المقدِّمة
إن ظاهرة الجاسوسية قديمةٌ في التاريخ وهي من أعمال الدولة والأجهزة الأمنيَّة التابعة لها، والتي تهدف إلى الحصول على المعلومات التي تحتاجها لتأمين مصالحها، وبناء سياساتها وتقوية نفوذها بين باقي الدول. لا يقتصر عمل الجاسوسية على السياسة والدبلوماسية والمجال العسكري أو الأمني، بل يتعداه ليطاول جميع المجالات ومنها العلوم، الإقتصاد، الصناعة والتكنولوجيا، من هنا نستطيع القول أن الجاسوسية تكتسب الأهميَّة في زمن السلم كما في زمن الحرب مع تبدُّل أولوياتها، كما أن نطاقها يطاول الدول الصديقة أو الحليفة مثلما يطال الدول العدوة.
إذا كانت المعرفة تشكِّل ضرورة للإنسان كي يواكب عصره كعنصرٍ واعٍ ومؤثِّر في دائرة وجوده، فإن معرفة دائرة المخابرات تشَكّل ضرورة قصوى لإنسان العصر، ذلك أن الجاسوسيَّة تبلغ حدًا من الأهميَّة يجعلها تقرِّر مصير الشعوب والدول، عرف الإنسان منذ القِدم أهميَّة أنشطة المخابرات والجاسوسيَّة وخصوصًا جمع المعلومات وتحليلها، والتي بنتيجتها نهضت شعوب وأمم، وتقوَّضت دعائم أخرى إنطلاقًا من مدى إتقانها لفنون الحصول على المعلومات، وحسن استخدامها، وبخاصة تلك التي تحتاجها في استمراريتها وتعزيز وجودها.
يعتبر جهاز الموساد أحد أكثر أجهزة المخابرات السريَّة غموضًا في العالم، وتحوطه السلطات الإسرائيليَّة بكتمانٍ شديدٍ، لدرجة أن إسم رئيس هذا الجهاز لا يُعلن إلا بعد أن يصبح الرئيس السابق للموساد، فهذا الجهاز يشكّل الخط الدفاعي الأول الذي تعوِّل عليه إسرائيل في القيام بعمليات التجسُّس والتصفية الجسديَّة ومكافحة عمليات المقاومة. ينصبُّ الهدف الرئيس للموساد على الدول العربيَّة والمنظمات التابعة لها والمنتشرة في أنحاء العالم، كما يتركَّز نشاط عملائها أيضًا في الدول الغربيَّة والأمم المتحدة.
كان واضحًا أن العدو الإسرائيلي لن يسكت عن هزيمته في حرب تموز/يوليو 2006، وقبلها اندحاره عن الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانيَّة المحتلَّة في أيار/مايو 2000، لذلك جاء تركيزه على تجنيد العملاء ومحاولة اختراق الساحة اللبنانيَّة وزرع الفتنة بين اللبنانيين، بهدف تحويل هزيمته إلى إنتصار. وممَّا لا شك فيه أن المناخ السياسي غير المستقرّ الذي عرفه لبنان في تلك الحقبة، شكّل بيئة مؤاتية أمام العدو للنفاذ إلى الداخل. إلاّ أنّ حال انعدام الاستقرار يصبح عديم الجدوى ما لم يتوافر له بعض ضعاف النفوس الذين يتم تجنيدهم تحت تأثير الإغراءات الماديَّة أو الجنسيَّة، مما يؤدّي إلى إقامة علاقات مشبوهة، يهدِّدهم العدو بعدها بفضح أمرهم في حال عدم تعاونهم.
إن معرفة الأساليب التي تتَّبعها الأجهزة الإستخباراتيَّة الإسرائيليَّة في تجنيدها للعملاء، هي من الأمور المهمَّة التي يجب معرفتها من قبل أفراد القوى الأمنيَّة بهدف توعيتهم حول هذه الأساليب وبالتالي ضمان عدم وقوعهم في براثنه، لأن جريمة التجسُّس هي من أعظم الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان بحق أُمَتِهِ ووطنِهِ ودينِهِ. وقد أثبت جهاز المخابرات في الجيش اللبناني خلال السنوات السابقة قدرته على كشف شبكات التجسُّس وتوقيفها، لكن يبقى للمواطن دورٌ مهم في مساعدة الأجهزة الأمنية للقيام بمهماتها في مكافحة الجاسوسية.
هذا وتكتسب الدراسة المتعلِّقة بتجنيد العملاء من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي واستغلالهم والتخلِّي عن بعضهم أهميَّة خاصة في ظلِّ ما كشف النقاب عنه من اكتشاف لشبكات التجسُّس الإسرائيليَّة في لبنان خلال السنوات الأخيرة من خلال رفع مستوى الحسِّ الأمني لدى القوى العسكريَّة والأمنيَّة، وذلك بمعرفة الأساليب التي يتَّبعها جهاز الموساد الإسرائيلي في تجنيد العملاء، بالإضافة إلى إظهار خطورة جريمة التجسُّس على أمن لبنان والقوى العسكريَّة والأمنية، وتسليط الضوء على الجوانب المظلمة للجاسوسيَّة وتوضيح عواقبها على الجاسوس نفسه.
تتناول الدراسة موضوع عملاء الموساد الإسرائيلي والتخلِّي المدروس عن بعضهم، علمًا بأن كل ما يقوم به الموساد هو في مجمله أعمال سريَّة، وذلك ينطبق على أيِّ جهاز مخابرات في العالم، أي أن القضيَّة المطروحة غير مرئيَّة وكل ما يمكن التوصُّل إليه يتمّ إما عن طريق المصادر المتوافرة والتي تشكِّل في أغلبها ما يسمح الجهاز بنشره، أو عن طريق كتابات خصوم الموساد، والتي قد يكون بعضها دعائيًا أو على الأقَّل تختلط فيه الحقيقة بالخيال. هذا الواقع لا ينفي أن هناك بعض الحوادث المؤكَّدة والمسلَّم بها، بدليل توقيف عدد كبير من العملاء وإحالتهم القضاء وصدور أحكام بحقِّهم.
أجهزة الإستخبارات الإسرائيليَّة
إعتُبر التجسُّس في الماضي عملاً مشينًا، ملاصقًا للخيانة، وكان من خلال النظرة الإجتماعيَّة نشاطًا غامضًا ومنبوذًا، كما كانت الدول تُنكر إستخدامها له وتتَّهم به أعداءها. أمّا في أيامنا هذه، فقد تبدَّلت نظرة الناس تجاه التجسُّس، فالدول لا تُعلن عن عمليات التجسُّس حتى لا يُضر هذا الإعلان بمصالحها، لكنها تمنح جواسيسها أوسمة وتلقبِّهم بالأبطال مثل تكريم إسرائيل لشولا كوهين(1)،
أو تسمح لهم بنشر مذكّراتهم، وتفاخر بانتصاراتهم، وتتستَّر على فشلهم، كالسماح للجاسوس فيكتور أوستروفسكي بنشر مذكراته(2).
يُشدِّد العديد من كبار قادة الإستخبارات في إسرائيل على أن المعلومة الإستخباراتيَّة تمثِّل في الحقيقة جزءًا أساسيًا من النظريَّة الأمنيَّة الإسرائيلية. ويقول رئيس شعبة الإستخبارات الإسرائيلي الأسبق شلومو غازيت «أن توافّر المعلومات الإستخباراتيَّة الدقيقة منح الجيش الإسرائيلي القدرة على توجيه ضربات قاسية وخاطفة للجيوش العربيَّة والمقاومة الفلسطينيَّة، وهذا ما أدَّى إلى تقليص فترات الحروب مع الدول العربيَّة، الأمر الذي سمح بعودة الحياة الطبيعيَّة إلى مسارها في إسرائيل بسرعة كبيرة». من ناحيته يقول الخبير الأمني الإسرائيلي أمير أورن أن قدرة إسرائيل على الحصول على إستخبارات ممتازة مكَّنتها من الاحتفاظ بجيش نظامي صغير، بحيث أنه لا يتُم استدعاء قوات الإحتياط إلا في حال شُنَّت حرب هجوميَّة على الدولة.
تنطلق أجهزة الإستخبارات الإسرائيليَّة من افتراض وجوب زرع عملاء لها في كل المؤسَّسات في العالم العربي، من أجل الحصول على المعلومات التي يمكن على أساسها إتِّخاذ القرارات السياسيَّة والعسكريَّة المناسبة. وتتَّخذ الإستخبارات الإسرائيليَّة النظريَّة القائلة بأن لدى كل إنسان نقاط ضعف، من هنا أهمية إنطلاق التفتيش عن ضعاف النفوس وتجنيدهم. وتخضع عمليَّة الإيقاع بهؤلاء والسيطرة عليهم لخطوات معقَّدة. من هذا المنطلق، أجاد رجال الموساد إستخدام هذه النظريَّة وأخذوا يجرِّبون كل السُبل لتجنيد عملاء لهم في كل مكان، فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم، ومن كان يسعى وراء نزواته أرسلوا إليه النساء لإغرائه، ومن ضاقت به الحياة في بلده أمَّنوا له عملاً وهميًا يقوده في النهاية إلى مصيدة الجاسوسيَّة، من دون أن يدري.
نشأة أجهزة الإستخبارات الإسرائيليَّة ومهماتها
حرِصت الحركة الصهيونيَّة منذ قيامها على تنفيذ العمليات السريَّة لتحقيق أهدافها في احتلال الأراضي الفلسطينيَّة، فكانت البداية عندما أُنشأت منظَّمة سريَّة في العام 1904 أُطلق عليها إسم "بيلو"، وكان هدفها التأثير على السلطات العثمانيَّة للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، لكن السلطان عبد الحميد الثاني وقف موقفًا صلبًا إزاء الهجرة اليهوديَّة ممّا دفع بهذه المنظمة إلى المساهمة بإسقاطه وإيصال زعماء حزب «تركيا الفتاة» إلى الحكم، والذين فتحوا باب هجرة اليهود إلى فلسطين على مصراعيه.
تتميَّز نشأة الإستخبارات الإسرائيليَّة بأنها سبقت نشوء الكيان الإسرائيلي، وهي ترجع إلى انعقاد أول مؤتمر للحركة الصهيونيَّة في بازل في العام 1897 حيث وضع الأُسُس والمخطَّطات والسياسات التي ينبغي عليها اتِّباعها للوصول إلى أهدافها. في العام 1914، تمَّ إنشاء منظمة سريَّة إسمها يلي(3) إتَّخذت منطقة عتليت(4) مقرًا لها، وكانت مهمتها الأساسيَّة مساعدة بريطانيا في الإستيلاء على ممتلكات الدولة العثمانيَّة في أثناء الحرب العالميَّة الأولى، وجمع المعلومات عن القوات التركيَّة والألمانيَّة، وقد نجحت هذه الجماعة في نقل المعلومات التي تمثَّلت في سرقة أسرار غـاز "الخردل" وبعض الأسلحة الألمانيَّة الحديثة ونقلها إلى بريطانيا.
مع إنشاء كيان إسرائيل الجديد الذي أُطلق عليه إسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، تمَّ تأسيس مجموعة الإستخبارات الإسرائيلية أو مؤسَّسة الإستخبارات الإسرائيلية، وقد تألفت من الأجهزة الآتية:
- وكالة شين بيت "Shin Bet".
- الإستخبارات العسكريَّة أمان "Aman".
- إدارة الإستخبارات الخارجيَّة.
- مجمَّع الهجرة.
يعتبر جهـاز الإستخبارات العسكريَّة "أمان"، الجهاز المُسيطر على الأنشطة الإستخباراتية العسكرية الإسرائيلية الداخلية والخارجية، سُمِّي عند تأسيسه "إدارة إستخبارات الجيش"، ثم عُرف لاحقًا بإسم "أمان" أي الأمن، وقد كُلِّف بمهماتٍ عديدةٍ منها جمع المعلومات عن الجيوش العربيَّة، الرقابة على الصحف الإسرائيليَّة، ضمان الأمن داخل الجيش الإسرائيلي ومكافحة الجاسوسيَّة، تزويد وزارة الدفاع المعلومات حول القوات العسكريَّة العربيَّة وقياداتها، والوحدات القتاليَّة ودراسة إمكاناتها وأهدافها.
في العام 1951، عمدت الحكومة الإسرائيليَّة إلى إعادة تنظيم البُنية الأساسيَّة لأجهزة الإستخبارات والأمن الإسرائيليَّة تنظيمًا شاملاً، فتكوَّنت لجنة مديري الأجهزة "أفعادات"، التي عَمِلت على تنظيم الأجهزة وخدماتها وفق المهمات والمسؤوليات من خلال دمج مخابرات البحريَّة، مخابرات الطيران وجهاز الأمن في جهاز الإستخبارات العسكريَّة، أما جهاز الإستخبارات السياسيَّة فقد جُعل مستقلاً عن وزارة الخارجيَّة وأُعيد تنظيمه كجهاز للمخابرات السريَّة والذي عُرف لاحقًا بجهاز الموساد. أمَّا جهاز مكافحة الجاسوسيَّة والأمن الداخلي "الشين بيت" ويعرف أيضًا بإسم "الشاباك"، فهو إختصار للإسم الكامل بالعبريَّة الذي يعني "إدارة الأمن العام"، وكانت مهمته تعقُّب أعداء الدولة العبريَّة داخل إسرائيل، فهذا الجهاز مسؤول عن جمع المعلومات حول أجهزة الإستخبارات الأجنبيَّة الصديقة والمعادية ونشاطهـا.
جهـاز الإستخبارات السريَّة (الموسـاد)
يُطلق إسم "الموساد" على جهاز الإستخبارات الخارجيَّة الإسرائيلي، والإسم الكامل للموساد هو "مؤسسة الإستخبارات والمهمات الخاصة". حرصت الدولة العبريَّة منذ تأسيس هذا الجهاز على إضفاء هالة من الغموض وستار من السريَّة والتكتُّم الشديدين على تنظيمه وأعماله وأنشطته التجسُّسيَّة وعملياته الخاصة. تأسَّس الموساد فى العام 1951 بقرار صدر عن أول رئيس وزراء للدولة العبريَّة دايفيد بن غوريون، ليشكِّل ذراع الإستخبارات الخارجيَّة الرئيسة ضمن أجهزة الإستخبارات السريَّة المتعدِّدة التي عملت في حينها على خدمة الحركة الصهيونيَّة ودولتها، التي لم يكن قد مضى على إعلان قيامها فى الجزء الأكبر من حدود فلسطين التاريخيَّة سوى ثلاث سنوات.
تشكَّل هذا الجهاز على أنقاض الدائرة السياسيَّة التي عملت فى نطاق وزارة الخارجيَّة الإسرائيليَّة، وكانت مهمتها الرئيسة جمع المعلومات خارج إسرائيل، وقد عمل الموساد فى البداية تحت تسميات مختلفة، منها "المركز الرئيسي للتنسيق"، ثم "المؤسَّسة الرئيسة للاستخبارات والأمن" وانتهى أخيرًا بظهوره بإسمه الرسمي الحالي "مؤسسة الإستخبارات والمهمات الخاصة"، وتلخَّصت مهـامه في:
جمع المعلومات من خارج إسرائيل وذلك عبر زرع العملاء والجواسيس في مُختلف دول العالم، وخصوصًا الدول ذات الأهميَّة الإستراتيجيَّة، والدول العربيَّة المؤثّرة على أمنها وقدراتها العسكريَّة.
السعي لتجنيد اليهود الذين يتبوؤن مراكز مهمة في الدول الأجنبيَّة بهدف الحصول على المعلومات، خصوصًا الأسرار التكنولوجيَّة المتطوِّرة من جميع دول العالم ومتابعة حصول الدول العربيَّة والإسلاميَّة عليها.
التنسيق مع أجهزة الإستخبارات في الدول الصديقة في مجال الإهتمامات المشتركة التي تحقِّق مصالح الجانبين وبخاصةٍ المصالح الإسرائيلية.
رصد النشاطات الإقتصاديَّة والتطوُّر التكنولوجي في منطقة الشرق الأوسط لمنع دولها، وخصوصًا الدول العربيَّة من امتلاك أي تكنولوجيا متقدّمة تؤثّر على ميزان القوى مستقبلاً، والعمل على بثِّ التفرقة بين الدول العربيَّة والإسلاميَّة لعدم حشد قواها ضد إسرائيل.
متابعة الأنشطة والعمليات الموجَهة ضد الأهداف الإسرائيليَّة في الخارج ورصدها.
يُعتبر جهاز الموساد من أجهزة الإستخبارات القليلة في العالم التي تعتمد في انتشارها على دعم مجموعات المتطوّعين، حيث يُمثِّل اليهود المنتشرون في أنحاء العالم عنصرًا مهمًا في تنفيذ الخطط والبرامج والإختراق الأمني. يُعرف عن جهاز الموساد إهتمامه بالدعاية الإعلاميَّة لأعماله في محاولة لإبرازه على المستويين الداخلي والخارجي، ولإيهام الإسرائليين بأنهم يملكون جهازًا قويًا من خلال إلقاء الضوء على إنجازاته.
يتميَّز جهازا الموساد والشاباك في المجال البشري، أي تجنيد العملاء وإجراء التحقيقات مع الجواسيس، والعمليات الوقائيَّة والتنفيذيَّة الخاصة بهما، وفي حين أن الموساد يتَّسم بديناميكيَّة خاصة في ما يتعلق بالعمليات السريَّة خارج البلاد، فإن الشاباك يتميَّز بهذه الديناميكيَّة في العمليات داخل الأراضي التي تُسيطر عليها إسرائيل. أمَّا جهاز "أمان" فيُعدّ أكبر جهاز إستخباراتي إسرائيلي من بين جميع الأجهزة الأخرى في ما يتعلَّق بالهيكل التنظيمي والإداري لأجهزة الإستخبارات الإسرائيليَّة، كما أنه الأبرز بين بقيَّة الأجهزة في مجالات التنصُّت، التصوير الجوي، والمهمات الخاصة.
إن الخلفيَّة التاريخيَّة التي توضح الظروف والملابسات والقواعد التي تمَّ من خلالها تأسيس جهاز الموساد تختلف كثيرًا عن أُسُس مقارنته بأجهزة الإستخبارات في الدول الأخرى، بسبب اختلاف طبيعة نشأته وتكوين دولته، ولم ينجح هذا الجهاز في الحدّ من تأثير العوامل النفسيَّة التي تجعل معنويات الإسرائيليين في حال اهتزاز دائم وعدم توازن وقلق أمني وشعور بالتهديد، والتي تفرض ابتعادهم عن مسار الحياة الطبيعيَّة المطمئنة كالشعوب الأخرى المستقرَّة في أوطانها. تحتَلّ أجهزة الإستخبارات والأمن الإسرائيليَّة أهميَّة بالغة في البنية الإسرائيليَّة، وقد أدَّت أدوارًا رئيسة وخطيرة في مجال تعزيز وجود الكيان الإسرائيلي وحمايته وتوسُّعه، لهذا تعتبر هذه الأجهزة من أهمّ أدوات الإستراتيجية الإسرائيلية ونظريتها الأمنيَّة والذراع الطويلة في مواجهة تحديات الأمن القومي الإسرائيلي بمختلف أشكالها. تعتمد القيادة الإسرائيلية على هذه الأجهزة وما تقدِّمه من معلومات وتقديرات إستخباريَّة على الأصعدة الإستراتيجية والعملياتية والتكتية في عمليَّة صنع القرارات وفي توجيه سياساتها الداخلية والخارجية على حدٍ سواء.
تقوم نظرية الإستخبارات الإسرائيلية على أساس تعدُديَّة الأجهزة الأمنيَّة والإستخباراتيَّة والبحثيَّة بهدف خلق حال من التنافس في ما بينها من أجل خدمة الأمن القومي الإسرائيلي وللتقليل من احتمالات الخطأ والمباغتة العربيَّة، بالإضافة إلى بناء أجهزة متعدِّدة تقوم على أساس التخصُّص في المهمات والعمل حسب الموقع الجغرافي، كما أن الخبرة الإستخباراتيَّة التي يتلقاها المسؤولون الإسرائيليون من الغرب بشكل خاص تنعكس هي الأخرى على وضع نظريَّة الإستخبارات موضع التطبيق في مجالات التنظيم والتخصُّص، ولهذا نجدها في الغالب من حيث المهمات والمسؤوليات والتنظيم تتشابه مع مثيلاتها من الأجهزة الأخرى في الدول الغربيَّة.
تنبع فلسفة الإستخبارات الإسرائيليَّة من طبيعة المجتمع الإسرائيلي حيث أن السمة الغالبة لهذا المجتمع هي التنافر وعدم الانسجام نتيجة لتعدُّد الجنسيات واختلاف البيئات التي قدِم منها اليهود للإستيطان في فلسطين، فقد نقلت جماعات المهاجرين عاداتها وتقاليدها وطرق معيشتها المتباينة إلى إسرائيل، ويتَّضح ذلك التنافر في التفرقة العنصريَّة السائدة داخل الكيان الإسرائيلي بين طوائف الإشكنازيم والسفاراديم واليهود السود (الفلاشا) وغيرهم، وتتأكَّد هذه الخلافات أيضًا داخل المجتمع الإسرائيلي حيث ينقسم إلى جناحين رئيسين، الأول ديني والثاني علماني، الأمر الذي ترك بصمات إجتماعيَّة سلبيَّة على مُجمل الحياة داخل إسرائيل، وفي ضوء هذا الواقع تعمل القيادة الإسرائيليَّة على صهر المجتمع الإسرائيلي في بوتقة واحدة في محاولة منها لخلق مجتمع متجانس له طابعه وسماته المشتركة.
يتبع ..................