الحرب اللامتماثلة
استخلصت القيادة السورية دروس تلك الحرب الصعبة والمكلفة في آن واحد، وبدأت البحث عن سبل التوازن مع الإسرائيلي، خارج منظومة الحرب الكلاسيكية: الطائرة والدبابة. وبعد انقضاء وقت طويل على حدوثها، كتب الخبير الإسرائيلي عوفر شيلح: "لا يجهل الضباط الإسرائيليون أنّ الرئيس السوري السابق حافظ الأسد أدرك، منذ العام 1982، أنّ العرب ليسوا بحاجة إلى سلاح جوّ موازٍ للسلاح الذي تملكه إسرائيل شرطًا لموازنة قوّتها، وفي استطاعتهم تحقيق التوازن بواسطة صواريخ ثقيلة وكثيرة، تُطلق على الجبهة المدنية في إسرائيل، وتلحق الضرر بها، وتردعها عن شنّ الحرب" .
ومنذ العام 1983، لوحظ جنوح القيادة السورية المبكّر نحو الصواريخ ذات المسار المنحني، في إطار سعيها لبناء ذراع طويلة قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي، تعويضًا عن ضعف قدرات سلاح الجوّ لديها. وقد حصلت، حينها، على صواريخ أرض–أرض، من طراز "س-س21" الروسية الصنع، مداها 120 كلم، قادرة على ضرب مدن شمال إسرائيل ووسطها.
كما عمدت إلى ملء ترسانتها التسليحية بأنواع أخرى من الصواريخ، لا سيما المضادّة للدبابات.
وأدّى خروج مصر من دائرة الصراع مع العدو كلّيًا، والتزامها خيار التحالف مع الولايات المتحدة، وتخلّي معظم الدول العربية عن التزاماتها القومية، إلى تعزيز المنحى الجديد لدى القيادة السورية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقدت هذه القيادة، أيّ أمل بتحقيق توازن إستراتيجي كلاسيكي مع العدو. وبدأت تتبلور لديها، تدريجًا وببطء، معالم إستراتيجية الحرب اللامتماثلة، التي تجري الحروب، على أساسها، بين قوّتين غير متساويتين في القدرات، يسعى الطرف الضعيف فيها لإظهار قصارى قدرته على الصمود، بينما الطرف القوي يعمل على الاستفادة القصوى من كثافة النيران، وتفوقه التكنولوجي، لتحقيق الغلبة سريعًا.
لقد غدت إستراتيجية الحرب اللامتماثلة، مرتكز المذهب العسكري السوري. وللدّلالة على افتراق دمشق عن إستراتيجية الحرب الكلاسيكية، والابتعاد عن اقتناء أدواتها، بصورة شبه كلّية، يشير التقرير السنوي الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي العام 2009، إلى أنّه: "بينما لا تزال إسرائيل تواصل شراء طائرات مقاتلة حديثة، وطائرات مراقبة، وطائرات إنذار مبكّر، وتسرّع من وتيرة تزويد الجيش الأنظمة المضادّة للصواريخ، وناقلات مدرّعة ودبابات أكثر حماية. من جانبها، تقوم سوريا بزيادة مخزونها من المدفعية الصاروخية والأسلحة المضادّة للدبابات" . هذه الأسلحة تتناسب، تمامًا، مع إستراتيجية الحرب اللامتماثلة التي لا تحتاج إلى طائرات مقاتلة، ولا إلى مدرّعات ثقيلة، نظرًا إلى تفوّق العدو البيّن في هذين المجالين. ولكي لا تنفق دمشق المال والجهد في غير مكانهما، تعمل على خط تسلّح مغاير، توفّر من خلاله الأسلحة المضادّة والكابحة لعناصر القوّة الإسرائيلية. وأتت "حرب لبنان الثانية" بالنسبة إليها، بمنزلة رؤية نجمة القطب في مسير ليلي، لتؤكد صوابية الطريق الذي سبق وسلكته.
النار عن بعد: دور القوات الجوية وأسلحة االدقة العالية في حسم المعركة
هذه المتغيّرات الكبرى، جعلت الجيش الإسرائيلي يُعيد النظر بخططه العملانية ومفاهيمه القتالية وتكتيكاته، من دون المسّ بجوهر إستراتيجيته. لأنّ الإستراتيجيات، عادة، لها طابع الثبات النسبي، فلا تخضع لتبدّلات جوهرية إلا في حال حصول أمرين أساسيين: تطوّر نوعي في علم الحرب، مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، أو تحقيق قفزات تكنولوجية تدفع بالصناعة العسكرية قُدمًا على غرار إنجازات العقدين الأخيرين من القرن الماضي. حينها، برزت الطائرة الشبح، والطائرة المسيّرة من دون طيار، والصواريخ العالية الدقّة وغيرها من أدوات الحرب فوق الحديثة، فضلًا عن الثورة الهائلة في عالم الاتصالات والأقمار الصناعية.
هذا الانفتاح التكنولوجي شرّع الأبواب على مداها لتعديل الكثير من أساليب التفكير وآليات الصراع التي مسّت ثوابت الاستراتيجيات السائدة ما مهّد لنظرية "النار عن بعد" التي صاغها الجنرال في سلاح الجوّ الأميركي، "جوهان ثيرون"، وهي خلاصة تجربتَيْ حرب يوغوسلافيا والعراق. فالحربُ الأميركية على هاتين الدولتين قدّمت نموذجًا قتاليًا جديدًا، فتح المجال لتغييرات عميقة في مفهوم الحرب الحديثة. (استخدم حلف الناتو، لاحقًا، هذا النموذج في الحرب على ليبيا). ولأنّ الجيش الإسرائيلي يستخلص الدروس من تجاربه، وتجارب الآخرين أيضًا، عملًا بقول بسمارك: "الحمقى وحدهم لا يتعلّمون إلا من تجاربهم الخاصّة" ، فقد تلقّف هذه النظرية التي تتناسب، تمامًا، مع قدراته النارية الدقيقة غير المحدودة، وتراعي حساسيته تجاه الخسائر البشرية في آن واحد.
لقد لبّت نظرية "النار عن بعد" توق الجيش الإسرائيلي إلى حرب نظيفة، بلا دماء أو دموع، أقلّه في الجانب المهاجم، ونفّذ تطبيقاتها الأولى خلال عمليتَيْ "تصفية الحساب" (العام 1993) و"عناقيد الغضب" (العام 1996) ضدّ المقاومة في الجنوب اللبناني. وبناءً على خلاصتهما، والتطوّر النوعيّ في عمليات المقاومة، آنذاك، بدأ هذا الجيش بإجراءات متدرّجة تأخذ بالاعتبار تغيّر ظروف مسرح العمليات، وتبدّل طبيعة الخصم. ويقول مدير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، "غابرييل سيبوني": "وجدت الدولة العبرية نفسها في مواجهة تهديدات تختلف في جوهرها عن التهديدات التي واجهتها خلال السنوات الخمسين الأولى من قيامها. وبدأ التهديد بالتغيّر في أعقاب إدراك أعدائنا العميق، لانعدام قدرتهم على تحقيق إنجازات مؤثّرة بالوسائل العسكرية الكلاسيكية" .
في هذا السياق، شكّل رئيس الأركان، يومها، الجنرال شاوول موفاز لجنة بحث برئاسة الجنرال غابي أشكينازي، قائد الجبهة الشمالية، مهمتها إعداد تصوّر للتّعامل مع هذه الجبهة. وبعد أقلّ من عام، انسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان (أيار/ مايو 2000) بفعل ضربات المقاومة وصمود اللبنانيين، فكانت المرّة الأولى، التي يُخلي فيها العدو، أرضًا عربية بلا شروط أو مفاوضات. حينها، تشكّلت معادلة جديدة غيّرت في مجرى الصراع العربي – الإسرائيلي، مفادها أنّ احتلال الأرض في ظلّ المقاومة، عبءٌ على محتلّيها، انسجامًا مع حكم التاريخ، باستحالة بقاء الاحتلال متى وُجدت المقاومة. ولأنّ الانسحاب ليس بالحدث العابر، فقد حفر عميقًا في خلفية العقل الإسرائيلي، القائم على فكرتَيْ التوسّع والغلبة. وتبدّى الأمر جليًّا، في تصرّفات العدو المرتبكة والمتردّدة، حيال عمل برّي واسع، في أثناء حرب صيف 2006، خوفًا من التورط في المستنقع اللبناني مجدّدًا.
وبعد أشهر على الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، انطلقت الانتفاضة الثانية (أيلول/ سبتمبر 2000) داخل الأراضي الفلسطينية، مترافقةً مع العمليات الاستشهادية، التي هزّت الأسس الأمنية للعدو، فاتّخذ رزمة تدابير مضادّة وعنيفة، من ضمنها سياسة بناء الجدران العازلة التي قطّعت أوصال المدن والبلدات العربية. وعلى الرغم من عنصريتها وأذيتّها للمواطنين الفلسطينيين، إلا أنّها عبّرت عن ميل دفاعي لدى الدولة العبرية مخالف لطبيعتها الهجومية.
وبالعودة إلى لجنة أشكينازي، فقد وضعت مفهومًا جديدًا، عُرف بنظرية "تفعيل القوة" للتّعامل مع المواجهات المنخفضة التوتّر، أيّ مقاتلة المنظّمات المسلّحة في حروب محدودة. ارتكز هذا المفهوم على المزج المتزامن بين النيران الدقيقة والجهد البرّي الذي تبدّل مضمونه، بحيث لم يعد يعني زجّ تشكيلات كبيرة في مواجهات مفتوحة وواسعة، والاستعاضة عنها باستخدام وحدات برّية صغيرة ضدّ الأهداف التي يصعب تدميرها من الجوّ.
شقَّ المفهوم الجديد طريقه إلى التطبيق العملي، حين تبوّأ الجنرال موشيه يعلون رئاسة الأركان، فبادر إلى تعيين فريق عمل طاقم التفكير الآخر الذي أصدر كتيّبًا بعنوان "الجزيء الديناميكي"، تناول فيه فكرة القتال المبعثر قبالة قوى شبه عسكرية. هذا النوع من القتال، لا يحتاج إلى فرق مدرّعة للقضاء على الخصم، إذ يكفي استخدام وسائط مثل المسح الاستخباري للميدان، والنيران الجوّية، والصواريخ العالية الدقّة، إلى جانب قوات برّية صغيرة متحرّكة – جزيئات ديناميكية – مهمّتها السيطرة على أرض المعركة، بعد التأكّد من إنهاك العدو وانهيار قواه. أقرّت الأركان الإسرائيلية هذا المفهوم، صيف 2003، تحت مُسمّى "كيلع"، وتمّ تسويقه من قبل شعبة العمليات إلى خطّة "كاسحة الجليد" وفحواها تحقيق الانتصار على الخصم بواسطة النيران الكثيفة المقترنة بنشاط برّي محدود.
لقد بدأ التمهيد العملي لهذا المفهوم بعد معركة "تحرير الكويت" مباشرة، حينها، تحدّث رئيس الأركان ايهودا باراك: "عن جيش تكنولوجي أكثر، مهني أكثر، جيش محترف ". وفي أواخر التسعينيات، طوّر الفكرة رئيس الأركان الأسبق "دان شومرون" متحدّثًا عن "جيش صغير وذكي"، وعمد الى إلغاء بعض المراتب القيادية وتقليص الوحدات، وتنحيف الهيكل العسكري. وكان عوفر شيلح من أكثر المتحمّسين لهذه الصيغة، فدعا إلى إلغاء الخدمة الإلزامية، وتقليل الاعتماد على القوّات الاحتياطية. كما اعتبر أنّ معالجة النواقص والعيوب في الجيش الإسرائيلي تتطلّب: "تحوّل جيش الشعب إلى جيش مهني، يعتمد على أفراد محترفين، مؤهّلين لخوض حروب الألفية الثالثة" . يبدو أنّ بعض الخبراء الإسرائيليين، تأثّر بالإجراء الفرنسي، آنذاك، القاضي بإلغاء خدمة العلم، والعودة إلى مفهوم الجيش المحترف، بحسب تعبير الجنرال ديغول، من دون لحظ عناصر الاختلاف ما بين موقع فرنسا ودورها كعضوٍ فاعلٍ في حلف النّاتو، وغير محاطة بالأعداء، كما هي حال الكيان الصهيوني.
هذا المسار المتدرّج، والمتناسق مع نظرية "النار عن بعد"، الذي اتخذه الجيش الإسرائيلي، خلال سنوات عديدة، تعدّى، في مضمونه، مجرّد تغيير بعض مفاهيمه القتالية ليطال صلب إستراتيجية الحرب الخاطفة الميكانيكية، التي اختلّت "ثنائيتها" من خلال طغيان دور سلاح الجوّ عليها. وبموجب هذه النظريّة، لم يعد كافيًا أنّ يؤدّي دورًا حاسمًا في الحرب فحسب، بل ألقيت على عاتقه مهمّة تحقيق النصر، على غرار ما فعل في كوسوفو والعراق. هذه المراهنة الكبيرة على سلاح الجوّ أدّت، تلقائيًا، إلى تراجع دور الذراع البرّية، ومعها فكرة المناورة والجيش المناور. وقد شهدت هذه الذراع، على مدى سنوات، تخفيضًا في عدد وحداتها، وعديد أفرادها، واقتطاعات دورية من موازنتها السنوية. كما ساهم إنغماسها بعمليّات إخماد الإنتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة إلى تراجع مستوى أدائها القتالي.
حرب لبنان الثانية
شكّلت "حرب لبنان الثانية" مختبرًا حقيقيًّا لفحص هذه الرؤى والمفاهيم، واستبيان مدى ملاءمتها على أرض الواقع. وسرعان ما كشفت مجرياتها، بأنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي، بكلّ جبروته، عاجزٌ عن إخضاع المقاومة وفرض الاستسلام عليها. ويعود السبب الرئيس إلى طبيعتها "الشبحية" غير الواضحة المعالم والمفاصل، على عكس الطبيعة الجليّة للقوات النظامية، التي حدّدها جوهان ثيرون كضرورة لنجاح نظريته. هذا العجز دفع برئيس الأركان، في أثناء سير الحرب، الجنرال دان حلوتس للقول: "إنّ الطائرة تدمّر، لكنّها لا تحتلّ تلّة أو ترفع علمًا" .
وفي الميدان تبيّن للعدو، أنّه يواجه قوّة مدرّبة منظّمة تمتاز بالعزم والصبر والثبات نجحت في فرض قوانين المواجهة عليه، وفق استراتيجيّتها وتكتيكاتها القتاليّة، حارمة إيّاه المبادرة، والقدرة على الاستفادة من فائض نيرانه، والتحكّم بسير القتال. لقد أبطلت المقاومة جزءًا كبيرًا من نيران العدو حين جرّته إلى قتال الأزقّة في البلدات والقرى الحدوديّة، حيث تنعدم مناورة المدرّعات، وتبطىء حركتها. ولتفادي الخسائر في صفوفها، اُضطرّت القيادة الإسرائيلية إلى زجّ جنود المشاة، في معارك قتال تلاحمي لا يتناسق كثيرًا مع تكتيكاتهم المرتكزة على تفادي الاشتباك المباشر، قدر الإمكان، إفساحًا في المجال للنيران الكثيفة المتنوعة، التي توفّرها أسلحة الدعم الإسرائيلية.
في تلك المعارك، برهنت المقاومة عن براعة عالية في قتال الشوارع، وحُسن استخدام الأسلحة المضادّة للدروع. وقد خاضت المواجهات بمجموعات صغيرة مستقلّة تملك حرّية المبادرة ضمن حدود القطاع المكلّفة بالدفاع عنه فجمعت بين أسلوب القتال الكلاسيكي، من حيث التمسّك بالجغرافيا، على غرار ما فعلت في بنت جبيل وعيتا الشعب وعيناتا، وبين طريقة حرب العصابات القائمة على المفاجأة والتمويه والتخفّي والحركة الدائمة.
ساعد هذا النمط القتالي المركّب في منع العدوّ من حسم الحرب بالسرعة المعهودة، فتحوّلت إلى صراع استنزاف دام 33 يومًا، كان مرشّحًا للإطالة لولا صدور القرار الدولي 1701. وبهذا أُعطب مكوّن من مكوّنات العقيدة الأمنيّة الإسرائيلية الذي ينصّ على حسم الحرب بالسرعة القصوى.
إضافة إلى ما تقدّم، واجه الجيش الإسرائيلي في "حرب لبنان الثانية" معضلتين شائكتين كانتا من أسباب إخفاقه: الأولى، تمثّلت بالصواريخ المضادّة للدّروع من الجيلين الثالث والرابع، بخاصّة صاروخ "كورنيت - أي" الروسي الصنع الذي وصفه "زئيف شيف" بمفاجأة الحرب، والقادر على اختراق تدريع أيّ دبابة في العالم. وقد حوّلت هذه الصواريخ العالية الدقّة الآليّات الإسرائيليّة إلى "طرائد" سهلة الاصطياد، وشلّت حركة سلاح المدرّعات نتيجة خسارته لواءً كاملًا، ما بين تدمير وإعطاب، على الرغم من محدوديّة المواجهات البرّية. بهذا عطّل المقاومون الذين برهنوا عن كفاءة عالية، باستعمال هذه الصواريخ أحد جناحَيْ إستراتيجية الحرب الخاطفة.
وكعلاج لهذه المسألة، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى الحلول التقنية، فتبنّى برنامجًا طموحًا يقضي بتزويد دبابات القتال الرئيسة كلّها منظومات مضادّة للصواريخ، مثل "معطف الريح" و"تروفي أكتف"، وهما من إنتاج شركة "رفائيل" للصناعة العسكرية الإسرائيلية، تفوق كلفة الواحدة منهما 300 ألف دولار، وتشتمل المنظومة الاعتراضية: "على جهاز رادار عالي الحساسية، قادر على كشف الصاروخ المهاجم، واطلاق صاروخ باتجاهه لتدميره".
اتّخذ الإسرائيلي هذا الإجراء لتحصين سلاح المدرّعات في سياق ترميم إستراتيجية الحرب الخاطفة. وكتب عوفر شيلح معلّقًا: "إنّ القوّة التكنولوجية ليست الحلّ، فمع كل الاحترام للتكنولوجيا الإسرائيلية، ليس واضحًا إذا ما كان "معطف الريح" سيحلّ المشكلة نهائيًّا. ودلّت التجربة على أنّ الصواريخ ستنحرف في نهاية المطاف" . ويعتقد شيلح أن الحلّ الجدّي يكمن "في الخطط القتاليّة الذكيّة، وخبرة الطواقم التي تقود الدبابات وقدرتها على التحمّل. في هذه الحالة، مهنيّة الجيش تحسم الموضوع أكثر من التكنولوجيا" . يشير تعليق الخبير عوفر شيلح إلى تراجع واضح عن حماسته لفكرة "الجيش الصغير الذكيّ" التي تبلورت، في الأساس، على خلفيّة القفزة التكنوليجية التي ميّزت نهاية الألفية الثانية.
أمّا المعضلة الثانية، فتمثّلت بالقصف الصاروخي، وهي أشدّ وطأة على الكيان الصهيوني، حيث أمطرت المقاومة عمقه بالصواريخ ذات الآماد المتعدّدة، فشلّت مناطق حيوية منه طوال أيام الحرب. هذا وقد نجحت إسرائيل في نقل الصراع إلى العمق اللبناني، لكنّها فشلت في تحييد عمقها عن تداعياته، فسقط مركّب ثانٍ من مركّبات عقيدته الأمنية، المتمثّل بتحييد الداخل وحصر النار بأرض الخصم.
حاول الجيش الإسرائيلي، في إبّان القتال، معالجة مسألة الصواريخ بواسطة سلاح الجوّ الذي نشط في ظروف مؤاتية للغاية، حيث لا طائرات معادية أو دفاع جوّي يحدّان من مناوراته في السماء اللبنانية. وقد حقّق نجاحًا مقبولًا قبالة الصواريخ البعيدة المدى، المحمولة على قاطرات، نظرًا إلى ثقل حركتها وصعوبة إخفائها، في حين سجّل عجزًا كاملًا تجاه منصّات الكاتيوشا ومثيلاتها من الصواريخ القصيرة المدى القادرة على رمي صلياتها، والاختباء قبل وصول الطائرات الإسرائيلية.عقب أخيل
هذا التهديد المستجدّ، دفع بالكيان الصهيوني إلى تسريع وتيرة تأمين نظام حماية طبقي ضدّ الصواريخ المنحنية بكلّ أنواعها. وكان قد باشر، منذ مطلع الألفية الثالثة، العمل على إنجازه، بعد تزايد خطرها، وتركيز أعدائه، دولًا وحركات مقاومة، على اقتنائها. والعام 2010، استكملت شركة "رفائيل" إنتاج منظومة القبّة الحديدية، المخصّصة لإسقاط صواريخ مداها دون الـ 70 كلم. وقرّرت القيادة الإسرائيلية نشر عشرين منظومة منها، قبل حلول العام 2013، لاستكمال بناء قوس الاعتراض الصاروخي، فوق المناطق والمنشآت الحيوية، المدنية والعسكرية من الكيان.
ويبدو أن المؤسسة العسكرية تتخوّف، جديًّا، من تحوّل منشآتها، ولا سيما قواعد سلاح الجوّ، ومقرّات الأركان والاستخبارات، ومراكز التعبئة والتجمّع إلى أهداف مغرية لقصف الخصم الصاروخي. هذا التخوّف يستند إلى أساس، فقادة المقاومة أكّدوا، مرارًا، نيتهم استهداف مثل هذه المنشآت وغيرها، من الأهداف الإسرائيلية. وبناءً عليه، تبلور مفهوم لدى العدو: "بأنّه إذا تمّ ضرب قواعد حيوية، ومناطق انتشار القوات العسكرية بواسطة الصواريخ الأكثر تقدّمًا ودقّةً، فإنّ هذا الأمر سيؤثّر على قدرة الجيش الإسرائيلي، وعلى تنفيذ خططه الهجومية بشكل حرّ ومستمرّ" . ولدرء هذه المخاطر، باشر العدو عمليًّا، بنشر منظومة القبّة الحديدية، فنصب أربع بطاريات منها في خراج مدن حيفا وأسدود وعسقلان ومستوطنة سديروت. وقد زعم أنّ بعضها اعترض صواريخ قادمة من قطاع غزّة، ونجح بإسقاطها. هذا الزعم لا ينسجم كثيرًا مع الوقائع الميدانية، فعلى أثر عملية إيلات الفدائية الاحترافية، قصف الطيران الإسرائيلي القطاع، فردّ الفلسطينيون بإطلاق عشرات الصواريخ على مدن ومستوطنات النقب الغربي من دون إسقاط أيّ منها.
يُدرك الإسرائيلي أنّ المخاطر التي تهدّد جبهته الداخلية تتخطّى الصواريخ القصيرة المدى التي ينحصر تأثيرها بضرب قشرة المستوطنات الحدودية فالمقاومة اللبنانية، عزّزت من ترسانتها كمًّا ونوعًا، وباتت تمتلك ذراعًا صاروخية تطال أيّ هدف على الخارطة الفلسطينية. وتكمن المعضلة الأكبر، في أن الخطر الصاروخي لم يعد يقتصر على المقاومة اللبنانية وحدها، بعدما أصبحت هذه الجبهة هدفًا إستراتيجيًا في مرمى تصويب كلّ أعداء الدولة العبرية. وباتت الصواريخ المنحنية بطرزها المتنوّعة، تحتلّ حيزًا كبيرًا من مساحة ترساناتهم الحربية. وبهدف تأمين الحماية من الصواريخ البالستية والبعيدة المدى، طلب باراك من الولايات المتحدة مدّ يد العون، لكون منظومة "العصا السحرية" وصاروخ "حيتس" المنتج إسرائيليًا، بدعم مالي وتقني أميركي، والمخصّص للتّعامل مع الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى، لا تزال في طور التصنيع والاختبارات العملانية.
وكانت واشنطن قد تعهّدت، في حال نشوب حرب شاملة، تنخرط فيها إيران أو سوريا، بإرسال منظومات "ثاد" و "أيجيس" و "باك – 3" المركونة فوق متن سفن الأسطولين الخامس والسادس إلى قبالة الشاطئ الفلسطيني. هذه الصواريخ تشكّل شبكة صدّ اعتراضية قادرة على التعامل مع أهداف معادية ضمن الارتفاعات كافة. في هذا السياق، تندرج سلسلة مناورات "جونيير كوبرا" المشتركة التي تقام دوريًا، بقصد التدرّب على دمج قدرات الاعتراض الصاروخي الأميركية والإسرائيلية، في أثناء الحرب، ضمن منظومة عمل واحدة، وتحت أمرة موحّدة. ولتعزيز قدرة الرصد والتعقّب لدى المنظومة الإسرائيلية، زوّدت واشنطن تل أبيب "رادارًا متطوّرًا من طراز AN-TRY-2، مع طاقمه المؤلّف من 120 جنديًا أميركيًا، وهو قادر على رصد الصواريخ المهاجمة خلال دقيقتين، كونه مربوطًا بشبكة الانذار المبكّر الأميركية، وتمّ نصبه في إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي بصحراء النقب" . هذا الارتقاء الاستراتيجي في العلاقة، نقل الدور الأميركي، من خانة الرعاية والدعم وتقديم الخبرات، إلى موقع المشاركة المباشرة في أيّ حرب إسرائيلية مقبلة.
ولأنّ الفوارق تلاشت، تقريبًا، بين الجبهتين الأمامية والداخلية، تجهدُ القيادة الإسرائيلية لتحضير الكيان، لحرب تنهمر فيها مئات الصواريخ يوميًا، قد يحمل بعضها رؤوسًا غير تقليدية. لهذا خضع خلال السنوات الخمس الفائتة للعديد من التدريبات والمناورات، أهمّها "نقاط التحوّل" التي تجري سنويًا، وتنخرط فيها كلّ أجهزة الدولة المدنية والعسكرية على المستويات كافة بهدف اختبار مدى كفاءتها بمواجهة حرب مربّعة الأضلاع، تشترك فيها إيران وسوريا والمقاومة في لبنان وقطاع غزّة. هذا فضلًا عن تجهيز الملاجئ والغرف المحصّنة، والتدريب على إجلاء المستوطنين إلى مناطق أكثر أمنًا. هذا الكمّ من التدريبات والتحضيرات والإجراءات، يدلّ على أهمية الجبهة الداخلية، التي تعدّ بمنزلة عقب أخيل في الإستراتيجية الإسرائيلية، لأنّه من دون حمايتها وتحصينها، من الصعوبة على العدو الاندفاع نحو حرب جديدة .
احتدام الجدل الداخلي
أثارت المعالجات التّقنية لمسألة القصف الصاروخي حفيظة بعض الجنرالات والخبراء الإسرائيليين الذين اعتبروها مضيعة للوقت، وهدرًا للمال لا طائل منه لاعتقادهم بأنّ المنظومات الإعتراضية، حتى لو برهنت عن نجاحاتها، لا تضمن توفير دفاع محكم السدّ، لأنّ اختراق عشرات الصواريخ، يكفي لتحقيق مبتغى الخصم الآيل إلى تعطيل دورة الحياة في المناطق المعرّضة للنيران، وإجبار مستوطنيها على الإخلاء أو الاختباء في الملاجئ. ويتقصّد الخصم إشعارهم بأنّ الحرب الدائرة على الجانب الآخر ليسوا بمنأى عن تأثيرها. ويقول الباحث الإسرائيلي العقيد رون تيرا: "إذا كان ضرب 60% من القدرات القذائفية لحزب الله، سيقلّل من عمليات إطلاقها على المؤخّرة الإسرائيلية من 250 قذيفة إلى 100 في اليوم الواحد، فهذا لن يغيّر من الجدوى الحربية / الإستراتيجية لحزب الله، الهادفة لشلّ الحياة في إسرائيل" .
في حين، قارب بعضهم المسألة من جانبها الاقتصادي، كون الحرب عبارة عن "اقتصاد مكثف"، وأعطى مثالًا، عن ثمن الصاروخ الاعتراضي للقبّة الحديدية البالغ حوالى 40 ألف دولار، وقارنه بالثمن الزهيد لصاروخ الكاتيوشا أو القسّام. وأجرى عملية حسابية بسيطة لحرب تدوم شهرًا فقط، تسقط فيها مئات الصواريخ يوميًا، فوجد أنّ كلفتها الباهظة، لا تتناسب، أبدًا، مع جدواها العملانية الخجولة.
هذا الأمر، دفع الخبير الإسرائيلي رؤوبين بدهستور للتساؤل متهكّمًا: "ما هو المنطق الكامن وراء إطلاق صاروخ كلفته 100 ألف دولار، لإسقاط ماسورة ثمنها عشرات الدولارات؟. وإذا نجح الصاروخ الاعتراضي بإصابة صاروخ القسّام، سيحوّله إلى شظايا، من شأن كلّ شظية منها أن تقتل" ، ما يعني، أنّه بالإمكان تحويل المبارزة بين الصاروخ والمنظومة الاعتراضية، إلى حرب استنزاف إقتصادية؛ فخلال يومَيْ 8 و 9 نيسان/ أبريل 2011 أطلقت المقاومة من قطاع غزّة عشرات الصواريخ وقذائف الهاون على مدن النقب ومستوطناته؛ "فنجحت المنظومة بإسقاط ثمانية صواريخ، بلغت كلفة إسقاطها 1,1 مليون دولار" ، أيّ تعدّت كلفة إسقاط الصاروخ الواحد المئة وثلاثين ألف دولار. وكبديل عن المنظومات الاعتراضية، إقترح الجنرال "يتسحاق بن يسرائيل" قائلًا: "يجب أن نصبّ جلّ اهتمامنا على إعداد الجيش الإسرائيلي لحسم الحرب بسرعة، وعندها يصبح تحصين الجبهة الداخلية غير ضروري" . هذا الكلام يحمل دعوة للعودة إلى المنهج الأوّل، منهج الهجوم البرّي الواسع، للسّيطرة على مناطق إطلاق الصواريخ وتدميرها.
يبدو أنّ القيادة العسكرية الإسرائيلية لم تغفل هذا الجانب في إطار إستراتيجية ثلاثية لمكافحة التهديد الصاروخي، قوامها: سلاح الجوّ، ومنظومات الاعتراض الصاروخي، والقوات البرّية، لخلق توازن بين مركّبات الدفاع والهجوم في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي. وبناءً على الدروس والعبر المستقاة من "حرب لبنان الثانية"، وتوصيات لجنة فينوغراد، لم تكتف القيادة الإسرائيلية بهذا القدر من الإجراءات، بل أقرّت جملة تدابير لمعالجة عيوب تلك الحرب، شملت إعادة النظر بالمراتب القيادية العليا، وأساليب التفكير، والتدريب والتسليح والمفاهيم القتالية . كما وضعت برنامج تدريب طموحًا، لتأهيل أذرعة الجيش المختلفة، ولا سيما البرّية منها، تماشيًا مع مفهوم جديد، "تايـﭭن"، اعتمدته الورشة الاركانية، صيف 2007، كبديل عن مفهوم "كيلع" الذي خيضت الحرب على أساسه، ولم يثبت فعاليته. أعاد "تايـﭭن" البريق إلى القوّات البرّية، فأُعيد تدريبها، وتعزّزت موازنتها، وتوسّع ملاكها، بعد إنشاء فرقة مدرّعة + لواء إنضمّا إليها. هذه مؤشرات تدلّ على طبيعة الحرب المقبلة، والحيّز الكبير المخصّص لقوى البرّ فيها، مع الحفاظ على مكانة سلاح الجوّ، كقوّة حاسمة، لا غنى عن دورها أبدًا، ليتناسق جناحا الحرب الخاطفة من جديد.
عودٌ على بدء
ينوي الإسرائيليون إدخال تعديلات على دور سلاح الجوّ في الحرب المقبلة، بحيث يكفّ عن هدر طاقاته بملاحقة الصواريخ الصغيرة، ويركّز على تنفيذ "عقيدة الضاحية"، بعد تعميم تجربتها. وقد صرّح بهذا الخصوص، قائد الجبهة الشمالية السابق الجنرال "غادي أيزنكوت"، لصحيفة يديعوت أحرونوت قائلًا: "إنّه يعتبر اصطياد مطلقي الصواريخ حماقة مطلقة، إذ عندما تكون آلاف الصواريخ في الجانب الآخر، لا يمكنك اصطيادها" .
وعن طبيعة الحرب المقبلة أكّد: "سنستخدم قوّة نيران غير متكافئة، ضدّ كلّ قرية تُطلق منها النار على إسرئيل، وسنلحق بها ضررًا ودمارًا هائلين" . وفي هذه المقابلة لم يخف تهديداته ضدّ الحكومة والجيش والبنى التحتية في لبنان. أمّا باراك فكان كلامه أكثر وضوحًا: "إذا اندلعت مواجهة في الشمال، سيتحوّل كلّ لبنان إلى هدفٍ" . وما لم يقله أيزنكوت وباراك، عن أسلوب جيش العدو في إدارة الحرب المقبلة، أفصح غابرييل سيبوني عنه: "بمقدور الجيش الإسرائيلي أنّ يستخدم القوّة النارية والمعركة البرّية معًا: ستكون مهمّة القوّة النارية توجيه ضربة عميقة مستمرّة تعزّز من الردع، بينما هدف القوات البرّية احتلال المنطقة التي يتمّ تشغيل وسائط إطلاق الصواريخ منها والسيطرة عليها سيطرة عملية".
يعزّز كلام سيبوني، وخبراء إسرائيليين آخرين، من اعتقادنا بأنّ الحرب الآتية، إذا حدثت، ستقوم على الجهد الجوّي بالتناسق مع عمل برّي واسع، لحسمها بأقصى سرعة ممكنة، لكي لا تتكرر تجربة "حرب لبنان الثانية". وتدل التحضيرات الجارية على المستويين الإستراتيجي والتكتي أن الجيش الإسرائيلي، وبالاستناد إلى مقولة "عود على بدء"، قد عاد أدراجه نحو استراتيجيته الأولى، أي الحرب الخاطفة. والدلالة البيّنة على ذلك، تصريحات قادته، وبرامج تدريباته وتطبيقاتها على مواقع و"قرى" جرى استحداثها في الأغوار الفلسطينية، شبيهة بقرى الجنوب اللبناني. هذا فضلًا عن تبنّيه مفهومًا قتاليًا، تايڤن، أعاد الروح إلى قواته المدرعة. وتظهر الاستعدادات الإسرائيلية ميلًا واضحًا لعودة متجددة إلى أسلوب المناورة على الأجنحة، والتطويق، والاندفاع باتجاه عمق الخصم ما يؤشر إلى سيناريو محتمل، أقرب إلى سيناريو اجتياح العام 1982، مع تعديلات تراعي اختلاف طبيعة الخصم، ومتغيرات مسرح العمليات. وفي تقدير افتراضي، يستوجب هذا السيناريو تنفيذ سلاح الجوّ المعادي، عند حلول ساعة الصفر، إغارات كثيفة على كل مواقع المقاومة المحتملة، المرصودة في بنك الأهداف الإسرائيلية. وتُعطى الأولوية لمهاجمة منصّات الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، للتقليل قدر الإمكان، من حجم النيران التي سوف تنهمر على العمق الإسرائيلي في إطار الرد المضاد للمقاومة. ولن تنتظر قوات العدو المدرّعة، وقتًا طويلًا لتبدأ تقدمها على المحاور الرئيسة، تحت غطاء نيران سلاحَيْ الجوّ والمدفعية الكثيفة، واضعةً مهمة احتلال البقعة الجغرافية التي يمكن إطلاق الصواريخ القصيرة المدى منها كهدف أوّلي لها. ومن المقدر أن تكون وستكون عمليات الإبرار الجوّي الكثيفة إحدى سمات الحرب.
هذا النوع من العمليات يهدف إلى إقامة رؤوس جسور للقوّات المهاجمة، وتقطيع الأوصال، والإمساك بالمرتفعات المشرفة، ومفارق الطرق الرئيسة، والاستيلاء على النقاط الحصينة، لإبعاد القصف الصاروخي، قدر الإمكان، عن العمق الإسرائيلي. لكنّ أي سيناريو من هذا النوع طموح ذو كلفة عالية، ودونه معوّقات كبرى، قياسًا على تجربة المواجهات البرّية صيف 2006. ويدرك الإسرائيلي أنّ توغّل فرقه المدرّعة في عمق الجنوب اللبناني، سيصطدم بقوى المقاومة ووحدات الجيش اللبناني المنتشرة في جنوب نهر الليطاني وشماله. ومن المؤكد أنّ هاتين القوّتين آخذتان بالاعتبار هذا السيناريو وغيره من خطط الحرب الإسرائيلية. وسنكتفي بهذا القدر، لأنّ الحرب الآتية، وسبل مواجهتها، ليستا موضوع بحثنا الآني.
الخاتمة
ما تقدّم، هو عرض لسيرورة مسار تدرّجي للجيش الإسرائيلي، يُبيّن باقتضاب، ما فعله خلال عقوده الستّة، وما شهدته بنيته التنظيمية والعقيدة من متغيّرات، شملت المستويات الثلاثة، التكتي والعملاني والإستراتيجي، وتفريعاتها المتشعّبة. هذه المتغيّرات كانت نتاج عوامل ذاتية وموضوعية، لها علاقة بخلاصات حروب الدولة العبرية، وحروب حلفائها أيضًا. وكذلك بالقفزات العلمية والتكنولوجية، وانعكاسها تطوّرًا في حقل صناعة أدوات القتال، بخاصّة منها وسائط النيران الدقيقة القادرة على تدمير العدو عن بعد.
إنّ القصد من الإضاءة على سيرورة الماضي، هو محاولة لقراءة صيرورة المستقبل، وما يخبئه من حروب أدمنت إسرائيل على التهديد بالشروع بها، ضدّ أعدائها، ولا سيما في لبنان. ويستوجب التنّبؤ بخبايا الغد، رصد سلوك العدو، وما يصدر من قول وفعل عنه. وكلاهما يشير، مذ توقّفت "حرب لبنان الثانية"، إلى رغبة جامحة لديه، بإشعال فتيلها مجدّدًا، لكن بشرط توافر الظروف الملائمة، لكي لا يصاب بالخيبة ثانيةً. لذا يجري الإسرائيلي حسابات دقيقة، تُقوّم عناصر الربح والخسارة الخاصّة بالحرب المحتملة، مضافًا إليها عنصرٌ مستجدٌّ، لا بدّ من أخذه بالاعتبار، ويتعلّق بالعصف الذي يلفّ بلاد الضادّ مغربًا ومشرقًا، مخلخلًا أسس النظام الرسمي العربي المتقادم. فالوضع الحالي بتعقيداته وتشعّباته، يُخرج حصرية قرار الحرب من أيدي الطرف المعني مباشرة، لأنّه في ظلّ الاضطراب الحاصل، يصعب حصر نيرانها بجبهة محدّدة، ومنع انتشارها لتشمل المدى الاقليمي برمته.
إنّ العنصر المستجدّ، وعلى الأخصّ ما يحدث في مصر وسوريا، يحمل بالمنظور الإسرائيلي، نقاط سلب وإيجاب في آنٍ واحد. وقد تمثّلت نقطة السلب بحدوث الثورة المصرية التي أطاحت نظامًا، أقام شراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة، وقدّم في العقد الأخير، خدمات جلّى، في مجالات شتّى، للأمن القومي الإسرائيلي. وبانت تباشير المتغيّر المصري، ومردودها السلبي على الكيان الصهيوني، حين أحجمت حكومته عن تنفيذ عقاب برّي ضدّ قطاع غزّة، كردّ على عملية إيلات، خشية تثوير الجمهور المصري، المطالب أصلًا، بطرد السفير الإسرائيلي، وإعادة النظر باتفاقيات كمب ديفيد، إضافة إلى تصنيف القيادة العسكرية الإسرائيلية للجبهة الجنوبية مع مصر، جبهة "محايدة" حتى الآن، بعد أن كانت صديقة في عهد مبارك. في المقابل تمثّلت نقطة الإيجاب، إسرائيليًا، بأحداث سوريا الآيلة إلى إنهاكها وإضعافها، كونها تشكّل حبل السرّة الرابط بين مكوّنات ما يعرف بمحور الممانعة، المناهض للمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة. وإنّ أيّ تغيّر سلبي في دور سوريا، سوف يقلّل من قدرات هذا المحور، ويؤثّر على مجمل عملية الصراع مع العدو الإسرائيلي.
أخيرًا، يشير متن بحثنا، إلى أنّ حرب لبنان الثانية وتداعياتها، كانت المؤثر الأول في استعادة الجيش الإسرائيلي لإستراتيجية الحرب الخاطفة. وهي استعادةٌ تبرز وجهين في آن واحد، أحدهما ينمُّ عن مرونة تميّز بها هذا الجيش الإسرائيلي، وأخرى تظهر شيئًا من التخبّط والبلبلة، جعلته يستدير إلى الخلف. أمّا السؤال عن مدى صوابية العودة أو عدمها، فيبقى الحكم النهائي عليها، رهنًا بنتائج حرب "ثأرية"، يعمل العدو، بلا كلل، لاستكمال عدّتها، وتوفير عناصر نجاحها الميداني.
-------------
الكاتب : محمد خواجه