التاريخ العسكري للأمم أشد غموضاً من تاريخها السياسي فهو لا يتوقف عند الصراع الخفي بل يمتد لصراع متعدد الأوجة تلعب فيه رصاصات الجيوش دوراً كبيراً لا يوجد مثيل له في صراعات السياسة و الصراع السياسي نفسه هو الأب الشرعي للحرب فالحرب ترجمة لإنسداد في الحلول السياسية للأزمات و تعبير عن فشل المتفاوضين و بالتالي اللجوء للحل الأخير و حتى إدارة الحرب و مسارها يخضع لعقل سياسي تفاوضي قد يوقف الحرب و قد يشعلها من جديد على حسب الاحتياج السياسي ، لذا من النادر أن تجد تقييم واقعي للحرب من إنتصر و من هُزم فألمانيا مثلاً سحقت الجيش البريطاني الخامس و شتتّه في خط الجبهة الفرنسية حتى نهر السوم في الشهور الاخيرة للحرب عام 1918 مطيحة بمستقبل هربرت جوف قائده و مع هذا هُزمت ألمانيا و السفييت كادت موسكو تسقط من بين أيديهم و حُصرت بالجوع و الهزيمة التي ولدت 3 ملايين أسير سوفيتي في معسكرات الألمان بالحرب العالمية الثانية و مع هذا إنتصرت.
لذا لا يمكن التعامل مع التاريخ العسكري بدون نظرة لما قبل الحرب و أثناء الحرب و أهداف الحرب لكلا الطرفين هل تحققت أم لا بعد الحرب فهنا إرادة كل طرف هي التي تحدد من إنتصر و من هُزم في الحرب و من الأقوى المُنتصر أم المهزم و السؤال الأخطر من مِن الطرفين كسب النتائج و حصدها؟
لم تكن ثغرة الدفرسوار مجرد عملية تليفزيونيه كما وصفها كسينجر لأسباب تتعلق بصورة السادات أمام شعبه بل كانت عملية قوية أنتجت إختراق متعدد لصفوف الجيش المصري ولدت حصار قاتل على مدن القناة ثم حصار للجيش الثالث (45 ألف ضابط و جندي) وورقة تفاوضية إستمرت حتى فك الحصار نهاية يناير 1974
في هذه الفترة تم تمرير أكثر من قرار لصالح إسرائيل يشمل افراج عن جواسيس و أسرى إتفاقيات مؤقتة مقابل فقط إرسال ماء و طعام للجيش المحاصر حين إستقر الأمر شمل تخفيض الحشد العسكري المصري على سيناء عام 1974 -الكيلو 101- بدون أي ضمانة بعدم إستغلال الموقف و الهجوم على البقعة القليلة من الارض التي إلتقطناها في أول 6 أيام من الحرب .
هذه العملية أنتجت على حد تعبير كسينجر لجولدا مائير أثناء محاولته إقناعها بالتفاوض مع السادات أنتجت إنتصار تكتيكي إسرائيلي على أرض المعركة و فوز عربي إستراتيجياً و هذا الوصف في ظني أفضل ما يمكن تلخيص الحرب به فهو يصف أرض المعركة كما يجب و يصف الاهداف التي حققتها مصر و العرب فهم إنتصروا إستراتيجياً و هُزموا عسكرياً لكن حققوا هدفهم في النهاية بغض النظر عن الموقف العسكري.
إن مصر حددت هدفها بكسر الجمود و خلق حالة تفاوضية بالاستيلاء على بقعة بسيطة من سيناء و هذا ما حدث و لهذا فمصر تعتبر انتصرت هي و العرب إستراتيجياً لكن هل كانت نتائج الحرب الاستراتيجية مُستغلة جيداً؟
الغريب أن السادات توجه للولايات المتحدة التي لم تجف دماء الجند المصريين من يديها ليطلب منهم الوساطة , ثم وافق في وقت قياسي على رؤية جولدا مائير للحل بحيث لم تتجاوز مفاوضاته مع كسينجر في بدايات 1974 في زيارته الأولى 3 ساعات و قبل بالشروط الستة دون جدال , و بعدها قبل بالكثير على سيناء إلى معاهدة السلام التي أنتجت وضعية طالما طالبت بها إسرائيل منذ مارس 1957 بعد إنسحابها من سيناء كأن الحرب لم تحدث و كأن إنتصاراً إستراتيجياً ما كان و كأن لا شئ تم بيد العرب !
إن الاطلاع على مطالب إسرائيل بخصوص سيناء قبل 1967 و مقارنتها بالملحق العسكري لإتفاقية 1979 يجعلني أُصدم فهل يشعر أحد المتفاوضين بأن هناك حرب حدثت؟!
إن مصر أهدرت كذلك ورقة السوفييت فالعدو بيننا و بينه وسيط هو نفسه الممول الأول للعدو أما داعمنا الرئيسي السوفييت فقد خلعناه بلا مبرر بينما كان مستمر في إمدادنا بالسلاح فورقة هامة هي الاستناد على السوفييت في ماجهة تفاوضية مقررة قبل الحرب لم نهتم بها ألقيناها على الأرض.
السؤال الآن كيف تفاوضت مصر بموقفها العسكري الدقيق و دون سوفييت و بقبول مبدئي لشروط جولدامائير بلا مناقشة ؟
.. إن الموقف التفاوضي خصوصاً مع رفع إجراءات ما لُقب بالحظر البترولي و رحيل السوفييت سيكون دقيق فهو موقف لا سند له و لن ينتج شئ حقيقي في المواجهة فإما إنسحاب إسرائيلي بشروط إسرائيلية كأن لا شئ حدث أو بقاء إسرائيلي خاصةً مع حديث السادات المستمر عن إستحالة خوض حرب جديدة مع إسرائيل بعد أكتوبر (هيكل و الجمسي و السادات) و بالطبع كان هذا حقيقي فمن أين نأتي بالسلاح و الدعم بدون سوفييت؟؟!
هل إسرائيل المنتصرة على أرض المعركة المهزومة إستراتيجياً بفشلها في إجبار مصر على العودة لخطوط 5 أكتوبر مقابل فك حصار الجيش الثالث ستظل في سيناء؟
كان هذا سؤال مطروح طوال الوقت لكن من يطرحه لم يكن السادات و لا جولدا و لا كسينجر فهم يدركون أن النتيجة المثلى إنسحاب بشروط قاسية لا تتوقف عند إفراغ سيناء عسكرياً و سلام يجعل موقف مصر من إحتلال بيروت 1982 كموقف الصومال لكن أيضاً ينسحب على الجيش الذي لا بد أن يتحول المصدر الأول لتسليحه من السوفييت للأمريكان و هذا وحده أفضل ضمان لأمن إسرائيل فلو تكررت أكتوبر لن تستطيع مصر القتال أبداً و لو خسرت طائرة فلن تستطيع تعويضها.
لهذا بهدوء وافقت إسرائيل على الانسحاب ثم ألقت بعدة خطب مؤثرة حول بكاء الشعب اليهودي على سيناء و التضحية الكبرى بلا مكاسب بينما على أرض الواقع ضمنت خرج البلد الوحيد القادر على مواجهتها و طرد السوفييت من المنطقة و إبدالهم بالأمريكان جعل سيناء بلا جيش ، إن هذه الصفقة عادلة من وجهة النظر الاسرائيلية فسيناء سترحل لكن معها أي خطر من مصر و حتى لو تكرر الخطر فلا سلاح للحرب لأن مورد السلاح حليف لإسرائيل و الأهم أن مصر حُذفت من قائمة الأعداء.
الربح السياسي و الاستراتيجي هنا ينتقل كليةً عام 1979 من مصر لإسرائيل و مصر لم تحصل إلا على أرض فارغة تحت الرهن الإسرائيلي و الحليف الامريكي الذي سيستفيد من كل قطرة سياسة و نفوذ مصرية و لن يمنحنا بها طلقة رصاص واحدة لو عادت الحرب لأي سبب بل سيعود لموقفه القديم منا لكن الفارق هنا أننا لن نجد لا عرب و لا سوفييت بالمرة لأن السوفييت طُردوا ثم فُتتوا و إنتهوا بينما العرب أخذوا موقف مصر كتصريح وصل إلى حد الفلسطينيين أنفسهم أصحاب القضية الأكبر.
نعود لعنوان المقال .. من المنتصر في حرب اكتوبر ؟
لنقول أن الرد كالتالي:
-1- إنتصرت إسرائيلياً عسكرياً و هُزمت إستراتيجياً بشكل جعل العرب هم المنتصرون و إسرائيل هي المهزومة.
-2- تعامل السادات مع النصر بطريقة أهدرته ففض الاشتباك ضيع ضمان بقاء قواتنا بسيناء بحجمها التي عبرت به في أكتوبر 1973 ثم بوضعية في سيناء هي وضعية مطلب عام 1957 كأن لا مكسب إستراتيجي يجعل الموقف يتغير ثم في دعم سوفيتي إنتهى و معه دعم أمريكي نسف أي قدرة للجيش على تكرار الحرب.
-3- عوضت إسرائيل خسائرها عبر ضرب لبنان 1982 فرحلت القيادة المقاومة و غرق لبنان في موجة جديدة من الحرب الأهلية و بات للأبد حل الحرب بين دولة عربية و إسرائيل مستحيل إنتقل الرهان لحرب العصابات .
----------------------------------------