قد بدت العمليّة الإرهابيّة ضد مجلّة Charlie Hebdo في باريس اشبه بمناورة تدريبيّة نقلت مباشرة على الهواء ولكنّها كانت في الحقيقة عمليّة محضّرة وصفتها وكالة "اي بي سي" الأميركيّة بالهجوم المحترف ووكالة الصحافة الفرنسيّة أنّها هجوم بارد وجاءت نتائجها مفجعة، ولم تتأخّر داعش عن إعلان مسؤوليّتها عنها معتبرة أنّها ردٌ على نشر المجلّة رسومات مسيئة للنبي محمد (ص) وللخليفة البغدادي أمير التنظيم، هذا التنظيم المخيف الذي فرض سيطرته وبسرعة خياليّة في العراق وفي شمال وشرق سوريا بالرغم من عدائه لأكثريّة قوى المعارضة السوريّة ولنظام بشار الأسد، هو الذي أرعب العالم بوحشيّته في القتل والذبح معتمداً اسلوباً وثائقيّاً مشوّقاً في الإخراج لدبّ الذعر والخوف في نفوس خصومه وإظهار صورة مرعبة تقطع الأنفاس...
في دراسة مقتضبة لمرحلة ما قبل هذه العمليّة وبعد صعود نجم هذا التنظيم وإعلانه دولة الخلافة نجد أنّه في أغلب الدول الأوروبيّة كانت قد خفّت كثيراً العمليّات الإرهابيّة التي تمّ تنفيذها من قِبل أصوليين متشدّدين على عكس ما كان يحصل في الفترة السابقة لإعلان الدولة ، فهؤلاء المتشدّدون هبّوا لنصرة اخوانهم في الشرق وأتوا بأعداد كبيرة للجهاد تحت راية دولة الخلافة، وبالاستناد لدراسة أجراها المعهد البريطاني "أي اتش جنيز" ونشرتها صحيفة ديلي تلغراف فأنّ المسلّحين الأجانب يشكّلون نصف عدد الذين يقاتلون النظام في سوريا ومنهم نسبة كبيرة من الأوروبيّين، ومن جهة أخرى أكّد المنسّق الأوروبي لمكافحة الإرهاب لوكالة فرانس برس إنّ العدد الكبير من المسلّحين الأوروبيين الذين توجّهوا إلى سوريا والعراق للقتال ناتج عن تقدّم تنظيم الدولة على الأرض وإنّ نسبة لا تتجاوز الـ 20% منهم يعودون إلى بلدانهم.
لقد إنعَقَد الكثير من المؤتمرات في مدن أوروبيّة مختلفة بمشاركة ممثّلين عن الولايات المتّحدة وتركيا، وقد كان التركيز في الظاهر على الطلب من الدول التشدّد بمنع سفر هؤلاء المسلّحين إلى سوريا والعراق وطُلِب من تركيا أيضاً التشدّد بمنع هؤلاء وإعادتهم إلى بلدانهم، ولكن عمليّاً فإنّ العدد الذي سافر للقتال إزداد بشكل مُلْفِت، وهنا السؤال:
"لماذا الهدف غير المُعلن كان التسهيل لهؤلاء بالذهاب للقتال وإبعادهم عن الأقاليم الأوروبيّة؟؟".
لقد أعرب الرئيس الأميركي أوباما وفي أكثر من مناسبة عن قلقه من الخطر الذي سيشكّله المسلّحون الأوروبيون الذين يُقاتلون في سوريا والعراق على بلدانهم عند عودتهم محذّراً من أنّهم يكسبون القوّة في بعض المناطق، وعلى الصّعيد الأوروبي فقد بيّنت أكثر من دراسة انّ المؤسّسات الحكوميّة وأجهزة الأمن خصوصاً يعلمون جيّداً المستوى المميّز للتدريبات العسكرية التي يخضع لها هؤلاء في سوريا والخبرة الواسعة التي يكتسبونها من قتالهم هناك وبخصوص ذلك قال البروفسور بيتر نيومان مدير المركز الدولي لدراسة التطرّف أنّ الذين يعودون من سوريا مدرّبون تدريباً جيّداً وأصبحوا أكثر خطراً وفعاليّة في العمليّات الأرهابيّة، ومن ناحية أخرى وبحسب صحيفة دايلي تلغراف فإن التعبئة في اوروبا حول الأزمة في سوريا أكثر أهميّة وانتشاراً من أيّ أزمة أخرى ، كما أنّه بموجب إستطلاع أجرته وكالة فرنسيّة تُدعى (ICM) تبيّن أنّ 16% من المواطنين الفرنسيين يدعمون داعش، هذا التنظيم الذي يستعمل وسائل متعدّدة ومتطوّرة في عمليّة تجنيد المقاتلين الأوروبيين وتوجيههم للقتال في سوريا والعراق تحت رايته ومنها وسيلة التجنيد الإلكتروني على مواقع كـ "يوتيوب" وموقع “salafi media UK” وموقع "النّاشرون الجّدد" لناصر البلّوشي الذي يعتبر مصدر الإلهام الأساسي لشبكات الأجانب في سوريا، وهناك مواقع شبه رسميّة مثل موقع "أنصار الحقّ" الفرنسي وغيره كما وتُعتبر السجون الأوروبيّة مكاناً ملائماً لعملية التجنيد بالإضافة لعلماء الدّين والمدارس في أوروبا بشكل عام.
والمُلفت استناداً لمتابعين متخصّصين بدراسة ظاهرة الإرهاب المتشدّد في أوروبا فإنّ عمليّات التجنيد هذه كانت تتمّ بعِلم ومعرفة الأجهزة الأمنيّة التي تغضّ النّظر لا بل تُساعد بطريقة خفيّة على تسهيل الإعلام الموجّه الذي يهدف إلى إثارة الشعور الدّينيّ المتشدّد ونتيجة لذلك كان يقوم المجاهدون الذين تمّ تجنيدهم بحجز تذكرة ذهاب ONE WAY إلى تركيّا وهناك ينتقلون برّاً عبر الحدود التركيّة السوريّة لتبدأ معهم رحلة الجّهاد، ودائماً حسب هؤلاء المتخصّصين، فأنّ القدرة التقنيّة والأمنيّة والعملانيّة لأجهزة الأمن وحرس الحدود والمخابرات الأوروبيّة بشكل عام كافية لإجراء ضبط كامل لهؤلاء المقاتلين ومنعهم من التوجّه إلى سوريا والعراق، ولكن هذا ما لا يحدث عمليّاً وحيث أنّ هناك تدابير حكوميّة إداريّة وقانونيّة قد أُقِرّت واعطت صلاحيّة واسعة لشرطة الحدود في بريطانيا مثلاً في تمديد فترة حجز جواز السفر أو في فرنسا مثلاً حيث يوجد قوانين داخليّة فرنسيّة تهدف إلى منع الشباب من التوجّه إلى مناطق بعيدة للقتال وهي قوانين أقرّت حديثاً، نجد تفاوتاً في جديّة الدول الأوروبيّة في تطبيق هذه التدابير فنجدها فعّالة في كل من المانيا والدانمرك والبوسنة والهرسك والنمسا مثلاً وغير فعّالة في كل من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا بالرغم من أنّ هذه الدول الأخيرة لديها قدرة أمنيّة ومخابراتيّة مميّزة.
هذه الاستراتيجيّة الأوروبيّة التي قامت على الازدواجيّة في التعامل مع موضوع قتال الأوروبيين المسلمين تحت راية داعش بين التشدّد في الإعلام من جهة وبين التراخي والتواطؤ في الإجراءات العمليّة الذّكيّة من جهة أخرى، هدفت إلى أمرين:
الأوّل مساعدة داعش للاستمرار بوجود فاعل ومؤثّر دون سيطرة كاملة وضمن حدود جغرافيّة مقيّدة بهدف إستغلالها بطريقة مباشرة في تحقيق أهداف هي من صميم استراتيجيّة بعيدة المدى مشتركة مع الولايات المتّحدة وترمي إلى:
- إنقاذ الإقتصاد العالمي بتخفيض سعر النفط الذي يؤدّي إلى تخفيض كلفة الإنتاج.
- خلق أسواق كبيرة للأسلحة والتقنيات العسكريّة ترفع النمو في الدول المصنّعة.
- الضغط على روسيا وإيران في ملفّي أوكرانيا والنووي الإيراني.
- جعل اسرائيل محميّة، فَمَن قد يكون له قدرة التأثير عليها ضعيف ومشرذم.
والأمر أو الهدف الثاني تمثّل بتعويم الخلايا الأصوليّة النّائمة وإخراجها إلى العلن ونزعها من المجتمعات الأوروبيّة والتّخلّص منها بتسهيل عبورها للقتال في سوريا والعراق بدون عودة، وهنا السؤال الذي يفرض نفسه، إذ هل تكون العمليّة الإرهابيّة على مجلّة Charlie Hebdo نقطة التحوّل المفصليّة والرابط الأساسي في إيجاد الأرضيّة السياسيّة والقانونيّة والإداريّة لتغطية اجراءات منع عودة هؤلاء المقاتلين؟؟؟
لقد علت الأصوات المستنكرة لهذه العمليّة من كافّة أنحاء العالم وفي المقدّمة من الولايات المتّحدة الأميركيّة .... قال أوباما في رسالة مؤثّرة من السفارة الفرنسيّة في واشنطن "لتحيا فرنسا" وقارن بعض النّواب الأميركيين العمليّة بـ "11 أيلول" وقال السناتور الأميركي ديك دورين بلغة فرنسيّة: "كلّنا باريسيّون وفرنسيّون"، وجاءت تظاهرة 11 كانون الثاني المليونيّة في باريس للتضامن مع فرنسا خاصّةً ومع أوروبا بشكل عام وللتنديد بالإرهاب وذلك بحضور ممثّلين لأكثر من 50 دولة لتعطي دعماً وتغطية شبه أُمميّة لما يمكن أن يُتّخذ من اجراءات للرّد على هذا الإرهاب.
من جهة أخرى حرّكت هذه العمليّة الرأي العام الدولي من خلال حملة إعلاميّة وديبلوماسيّة مركزة، فالخبير الإستراتيجي الفرنسي في شؤون الشرق الأوسط جان ميشيل فيرونشيه توقّع عمليّات إرهابيّة كثيفة في أوروبا، ورئيس جهاز المخابرات الإنكليزيّة "أم اي 5" أندرو باركس" أشار إلى مخاوف جدّية من الإرهابيين في سوريا والعراق وقال أنّهم يخطّطون لشن هجمات توقع خسائر بشريّة كبيرة في الغرب، وأعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أنّ القمّة الأوروبيّة المرتقبة في بروكسل سوف يتمّ تقديم موعدها وستخصّص تقريباً بالكامل لمكافحة الإرهاب حيث من أهم المواضيع سيكون موضوع إنشاء مذكّرة توقيف أوروبيّة وسيتمّ اقتراح تنظيم سجل أسماء الرّكاب الذي يمكن أن يساعد في رصد تحرّكات أشخاص خطيرين وتنظيم سجل أوروبي بمعلومات عن ركّاب الطائرات، كما أعلن رئيس المفوّضيّة الأوروبيّة جان كلود يانكر عن عزمه اقتراح برنامجاً جديداً لمكافحة الإرهاب وقد حُدّد موعد قريب لإجتماع وزراء خارجيّة الإتّحاد الأوروبي وآخر لوزراء الداخليّة بحضور وزير العدل الأميركي.
وأخيراً يثار التساؤل الآن... هل فقدت فرنسا أمنها الذي طالما اشتهرت به وكانت دائماً تفتخر به، أمْ أنّ أجهزة الأمن ورجال السياسة والقانون الفرنسيين لم يستدركوا أو تجاهلوا القدرة التنفيذيّة للمجموعات الإرهابيّة التي أعلنت مراراً رفضها لتعرّض المجلّة الساخرة Charlie Hebdo لرموز الإسلام، هذه المجموعات التي حاولت أكثر من مرّة مهاجمة المجلّة المذكورة، وهل السلطة الفرنسيّة لم تستطع تقدير خطورة الحرب التي تشنّها على الدّولة الإسلاميّة في سوريا والعراق في ظلّ هذا التأييد الواسع من مواطنين فرنسيين لداعش؟؟؟
----------------------
الكاتب : العميد المتقاعد شارل ابي نادر