وينقل عامل الإشارة أوامره لقادة الكتائب والوحدات. سلاحه الأصلي القلم والورقة، وكان بحوزته دائماًعددٌ وافرٌ منها.
كان "عزت الله ولي بور" في مثلث المحور، ولم يكن معه أحدٌ من شباب الاستطلاع.
كانت إحدى فصائل كتيبة الشهداء (الخاصة) تتجهّز للدخول إلى مواقع "الخندق"، وكان "ولي بور" متردّدًا في إرسالي معهم كدليل، كنت أعرف سبب تردّده، فأخي قد استشهد قبل ثمانية أشهر، ويخاف عليّ بأن استشهد الآن.
كنت أقرأ ملامح وجهه, حيث راح يفتّش عن شخص آخر غيري يمكنه إرساله.
سعى "الله خواست بركاني"، الذي كانت تجمعه صداقة حميمة بأخي، إلى إقناع "ولي بور" بعدم إرسالي إلى هكذا مهمة. كنت أرغب بالتقدّم مع الشباب إلى خطّ النار. كيف يمكن أن أبقى هنا في ظل هذه الأوضاع الصعبة؟ انتظرت أن يطلب "ولي بور" مني الالتحاق بتلك الكتيبة، ولمّا رأيت أنّه لم يكلّفني بشيء نفدَ صبري، فقلت له:
- حاج! أرسلني معهم إلى الأمام؟
- أنت، لا!
- لِمَ لا؟ أنا أعلم لماذا لا تريد إرسالي!
- ابقَ هنا، لديّ عمل آخر لك.
- أنت قائدي، كلّ ما تقوله سمعاً وطاعةً، ولكن الآن ليس الوقت المناسب, كي لا تستفيد من طاقتي بسبب شهادة أخي "هدايت"، فهو لا يرضى بعملك هذا!
استطعتُ بإصراري الشّديد إقناعه بأن يرسلني كـ "دليل" لشباب "الكتيبة الخاصّة".
قبل أيام، حين كنّا معًا في برج المراقبة، قال لي "ولي بور": لقد استشهد "سيد هدايت الله" في هذه الوحدة، إذا استشهدت أنت أيضًا بعد عدّة شهور، ألن يقول والدك: ما هذا القائد "ولي بور", لقد أرسل اثنين من أولادي في غرفة الاستطلاع إلى الموت خلال بضعة أشهر؟! يا له من عديم الإحساس؟!
قبل أن تشرق الشمس، أدّى الشّباب صلاتهم في مثلث المحور، كانت الصلاة الأخيرة للكثير منهم.
بعد الساعة السادسة، سِرتُ مع شباب كتيبة الشهداء الخاصّة نحو مستديرة "تشراغتشي". من بين شباب الكتيبة كنت أعرف: "علي محمد كردلو"، و"أصغر علي كردلو"، و"محمد حسين حق جو"، و"سالار شفيعي نجاد"، و"السيد غلام زاده"، و"السيد محمد علي
غلامي"، و"السيد رحمت الله اشكوه"، و"عبد الرضا دير باز".
دفعتنا غزارة النيران إلى أن نتقوقع على بعضنا، ونضع أيدينا خلف رؤوسنا، وننحني للأسفل, كي لا نعرف ما يحدث حولنا بخاصّةٍ إذا ما سقطت قذيفة وسط الشاحنة التي كانت تقلّنا!
ترجّلنا عند مستديرة "تشراغتشي"، إذ لم يعد بالإمكان عبور الآليّات بعد تلك النقطة، علقنا وسط نيران العدوّ، فلكي نصل إلى موقع "الخندق", ينبغي العبور من موقع "تشراغتشي"، ثم موقع "أردني"، فموقع "سيد الشهداء"، وأخيراً موقع "بيت اللهي"، وكان "ولي بور" قد قال لنا ما ينبغي أن نفعل.
يجب إرسال عددٍ من الشّباب إلى موقع "الخندق"، لدعم وإسناد شباب سريَّة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وكذلك علينا أن ننشر مجموعات على طول الجادّة لتغطيتها.
كان شبابُ موقع الخندق محاصرين من قبل العدو، ووضعهم صعب جدّاً. توزّع الشباب إلى مجموعات صغيرة تبعد الواحدة عن الأخرى حوالي300 إلى 400 م كي يتمكّنوا من تغطية الجادة بأكملها.
يتبع .........